د. #سربست نبي#
يقول المفكر المصري الراحل، سمير أمين، إن ربيع الثورات العربية تحوّل إلى ربيع للحركات الدينية-الإسلامية. هذا الكلام وإن كان ينطوي على تشاؤم ما، إلا أنه لا يخلو من أساس واقعي وصحيح. إلا أنه يمكننا ترجمة هذا الموقف في الأسئلة التالية: لماذا تمظهر الرفض السياسي الراهن لدى الشعوب العربية كرفض ديني ومذهبي للاستبداد القائم؟ لماذا اتخذت هذه التحولات السياسية الواقعية التي عصفت بالنظم العربية شكلاً دينياً مدججاً بالأيديولوجيات الدينية؟ لماذا من بين عشرات الأيديولوجيات والنظريات السياسية والفلسفات الحديثة التي تملأ بطون الكتب والأكثر توائماً مع روح العصر وانسجاماً، وحدها الأيديولوجية الدينية في صيغتها المذهبية الإسلامية كتب لها الرواج والهيمنة على الوعي الرافض للطغيان في المجتمعات العربية التي هبّت ضد الاستبداد؟
في منتصف آذار عام 2011 خرجت نخبة شجاعة وطموحة من شباب سوريا يطالبون بالتغيير الديمقراطي. تظاهروا في قلب العاصمة. كان هؤلاء يمثلون معظم شرائح المجتمع السوري المدني، وتتنوع انتماءاتهم السياسية بين اليساري والليبرالي والقومي. وفي النهاية تمكنت قوات القمع النظامي من تبديد هذه الحركة الاحتجاجية السريعة كالبرق، واعتقال نشطائها، إلا أنها شكّلت بداية لتحول دراماتيكي تاريخي في سوريا لم تتضح نتائجه بعد.
وفي هذا الوقت كان الإسلاميون وتيارهم السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين يتفاوضون مع النظام سرّاً عبر الوسيط التركي. لم يكونوا متحمسين في هذا الوقت للاحتجاج ضد النظام، إنما كانوا يراهنون على المصالحة والشراكة معه في حكم دمشق. ومع هذا واصل السوريون رفضهم للنظام واستمروا في الاحتجاجات طوال تلك الفترة.
وفي نهاية المطاف وبعد ثلاثة شهور من انتفاضة الشعب السوري ضد استبداد الأسد لم يجد الإخوان، وتيّارات إسلامية أخرى، بدّاً من الانخراط في الثورة بعد تيقنهم أن السوريين قد أحرقوا جميع المراكب وراءهم، وأنهم عازمون على إسقاط النظام. وبعد أن أوعز لهم راعيهم التركي، حين شرع بفسخ علاقاته الحميمية مع نظام الأسد، بضرورة الانخراط في النزاع والمشاركة. غير أن الإخوان المتأسلمين لم يرتضوا لأنفسهم دور الشريك فحسب، إنما وضعوا نصب أعينهم هدف الاستيلاء على الثورة ماديّاً ورمزياً، وطبعها بطابعهم الأيديولوجي الخاص. وهنا بدأت عملية “القرصنة” الكبرى للثورة. وهذه الغاية كانت تتسق تماماً مع المزاعم التي روّج لها النظام حتى هذا الوقت عن حركة الاحتجاج بوصفها حركة طائفية متطرفة.
ولا ريب في أن معظم تسميات الجُمَع “الدينية” التي أطلقتها جهة واحدة مهيمنة احتكرت لسان الثورة فيما بعد، قد خدمت النظام أكثر من أي شيء آخر، فبدلاً من أن تستقطب السوريين حول مطالب الثورة في الديمقراطية والمساواة وتحقق وحدتهم السياسية، أثارت المخاوف والظنون لدى شرائح واسعة وخلقت انقساماً واستقطاباً في المجتمع السوري لمصلحة النظام. إن أزمة تسميات “الجُمع” التي استأثرت بها صفحة “الثورة السورية” حينها وأخذت تفرضها ضمن شروط وخيارات محدودة من قبيل جمعة “العشائر، وخالد بن الوليد، والله أكبر، ومن جهّز غازياً في سبيل الله فقد غزا….إلخ” كانت تعكس بؤساً سياسياً وتاريخياً عميقاً في الوعي لدى هؤلاء. ومثل تلك التسميات كانت تخلو تماماً من أية قيم وطنية جامعة ومشتركة وحديثة، ناهيكم عن أنها لم تخدم سياق توحيد قوى الشارع الوطني في مواجهة الاستبداد الدموي.
هكذا سعى هؤلاء إلى اختزال الصراع السياسي في سورية إلى ثقافي وطائفي، وكان الهدف منه التضليل وتجاهل الأزمة البنيوية لنظام الاستبداد، والتمهيد لتأسيس استبداد ديني وطائفي من نوع آخر. وهذا ما أراده الطرفان، النظام من جهة والمعارضة الطائفية من جهة أخرى. وهنا يكمن الخطأ التاريخي الفادح في المنطق السياسي للمعارضة ومنذ اليوم الذي جعلت من هدف إسقاط نظام بشار الأسد هدفاً رئيساً لها، دون الاهتمام بضرورة تغيير بنية النظام الاستبدادي.
وهذا ما أظهر الصراع وكأنه صراع طائفي على مواقع النفوذ داخل البلاد. عزز هذا الانطباع الطرفان المتصارعان، اللذان اتخذا من السلاح وسيلة وحيدة للوصول إلى أهدافهما دون الاكتراث بنتائجه المدمرة على الصعيد المجتمعي والإنساني.
والحال أنه ما إن قرصن الإخوان المسلمون والعديد من الجهات السياسية، التي انساقت معهم ومع المشروع التركي، انتفاضة الشعب السوري، واستأثرت بتضحياته، واستعارت لسانه، ونصبت من نفسها ناطقة وحيدة باسمه، شرعت مذّاك بفرض رموزها السياسية والمعتقدية-المذهبية على هذا الحراك التاريخي. ما أثار المخاوف المضمرة لدى الهويات الثقافية والدينية المختلفة معها وعمّق من الارتياب بنوايا هؤلاء الحقيقية، وبالنتيجة نشأ صدع عميق في جبهة الرفض للاستبداد وبدت ملامحه واضحة حتى الآن.
وبموازاة ذلك، طغت العاطفة الدينية والإيمانية، والعقائد والمبادئ والشعارات المقدسة على مظاهر الاحتجاج الشامل الذي شهدته المدن السورية المنتفضة. وبدا جليّاً أن الناس في تعبيرهم عن سخطهم على الواقع السياسي كانوا ينساقون بسهولة مع الشعارات الدينية المقدسة ومفاهيم الإيمان أكثر من القيم السياسية الحديثة والصريحة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة. بل وحتى في تلك الحالات التي كانوا يلجؤون فيها إلى التعبير عن مطالبهم السياسية الحديثة مثل المساواة، والحق، والديمقراطية، والمدنية، إنما كانوا يتعاطون معها بمعزل عن سياقاتها الفلسفية الحديثة المرجعية، وبالمقابل كانوا يحيلونها إلى دلالاتها الدينية. وبدا أن الشعب السوري الثائر ضد القهر واغتصاب السلطة إنما يتحرك في ميدان الإيمان الخالص، في الوقت الذي كان فيه بالفعل يصنع تاريخياً جديداً لنفسه، لا يمتّ إلى أزمنة القداسة بشيء، ولا يكترث لأيّ قيمة مقدسة كما اتضح تالياً.
وفي كل الأحوال حين تغدو العاطفة الدينية مركباً أساسياً للأيديولوجية السياسية وشكلاً لها، مثلما هو الحال لدى الجمهور العربي الثائر، فإن هذه العاطفة تغدو عاطفة دنيوية ذات جذر أرضي/إنساني عميق. إذ تحرّض وتخاطب، تبرر دور الذوات التاريخية الفاعلة، وتلبي مستلزمات رغبتها في الصراع والمقاومة، وتعبر عن رفضها للبؤس والتمزق الدنيوي. وضمن هذا الأفق العملي يمكن أن نفهم حاجة الناس إلى الدين واستلهام رموزهم في التعبير عن رفضهم.
وبعد عقد من الانتفاضة السورية، التي تبدو الآن كتراجيديا عبثية وتاريخية، كان مئات الآلاف من الضحايا المدنيين والملايين من المهجرين والمشردين، وفشل الجهود الأممية، وفي ظلّ تدهور اقتصادي وبؤس عام يتفاقم في كل أنحاء سوريا، يبدو أن اليأس من حلّ ما يتخطى هذا المأزق الدموي بات هو الشعور السائد لدى جميع المراقبين. ولا يلوح في الأفق سوى صراع دموي مستمر لا نهاية له، دون أن يمحق أيّ طرف من أطراف النزاع الآخر. فهل يمكن النظر إلى هذا المظهر الديني للاحتجاجات أو الإيمان الديني والطائفي، الذي طغى على الاحتجاجات في سوريا كسهو تاريخي، أو نتاج تخلّف الوعي المجتمعي بالتاريخ؟ أم يمكن النظر إليه كمكيدة تاريخية وسياسية تضافرت مع ما سبق؟
الموقف الآن- بعد عقد من الانتفاضة وتحولها إلى نزاع أهلي دامي- لم يعد في بدايته ونهايته متمثلاً في أزمة النظام المستبد في سوريا وحسب، إنما أيضاً أصبح يتمثل في أزمة المعارضة السورية، التي تتقاسم مع النظام جزءاً كبيراً من المسؤولية إزاء ضحايا الشعب السوري. سواء بسبب غرورها، أو عنجهيتها، أو بسبب قصور خطابها السياسي، أو ضيق أفقها، وحتى انتهازيتها السياسية وارتزاقها لدى الأطراف الإقليمية.[1]