$دراسات في التاريخ الكردي القديم ( الحلقة 5 )$
ما هي حقيقة أصل الكرد؟
لمعرفة حقيقة أصل الكرد لا بد لنا من تجاوز الروايات الساذجة المنقولة جهلاً، والروايات الملفَّقة المدسوسة عمداً، ولا بد من الغوص في أعماق التاريخ، والعودة إلى ما قبل أربعة آلاف عام، فهناك يوجد رأس الخيط الذي نحتاجه لمعرفة الحقيقة.
انتشار الشعوب الآرية:
يذكر المختصون في التاريخ البشري أن الشعوب الهندو- أوربية (الآرية) كانت تقيم في المناطق الواقعة شرقي بحر قَزْوين وشماليه حوالي (2500 ق.م)، وهناك استأنسوا الحصان، واقتنوا المواشي، وبدأت طلائع هجراتهم حوالي عام (2000 ق.م)، لأسباب تتعلق بالجفاف، أو بالصراعات الداخلية، أو نتيجة لغزو جيرانهم الطورانيين لبلادهم .
وقد قام فرعان من الهندو- أوربيين بالهجرة:
• الفرع الأول: دار حول البحر الأسود، ونزل في البلقان، واللِّيرِيُّون (ينتمي إليهم سكان مَكَدُونيا وأَلْبانيا) أبرز أقسام هذا الفرع، وقد دفعوا أمامهم التِّراقيين والفِرِيجِيين والمِيسينيين إلى آسيا الصغرى، فانقضّ هؤلاء على الحثيين، وأزالوا دولتهم حوالي سنة (1200 ق.م)، وتشكّلت منهم في النهاية دولة فريجيا، ثم حلّت دولة ليديا محل فريجيا. كما أن قسماً من هذا الفرع ركب السفن، واجتاز البحر الأبيض المتوسط، ونزل في شمالي إفريقيا، وقد يكون شعب الأمازيغ (البربر) من أحفاد ذلك الفرع؛ لأن ملامحهم الإثنية هندو- أوربية بشكل واضح .
• والفرع الثاني: دار حول بحر قزوين، واجتاز جبال قوقاز (قَفْقاس)، واستقر في أعالي الفرات، وهم الميتّانيون (من أبرز أجداد الكرد القدماء). وفي فترات لاحقة توجّه قسم من هذا الفرع شرقاً عبر المرتفعات الإيرانية، واستقر في الهند، ومن كتبهم المقدسة بالسِّنْسِكريتية (الڤِيدا). واستقر فرع آخر في بلاد إيران، وكان شعبا ماد (ميد/ماداي) Madai وبارس (فارس) Pursua من هذا الفرع، واستقر الميد في جنوب شرقي بحيرة أُورميا، واستقر الفرس في الجنوب الغربي منها، ثم انحدروا نحو جنوب غربي إيران الحالية، وكان الميد والفرس بداة، يربّون الماشية، ويُحسنون تربية الجياد، ويجيدون ركوبها واستخدامها في الحروب .
وجاء اسم الفُرس في حوليات الملك الآشوري شلمناصّر الثالث سنة (844 ق.م)، وورد اسم الميد فيها سنة (836 ق.م)، ولا يعني هذا بالضرورة أن الفرس أتوا قبل الميد. ويذكر المؤرخون أنه لا يمكن تأكيد أن الاسمين الواردين في الأخبار الآشورية هما اسمان قوميان، ويرجّحون أنهما اسمان جغرافيان، ويؤكدون في الوقت نفسه التشابهَ بين اللغة الميدية واللغة الكردية .
وكان أبناء الفروع الهندو- أوربية (الآرية) يتكلمون لغة واحدة عندما كانوا لا يزالون شعباً واحداً، ثم تباعدت لهجاتهم بتباعد الأماكن التي هاجروا إليها، والدليل على ذلك هو التشابه بين كثير من المفردات في لغات الشعوب الآرية المعاصرة، إضافة إلى التشابه في كثير من القواعد الصرفية والنحوية، وفي الصيغ التعبيرية.
نشأة الأمّة الكردية:
بطبيعة الحال لم تحصل هجرات الشعوب الآرية دفعة واحدة، وإنما كانت تحدث على مراحل متتابعة، وهذا ما حدث للقبائل والفروع التي استقرّت في جبال زاغروس والمناطق المحيطة بها (مهد الشعب الكردي)، وكان الميد آخر تلك الفروع المهاجرة، واستطاع هذا الفرع، من خلال إقامة دولة لمدة تزيد عن قرن من الزمان، توحيد تلك القبائل والفروع تحت رايتها، وإنشاء تكوين إثنولوجي وحضاري متجانس واحد، يُعَدّ الأصل الإثنولوجي والحضاري للشعب الكردي. ويؤكد مينورسكي قدوم الكرد من الشرق مع الموجة الآرية الأولى، فيقول:
“عرف الجغرافيون الإغريق (سترابو، بتوليمي، وآخرون) في أوائل القرون الميلادية بصورة جيدة مناطقَ (كوردوئين)، وكانت هناك مدينة صغيرة تسمّى (بيناك)، وهي لا تزال قائمة على نهر دجلة، ويسمونها (فَنَك) Fanak. ويمكننا الآن أن نَعقد مقارنة بين كلمة (كوردوئين) وكلمة (كورجيا= بلاد الكرد) المذكورة من قبل الأرمن الأرشاكيين، والتي كانت تمتدّ من سَلَماس، وعبْر الأقسام الجنوبية من هكّاري، ثم إلى الغرب حتى بُوتان” .
ويذكر العالم تورو دانجين أنه اطّلع في المجلة الآشورلوجية على لوحتين أثريتين، دُوّنت عليهما نقوش وكتابات يرجع تاريخها إلى ألفي سنة قبل الميلاد، مفادها أنه كان هناك إقليم يدعى (كار- داكا) بالقرب من جنوبي بحيرة (وان).
وأما المؤرخ اليوناني أكسنوفان، قائد المرتزقة العشرة الآلاف العائدين من بلاد فارس سنة (400 – 401 ق.م)، فقد ذكر الشعب الكُوردوخي (الكُوردوكي)، قائلاً بأن موطنهم يمتد من إقليم بُوهتان (بُوختان= بُوتان)، وأنهم لم يكونوا خاضعين لا للفرس ولا للأرمن، ومنذ ذلك الوقت نجد هذا الاسم مذكوراً دائماً مع هذه المنطقة التي تقع على الضفة اليسرى لنهر دجلة في أطراف جبل (جُودي)، وأطلق المؤرخون عليها اسم (كوردوئين).
وفي مطلع القرن الأول الميلادي استولى الملك الأرمني دِيگْران الثاني المعروف بديگران العظيم (حكم بين سنتي 94 – 69 ق.م) على بلاد كوردوئين، وقَتل ملكَها زاربيونيس، وبنى فيها عاصمته الجديدة (ديگْرانا كيرْتا) وهي ميّافارقين (فارقين حالياً)، وفي سنة (115 م) كان ملك الكوردوئين يسمى مانياروس، وكان إقليم كوردوئين خاضعاً للأرمن اسمياً .
وعُرفت تلك المنطقة في اللغة الآرامية باسم (حوض كاردو)، وهذا تحريف واضح لكلمة (كُردو)، وعُرفت عند الأرمن باسم (كوردوز)، وعُرفت عند المؤرخين المسلمين، مثل البَلاذُري (ت 279 ﮪ) والطَّبَري (ت 310 ﮪ) وابن الأَثِير (ت 630 ﮪ)، باسم (بَقَرْدى Bakarda)، واقتبس المؤرخون المسلمون هذا الاسم من المصادر السريانية، إذ يذكر جرجيس فتح الله في كتابه (يقظة الكرد) أن المسيحيين في كردستان ما زالوا يطلقون اسم (قَرْدايا) أو(قَرْذايا) على الكرد بالسريانية، ثم اندثر اسم باكاردا (بَقَرْدى)، وحلّ محلّه في الكتب العربية الإسلامية اسم (جزيرة ابن عُمَر) تارة و (بُوهتان) تارة أخرى.
ويُفهَم من أقوال المختصين أن لفظ (كُورْدُوَا) أُطلق فترة طويلة على الجبال التي بين ديار بكر (آمِد) ومُوش في شمالي كردستان (جنوب شرقي تركيا حالياً)، ويذكر الكردولوجي الشهير باسيلي نيكيتين أن لفظة (كاردو) تتماثل مع ألفاظ سامية، وبخاصة في الأكّادية والآشورية، وتعني (قومي، بطل)، وأن كلمة (كاردوا) تعني: يصبح بطلاً .
وعُرفت المناطق الجنوبية الغربية من كردستان باسم (جزيرة أَقُور)؛ يقول ياقوت الحموي (ت 626 ﮪ) في (معجم البلدان):
“جزيرة أَقُور هي التي بين دِجلة والفرات مجاورةٌ لبلاد الشام، تشتمل على ديار مُضَر وديار بكر، وسُمّيت الجزيرةَ لأنها بين دجلة والفرات، وهي صحيحة الهواء، جيّدة الرَّيع والنَّماء، واسعة الخيرات، بها مدنٌ جليلة، وحصون وقلاع كثيرة، ومن أُمّﮪات مدنها حَرّان، والرُّها، والرَّقّة، ورأس عَين، ونَصِيبِين، وسِنْجار، والخابور، ومارْدين، وآمِد، وميّافارقين، والمَوْصل، وغير ذلك” .
وصفوة القول أن الكرد هم أحفاد الأقوام الزاغروسية التي كانت تسكن كردستان منذ ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد (لولو، گوتي، سوباري)، ثم انضمّ إليهم الآريون، وأبرزهم كاشّو، وحوري/ميتّاني، وخَلْدي (نايْري = أورارتي)، وميد، وامتزج هؤلاء بالزاغروسيين الأصلاء، ونشأ من اندماجهم معاً تكوين زاغروس-آري جديد، تمازجت فيها الخصائص الإثنولوجية والثقافية، وأنجبت الأمة الكردية.
اسم الكرد في المصادر القديمة:
لقد مرّ ما ذكره أرشاك سافراستيان حول أن اسم (كُرْد) Kurd ظهر بالفهلوية على شكل (كورد) أو (كوردان)، مع الأخذ بالحِسبان أن اللاحقة (ان) هي صيغة جمع الأسماء في الكردية، وذكر سافراستيان أيضاً أن مؤسس المملكة الساسانية الفارسية أردشير بابكان يذكر في سنة (226 م) بين خصومه اسم ماديج Madig ملك الكردان (الكرد)، ونورد فيما يلي الأسماء التي عُرف بها الكرد عند الشعوب المجاورة:
• عُرفوا عند السومريين باسم (كُوتي – جُوت – جُودي).
• وورد اسمهم في الكتابات العيلامية بصيغة (كُورْتَش Kurtash). وأحياناً كان كورتش يسمى (آدم)، وكان ﮪذا الاسم (آدم) يطلق في المجتمع البابلي على الشخص الواحد من الأحرار.
• وعرفوا عند الآشوريين والآراميين باسم (كوتي – كورتي – كارتي – كاردو – كارداكا – كاردان – كاركتان – كارداك).
• وعند الفرس باسم (كورتش – كارا – كورتيوي – سيرتي).
• وعند اليونان والرومان باسم (كاردوسوي – كاردوخي – كاردوك – كردوكي – كاردوكاي).
• وعند الأرمن باسم (كوردوئين – كورجيخ – كورتيخ – كرخي – كورخي).
• وعند العرب باسم (كردي – كاردوي – باكاردا – كارتاويه – جوردي – جودي) .
وبقي أن نشير إلى أننا اعتمدنا صيغة (كُرد) بدل صيغة (أكراد)، – وهي شائعة في المصادر العربية القديمة والمعاصرة- لأسباب ثلاثة:
• الأول أنك لوسألت أية مجموعة كردية باللغة الكردية: من أنتم؟ يكون الجواب بالكردية: نحن (كُرْد)، Em kurdin، ولا يقولون: (نحن أكراد) Em ekradin.
• الثاني أن صيغة (كرد) هي الواردة في الفهلوية، وما صيغة (كُرْدان) إلا جمع للمفرد، وما زال الأمر نفسه قائماً في الكردية والفارسية إلى هذا اليوم.
• الثالث أن صيغة (كرد) هي الأقرب إلى جميع الصيغ التي أوردها أرشاك سافراستيان، والمذكورة قبل قليل، ولم ترد صيغة (أكراد) فيها مطلقاً.
ونعتقد أن صيغة (كرد) هي التي وردت في المصادر الفارسية التي اطلع عليها الباحثون العرب الأوائل، أما صيغة (أكراد) فنشأت في الإسلام، وهي منحوتة على وزن (أعراب)، ولا سيما أن قسماً كبيراً من الكرد كانوا يقتنون الماشية، وكان التصوّر العربي العام حينذاك عن الكرد أنهم بداة، وهذا واضح في إشارات الجاحظ وغيره إلى الكرد.
=KTML_Bold=الهوامش:=KTML_End=
– بونغارد ليفين: الجديد حول الشرق القديم، ص 262.
– وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، 1/84.
– أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم، ص 209 – 210.
-جيمس هنري برستد: انتصار الحضارة، ص 245.
– مينورسكي: الأكراد، ص 22 – 23.
– باسيلي نيكيتين: الكرد، ص 47 – 48. مروان المدوّر: الأرمن عير التاريخ، ص 152.
– باسيلي نيكيتين: الكرد، هامش (3)، ص 45. جرجيس فتح الله: يقظة الكرد، ص 566.
– ياقوت الحموي: معجم البلدان، 2/134.
– دياكونوف: ميديا، ص 304، 306، 308، 311.[1]