غالباً ما آثر الأكراد غناءَ ملاحم أبطالهم، وما سُمعت في المجالس بأصوات مغنّين حفظوها عن مغنّين آخرين. ثمّة عناصر متعدّدة للإرث الذي تركه هؤلاء المغنّون، يقول الروائي الكردي محمد أوزون، أولها الرغبة الإنسانية الخالدة في مشاركة متعة الغناء، رغم الفقر المدقع والواقع السياسي والاجتماعي في مناطق الأكراد عموماً. وثانيها، يضيف أوزون، أن الأغاني هي المصدر الأغنى والأكثر دقّة للمفردات الكردية الأصيلة.
في بلاد كانت اللغة الكردية ممنوعةً لعقود، استطاع مغنّون مثل آبي قادو، عفدالي زنكي، رفعتي داري، أحمدي فرماني كيكي، علي خان (الذي قضى 35 عاماً في سجن ديار بكر يغني للسجناء كل ليلة)، أن يحفظوا كمّاً هائلاً من المفردات والأمثال والحكايات الكرديّة التي كانت عرضةً للتلاشي.
واللافت أنّ معظم مغنّي الفولكلور الكردي من الفلاحين الفقراء؛ أشخاص لا يتمتّعون دائماً بنقاء الصوت، يدخّنون ويشربون كميّات هائلة من الشّاي، وليس لدى أيّ منهم فكرة أكاديميّة عن الغناء. كانوا يغنّون لأن هذه الحكايات يجب أن تُسمع. لأنها دائماً حكيمة ودائماً تمنح معنىً لوجود الكردي، قال علي خان ذات مرّة.
كان المغنّي يجلس في صدر الغرفة محاطاً بالكبار. أمامه إبريق الشّاي والمسبحة في يده. لا يفتح عينيه طوال الأغنية، ويبدو قصيَّاً وكأنه يغني لآخرين لا نراهم. بصوت قوي وعالٍ يملأ الليل. لأنّ طلقة البندقيّة لا تكفي لقتله، طعنوه ثلاث مرات في مكان الجرح، تقول الأغنية الكردية القديمة.
لا تختلف ملاحم الكُرد عموماً عن غيرها من الملاحم الشرقية في تناولها ثيمات الجسارة، النخوة، الشرف، الإباء، العزّة؛ لكن لعلها أكثر واقعيةً وأميَل إلى التّنوع. تنتهي ملاحم عليكي بتي وسليماني مستي وإيسكاني قاسم وغيرهم، بموتٍ بطولي وشجاعة نادرة تصطدم بشجاعة شخصية أخرى.
وهذا بالضبط ما يميّزها عن كثير من الملاحم الشرقية الشهيرة: لا ينفرد البطل بالبطولة، ولا يشكّل الشخصيّة الوحيدة التي تدور في فلكها الأحداث، ولا تفوق جسارتُه شجاعةَ الشخصيّات الأخرى.
لعلّ الميزة الأخرى التي لا نستطيع تجاهلها هي أنّ الحدود التي طالما فصلت الخير عن الشر في الكثير من الإرث الملحمي الشرقي، تختفي هنا. لا يفكر المغنّي ولا المستمع في تقييم موقف البطل أو خصمه، إذ تسيطر الحكاية نفسها، بما تحمله من تضارب في المواقف والآراء، على السياق الأخلاقي والشعوري للجمهور والمؤدّي.
سلطة الحكاية نفسها خلقت حالةً خاصّة في الإرث الشفاهي الكردي؛ هامشاً من الحريّة سمح بأن تكون فاطما صالح آغا ملحمةً تتردد في المجالس بالشغف ذاته الذي تُسرد وتُسمع به الملاحم الذكورية الأشهَر.
لا شك أنّ هذه المرأة التي هجرها حبيبها، بعد أن هربت معه، وتركها لمصير قاسٍ، شكّلت إحدى أكثر الشخصيّات فرادةً في الإرث الملحمي الشعبي الشرقي، بل يمكن القول إنّها الملحمة الوحيدة في منطقتنا التي تتبنّى صوتاً أنثوياً يسرد الحكاية في مناجاة شعريّة طويلة وآسرة.
تروي هذه المرأة حكايتها بنبرة يعلو فيها النّدب والندم. ندمٌ على اختيارها للحبيب وليس على حبّها نفسه، ليتقاطع هذا الموقف مع التخلّي المؤقت عن الاعتبارات الأخلاقيّة لصالح تكريس الحكاية وحدةً قائمة بذاتها بعيدةً عن التقليدي والمألوف.
لا بدّ من الإشارة، في هذا المقام، إلى نوع آخر غير شائع في النصّ الملحميّ الكرديّ، لكنه موجود، كما في حكاية رشيتو وغزالي التي تخالف بوضوح معظم الحكايات الكرديّة الشهيرة الأخرى، بدخول الكوميديا على الخط السردي. إذ يقلّنا المغني عبد الرزاقي جروا في رحلة المغامرات المضحكة والساذجة لرشيتو، للفوز بقلب محبوبته غزالي، فيصبح راعياً لأغنامها أو يتظاهر بالمرض. النهاية السعيدة هنا تتلاءم طبعاً مع حكايةٍ تُروى لتُضحِك.[1]