صدام الحضارات أم صراع الإمبراطوريات - الجزء الأول
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 7111 - #19-12-2021# - 10:22
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
انتبهت إلى أن مقالي (أمريكا، الإمبراطورية والحضارة، في موازين الثقة) لم يكن كافيا لتبيان الفاصل الجدلي بين المؤسسات التي تقام عليها أمريكا. وبالتالي استمر خلط العلاقة والرضوخ للتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية كإمبراطورية وعدم الثقة بها مع ما تقدمه مؤسساتها الحضارية من مساعدات إنسانية، وهذا التداخل أكثر ضبابي عند أغلبية شعبنا الكوردي وحراكه، على خلفية مسيرة طويلة من الإخفاقات مع القوى الكبرى المعنية بمنطقتنا.
لا شك الإشكالية معقدة تحتاج إلى دراسة عميقة وتوضيح لجدلية الخلاف بين القطبين، أمريكا وأوروبا الحضارة؛ وأمريكا الإمبراطورية، علما أننا كنا قد نوهنا في سياق المقال لمفهوم طرحه (هنتنغتون) قبل ثلاثة عقود تقريبا، وعلى ما كتبناه من مقالات في هذا المجال خلال العقد الماضي بعضها كانت تتضمن المفهوم بشكل مختصر، ولكن ولأن كتاب المفكر المذكور أسمه؛ ودراساته تحتضن عدة جدليات، أو لنقل ينتقل بين مفاهيم ومراحل عدة، دون أن يصل إلى حالة التوضيح الكامل لرؤيته؛ والتي كانت تناقضاتها قد أصبحت واضحة منذ الحرب العالمية الثانية إلى مرحلة الضجة التي رافقت جدليته، ولأسباب خمدت، ومع خمودها تبين وكأنه تخلى عن المفهوم، أو أن المفهوم خمد لغياب المنطق فيه، وهو ما حدَّ بنا العودة إلى الموضوع، لأهميته في تبيان إشكالية تنتشر بين حراكنا الكوردي بشكل خاطئ وتؤثر على علاقاتنا السياسية والدبلوماسية مع القوى الإقليمية والدولية، أو مواقفهم من قضيتنا على خلفية عدمية الثقة المنتشرة بيننا، والموضوع بكليته قد يكون ركيزة كتاب دون التأكيد على مرحلة أنجازه.
(صراع الحضارات) مفهوم خاطئ، ومقولة مركبة، عرضت كجدلية فكرية متناقضة في أسسها مع الواقع التاريخي ومسيرة البشرية، وبدراسة دقيقة لعلاقات الإمبراطوريات السائدة في القرنين الأخيرين مع الشعوب والدول تبين مدى صحة ما ذكرناه، رغم انتشارها وتشعبها طوال العقود الثلاثة الماضية، بعد نشر صاحبها (صاموئيل هنتنغتون) لمقاله المعنون ب (صدام الحضارات، The clash of civilizations) ودعمه للفكرة بعد سنتين تقريبا بكتاب تحت نفس العنوان، بمضمون وعناوين مثيرة لأجزائها، لكنه لم يوفق في الفصل بين الحضارة والإمبراطورية، وكأنه تقصد ولغايات في ذلك، رغم ما قدمه من تحليلات حول الحضارة والثقافة والإمبراطوريات السابقة، بل والأغرب أن ما يصفه ويحلله لا تدرج كمؤسسات حضارية بأغلبيتها، بل تميل في كثيره إلى عالم الإمبراطوريات وأفعالها، لذا فالبشرية أمام جدلية (صراع الإمبراطوريات) وليست الحضارات، وإقحام المؤسسات أو القوى الحضارية ببشائع قوى الحروب والتدمير معادلة خاطئة تعكس ضحالة إدراك تداخل مسارات التاريخ والثقافات والسياسة.
فدعمه لكتابه بدراسات ومحاضرات وحوارات في دول وجامعات عديدة، لم تؤدي إلى نتيجة مثمرة، رغم ما جرى من التضخيم والتأويلات للمفهوم، والذي أدى بالعديد من كتاب اللغة العربية بناء دراساتهم وبحوثهم وتهجمهم على عناوين فصوله، وخاصة مختصر الجزء الثاني والرابع من الكتاب قبل المضمون؛ دون الانتباه إلى الجدلية الخاطئة في المطروح، وعليه وردت معظمها تحت صيغ متشابهة وخاطئة كمفهوم: كصراع الحضارات في المفهوم الإسلامي، والإسلام وصراع الحضارات، الصراع الحضاري بين الغرب والإسلام، وغيرها العديد، ومثلها في معظم لغات العالم، وأوسعها باللغة الإنكليزية، ولكن التهجم الأقسى ظهر من الكتاب المسلمين على خلفية ما ذكرناه. والمنطقي هو أن توضع الإمبراطوريات مكان الحضارات، ويتم التركيز على الأولى عند عرض الصراعات وتعزل الثانية منها، فبينهما مسافات إنسانية وثقافية وفكرية، وسياسية واقتصادية واجتماعية، وهو ما لم ينتبه إليه اغلبيه الكتاب العرب أو المسلمون ربما على خلفية رد الفعل المتعصب حول مختصر الجزأين المذكورين.
وفي جلها تناسى معظم الكتاب والباحثون، أو لم يدركوا، جدلية الصراع بين الأديان كالإسلام والمسيحية وبين الإمبراطوريات التي سخرتهما لغاياتها، بل وكثيرا ما كانت تغيب الحدود الكارثية الفاصلة بين الحضارات والإمبراطوريات ليس فقط في دعم السلام أو خلق الحروب، بل في مدى تجهيل الشعوب وتسخير الأديان. وهذا الخلط، والجهل بالفواصل الواضحة بين القطبين، عند هنتنغتون ومعظم من ناقشوا كتابه أو نقدوه، حكم ساذج على التطور الثقافي البشري، وإهانة لإبداعات الإنسان على مر التاريخ.
فالصدام في عصرنا هذا مثلما هي منذ بدايات دول المدن، استمرارية لمنهجيات الملوك والأباطرة، وليست بين الثقافات أو الأيدولوجيات أو بين الأديان، صراع بين مصالح الإمبراطوريات التي تسخر شعوبها وما ذكرناه سابقاً كأدوات في حروبها، تستخدم الأديان مثلما تسخر طاقات أممها، وتفرض لغتها القومية وعملتها على الجغرافيات والشعوب الأخرى للتسييد وليس لتطوير الإنسانية.
ففي الحقول الحضارية الشعوب تقدم خدماتها وجهودها برغبتها لتنميتها وتطويرها، لكنها في ظل الإمبراطوريات تخضع للخدمة وتنفيذ الأوامر بدون إرادتها، وتستخدمهم الحكومات كوقود لمصالح الأنظمة المهيمنة، وهنا يكمن وجهي التناقض في رؤية هنتنغتون، ما بين الناس والشريحة المتحكمة بالنظام، فالخلط واضح، بين الذي يسخر الإنسان والدين واللغة والقيم والعادات، وحيث تكون الرعية كتل بريئة من هذه الأفعال، وبين أن تكون الرعية طامحة في التطور للحصول على السلام والعيش الرغيد بعيدا عن الحروب والصراعات.
فالحضارة، بغض النظر عن التعريف الكلاسيكي؛ على أنها تكوين متطور ومتكامل من الأنظمة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، فهي نتاج أعلى مستويات الفكر الإنساني، ومداركه في مرحلة ما من الزمن، تسخر للتنمية البشرية، وتلطيف الطبيعة، ورخاء الحياة، والعيش بسلام، وإنقاذ المجتمعات من العوز والفقر والجهل، وخلق التقارب بين الثقافات ومفاهيم الشعوب. تظهر من أجل ذلك منظمات ومؤسسات في مجالات حرية الفرد والشعوب، والقضاء على الاستغلال والعبودية، أي ما مجمله هي الارتقاء بالبشرية ومداركه وسويات معيشته.
ولتكون الحضارة متوازنة لا بد وأن يكون الجانب الروحي بمساواة الجانب المادي من التطور، والثانية هي المفضلة لدى قادة الأنظمة الإمبراطورية، وكثيرا ما تكون الأولى غطاء لبشاعاتها بحق الشعوب، مثلما فعلتها الإمبراطورية الرومانية عندما سادت المسيحية وتبنتها وعلى أثرها انقسمت، فأصبحت تغطي على حروبها المدمرة للشعوب تحت أغطيتها. وفعلتها الإمبراطورية الساسانية وتغطت تحت عباءة الزرادشتية إلى أن بلغت بحروبها الكارثية مع أتباع الديانة المزدكية إلى ضعفها ومن ثم إلى سهولة تدميرها من قبل القبائل العربية الغازية وبالتالي زوالها. ومثلهما الإمبراطورية العربية بكل مراحلها والإسلام، وهي التي شتتها إلى مذاهب، حسب متطلباتها، سادت مسيرتها مجازر يندى لها جبين الإنسانية جلها غطيت تحت عباءة الحروب من أجل رفع راية الإسلام، وفي الواقع كان صراع من أجل السلطة وديمومة الإمبراطورية. وفي العصر الجاري، حلت الإيديولوجيات مكان الأديان، وهو ما فعلته الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وحيث الشيوعية والنظام الديمقراطي – الرأسمالي، قبلهما مرت الإمبراطوريات الأوروبية بين المرحلتين، وسخروا المعادلتين لمصالحهم، لبست كل دولة مذهبها تحت عباءة المسيحية، لتنتقل فيما بعد إلى الديمقراطية الرأسمالية، إلى أن ضمرت كإمبراطورية عسكرية، وبدأت المؤسسات الحضارية تسود، مع استثناء لبقايا مخلفاتها، المؤدية إلى صراعات جانبية بين فينة وأخرى على قضية ما بين مؤسسات القطبين. وللعلم فإن جميع الأديان نشرت بحد السيف، أي أن الإمبراطوريات هي التي كانت من مصلحتها نشرهم، رغم نفي البعض لهذه الحقيقة...
يتبع...
[1]