كرونولوجيا المرأة وكينونتها 1
ليلى خالد (إدارة مشتركة في منتدى حلب الثقافي)
إن قضية المرأة وما آلت إليه عبر العصور من شتى أشكال الممارسات التي سعت لدفنها وكبت طاقاتها وإقصاءها من كل الميادين المجتمعية تعتبر من أكثر القضايا تعقيداً ويجب كشف النقاب عن تاريخ المرأة وتحليلها لإظهار الحقائق الدفينة التي تؤكد عظمة وأهمية دورها في بداية نشوء البشرية حتى الانقلاب الذكوري الذي مهَّد للهرمية، لذا تعتبر قضية المرأة من أعقد القضايا المجتمعية التي لم ولن تُحل دون تحليل صائب؛ فما آلت إليه عبر التاريخ وحتى الآن حرّفها عن جوهرها بعد تحريف مفهوم المساواة والحرية الجوهرية وهذه المصطلحات تحتاج إلى الغوص في سبر أغوار الماضي المندثر والارتقاء بالمرأة لعرشها الملكي وبالتالي تتويج المجتمع بتاج التشاركية في ظل العدالة والمساواة.
في أنطولوجيا المرأة الحاضر نشهد نهضة إنسانية وثورة حقيقية بريادة المرأة الكردية وهذا ما حثني ودعاني على كتابة مقالتي هذه رغم أني كتبت عدة مقالات أخرى تتطرق لقضية المرأة بكل جوانبها وإبراز دور أهمية الثنائية في الحياة الندية التشاركية والتركيز على أهم وأصغر نقاط الخلل التي تعيق من تحرر المرأة والمجتمع، لذا ألجأ دائماً للعلم والفلسفة في كتابة مقالاتي فبدون الإبحار والغوص في قيعان تاريخ الكون والطبيعة والإنسان لن نصل للحقيقة الصائبة التي نحتاجها نحن النسوة لمعرفة ذاتنا وتاريخنا وإلا فالضياع سيكون مصيرنا مرةً أخرى وهذه المرة سيكون السقوط نحو الهاوية أقوى وأفظع لذا ارتأيت في هذه المرة أن أتطرق لتاريخ وحقيقة المرأة وعلاقاتها بالثورات.
إن التطور الطبيعي العلمي الحاصل والذي وصل إليه عالمنا الحالي الهرم ماهي إلا ثمرة لديالكتيك الكون حيث نشأت أنواع مختلفة من المخلوقات، وكلما طرأت تغيرات بنيوية على عالمنا الذي لم يُكمل بعد ديناميكيته التطورية الداخلية بعد، وسجَّلت الكائنات الحيّة تقدّماً مستمراً، من بين هذه الأحياء التي تكاثرت وجددت نفسها باستمرار بفضل صراع الحياة الدائم والدائر إزاء الطبيعة البدائية في المجتمع الطبيعي كان النوع البشري من أكثر الأنواع المقاومة والمتقدمة نحو الأنسنة والتي عاشت في فترة الجماعات البدائية في مجموعات بشرية ومع تطور العقل وبلوغها مرحلة متقدمة واستخدام الوسائل والأدوات اللازمة للعيش أدت لحدوث قفزة نوعية في نوع الإنسان العاقل هوموسابيانس، تحقق الفهم والإدراك في تلك المرحلة والتي مهدت الطريق لنشوء البنية اللغوية الحالية حتى غدت الميزة الأساسية للثورة الاجتماعية المتطورة تجسدت في إدراك مدى سمو العيش على شكل جماعات. والكلانات شكلت الوحدات الأساسية ذات المركز الأمومي لمرحلة المجتمع البدائي وهي أول من أنشأت وطوّرت المجتمع، حينها كان الرجل يغوص في الحياة البدائية وتوالت اكتشافاتها والتي سُميت بالماءات المئة والأربعة (104) بالإضافة لخلقها للقوة الجماعية ليكون لها دوراً بارزاً وأساسياً في عملية أنسنة الإنسان والتي امتدت ما يقارب 4-5 مليون سنة، ومصدر التطور الحضاري يعود إلى تلك الحقبة ومنه إلى المجتمع النيوليتي التي كانت بريادة الأم الخصبة المولّدة للحضارات.
البحث عن مكامن الصراع تاريخياً والثورة المضادة
لكل ذرة مادة حالة وثورة تضاد وندّ لها وكما نشأت الطبيعة والحياة في اختلاف الثنائي علينا أيضاً استغلال ذلك والولوج إلى تركيبة جديدة.
إن الثورة المقامة بكثافة في ميزوبوتاميا في العهد النيوليتي آل إلى انتصار المرأة في هذه الأراضي ولتلك الثورة صلتها الوثيقة بتطلعات المرأة اليوم إلى الحرية وشغفها العميق بها، بَيْدَ أنَّ الحضارات بدأت تزدهر والحياة تتطور في مرحلة الاستقرار بعد انضمام الرجل للمجموعة الأمومية وكان للاستقرار الدور الأكبر في نشوء المجتمع وتنشيط الرغبة لدى الرجل في التأمل والمتابعة والتفكير والتحليل لما يدور حوله في الحياة من تناقضات إيجابية وسلبية ليدرك أنَّ تطور الحياة إيجابي، ولكن تمحوُر المجتمع حول المرأة كان سلبياً بالنسبة له، وهذا ما حثه على تحليل الواقع المعاش مع تقلبات الطبيعة، وكيفية إنبات الأرض واخضرارها بعد هطول الأمطار ومراقبته كيفية تزاوج الحيوانات أثناء اصطيادها وتدجينها ليصل إلى حقيقة وأهمية الثنائية والاختلاف الثنائي أي (أنَّه لا شيء ينبت ويحيا بدون الماء) وهذا كان تفسيره لواقعه الجنسي وهو في كنف المجتمع الأمومي ليدرك أن تركيبته البيولوجية لها الدور الأكبر في حمل المرأة واستمرارية الحياة فيتطور وعيه بشكل أكبر مع كشفه للمعادن (النحاس) وتطوير تصنيع أدوات الصراع والصيد ما زاده قوة وثبات ليبدأ الصراع الأساسي بين نظام المجتمع النيوليتي اللاطبقي والمتساوي والعادل والمفعم بلون المرأة وبين نظام المجتمع الطبقي المصبوغ بلون الرجل وطبائع الشدة والمنافسة وتصبح ثورة البطريركية في مواجهة حقيقة المطريركية، أي صدام عنيف بين ما هو قريب لجوهر الإنسان من حسن وعفة وما هو مخالف له من سوء ومكر وضغينة فردية، وامتدَّ هذا الصراع لفترة الألفي عام، ومع رقي الكهنة إلى مرتبة الآلهة أودى بالمرأة من أعلى الهرم إلى أسفله، وتطوَّر النظام الهرمي حتى تم خنقها لتظهر حالات فردية من نساء مقاومات لكن بانحراف فكري بيولوجي طبيعي تسعى لإرضاء ذهنية السلطة الهرمية، بمعنى آخر احترفت المرأة أسلوب التقليد والإرضاء والانتقام ولأول مرة يغرق الجنسين في قاع النزوات الشهوانية الحيوانية ويسود المجتمع الفوضوية والفسق والعهر وتجسد ذلك في ملحمة كلكامش ودور شمخات التي أغوت أنكيدو بالحياة المتمدنة بعيدة عن حياته الطبيعة في البراري، وفي أسطورة الأمازونيات بنات (آريس) إله الحرب بحسب الميثولوجيا الإغريقية كنّ محاربات ماهرات وشجاعات ينتمين إلى مجتمع تحكمه النساء فقط أما الرجال فلم يكن مُرحب بهم سوى بهدف التزاوج معهن لإنجاب المزيد من المحاربات، أما الذكور فكانوا يلاقون مصيراً مروعاً وهو الموت، وهذا كان بعيد كل البعد عن التركيبة البيولوجية للمرأة وطبيعتها العفيفة، واللوحات الأركولوجية شاهدة على حقيقة المجتمع الطبيعي.
سُبات المرأة عبر المراحل
عبر التاريخ البشري حظيت ثورة المرأة بمعاني تاريخية سامية في تطويرها لثورتها والحفاظ على كينونتها والنضال الدؤوب في سبيل الحرية اعتماداً على قوتها الذاتية بالدرجة الأولى وإرادتها الحرة والسير نحو خلاصها في نهاية المطاف، رغم تعدد وتنوع أشكال وسبل نسف هذه الإرادة واستعباد المرأة من قبل المجتمع الطبقي القائم والتي برزت مع الألفية الثالثة ق.م، حيث نلاحظ أن النظام البطريركي عامودي ويعتمد على رأس الهرم في بسط السلطة والهيمنة بينما النظام المطريركي أفقي يعتمد على التشاركية والعدالة والمساواة، لذا عاشت المرأة في ظل العهد الأبوي التشتت والضياع وتجرعت الألم عبر المراحل التي عبّرت منها المجتمعات ففي المجتمع العبودي تحولت الصراعات والنزاعات المُسيرة سالفاً من أجل لقمة العيش وسد الرمق كضرورة وجودية لاستمرارية الحياة إلى نزعة فتاكة لا يمكن كبحها على الرجال مؤسسي النظام الجديد وهم يلهثون بجموح وجشع لامتلاك الأرض وثرواتها والإنسان والمرأة بشكلٍ خاص وبعد العبور للمرحلة الإقطاعية استمرت معاناة المرأة من التجزئة والانقسام حتى في أصغر خلاياها وقبلت بخصائص الفتنة والفساد وكأنه انعكاس لها وهي في حقيقتها لا تمت لها بأي صلة فعاشت أشد أنواع الاغتراب عن الحياة الإنسانية وتاريخها وتأسست ما سميت بنفوذ ثقافة الشرق التي تضمن المراقبة التامة على جسدها ويعد ختان الإناث وغشاء البكارى بعضاً من الأنماط الممارسة عليها والتي تهدف إلى غرس عدمية الثقة في روح المرأة حتى النخاع وهذا ما آل بالمرأة إلى التشتت وكبح لإرادتها بحيث لا تجرأ على المطالبة بأي حق يخصها. كان للديانات تأثيراً على المرأة وكان لها دور إيجابي في بعض الحقب التاريخية لكن سرعان ما بدأت مرحلة جديدة من تناحرات داخلية وضائقات اقتصادية عمت الحياة الاجتماعية وحضت من مرتبة المرأة التي عجزت عن الاستحواذ لمكان لها في الإنتاج من ناحية، وانتشار وأد البنات وتعدد الزوجات من ناحية أخرى حتى باتت خرساء، بكماء، منعكفة على ذاتها في المنزل وراء الغلال والحجاب، وبحلول العصر الرأسمالي الذي ظهر في القرنين الثاني عشر والثالث عشر تجاوزت البنية المثيولوجية والدينية للعصور القديمة والوسطى، واستهدفت بناء مجتمع عديم الأيديولوجية عديم السياسة والخيال “اليوتوبيا” والهوية متفسخ رث حتى باتت الشعوب أمام احتقار أصلها وانعدام الروح والحيوية فيها والسير وفق إحدى مقومات الرأسمالية ألا وهي الربح الأعظمي.[1]