ابراهيم خليل
الشعراء إخوة أخياف يرث بعضهم بعضاً, وما من شاعر إلا واستند على من سبقه في صنعة الشعر وتقدم عليه في حرفة الأدب, وما اختلافهم إلا في درجة هذا الاستناد وقوته ثم في قدرة هذا المبدع أو ذاك على الانفلات من طوق التقليد المشين والتحول عوضاً عن ذلك إلى الاستلهام المنتج والإتيان بما يبدو جديداً وإن لم يكن كذلك.
يحدث أن يتأثر شاعر بشاعر فيصوغ على منواله ولكن بكلماته هو ومعانيه هو كما يحدث أن يعجب شاعر متأخر بقصيدة لشاعر متقدم فيدعوه داعي الموهبة والاعتزاز بالنفس إلى تحديه وتحديها والإتيان بقصيدة متشابهة مختلفة طامعاً في بلوغ مرتبة صاحبه أو مقاربتها.
نتناول في هذا البحث الموجز ظاهرة التأثر والاقتباس بين شاعرين كبيرين من مكانين وزمانين مختلفين. لم يحدث أن التقيا قط خارج عوالم الشعر ومع ذلك يعثر الباحث في ديوانيهما على إشارات كثيرة تكشف أسرار لقاءات روحية حميمة جمعتهما في شكل من أشكال التلاقح الحضاري الإيجابي كثيراً ما وقع بين شعوب مختلفة جمعتها رابطة ما وفي حالتنا هذه كانت الرابطة الإسلامية التي جمعت بين الترك والفرس والعرب وسواهم الأشد تأثيراً وتماسكاً واستمراراً.
شاعرنا الأول هو “حافظ الشيرازي” شاعر إيران الأشهر, فارسي من شيراز عاش في القرن الثامن الهجري. والثاني هو “الملا أحمد #الجزيري#” كردي من “جزيرة بوطان” من أعمال شمال كردستان, عاش على التقدير بين عامي (975-1050) للهجرة أي بين القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد.
من هو حافظ الشيرازي؟
شمس الدين محمد بن بهاء الدين (720 – 791) ه, الشهير ب”لسان الغيب”, ولد في شيراز في أسرة ميسورة, ولما مات والده فارق أخواه الكبيران اﻷسرة وبقي شمس الدين (وكان أصغرهم) مع أمه فاضطر للعمل خبازاً حتى يعيل نفسه ويعيلها. تلقى شمس الدين في شيراز علوم الفقه واللغة واﻷدب وحضر دروس الشيخ (قوام الدين عبد الله) وحفظ القرآن وبرع في قراءته. كانت شيراز في ذلك العهد تحت حكم آل المظفر (718 – 795) ه, وقد عاصر حافظ من حكامهم (مبارز الدين محمد) الذي كان فظاً غليظاً ثم ابنه (جلال الدين شاه شجاع) الذي عُرف بحسن السيرة ثم (مجاهد الدين علي زين العابدين) الذي عزله تيمورلنك فيما بعد.
ويروي لنا التاريخ أن الفاتح التتري بعد استيلائه على شيراز استدعى حافظاً وعاتبه على بيته الذي يقول فيه:
اﮔر آن ترك شيرازي بدست آرد دل ما را بخال هندويَش بخشم سمرقند وبُخارا را
(لو أن ذلك التركي الشيرازي يأخذ قلبنا بإشارة من يده لوهبتُ لخاله الهندي سمرقند وبخارى)
وقال له: “لقد أخضعتُ أكثر الربع المسكون بحدّ سيفي وأراك تهبُ سمرقند وبخارى وهما موطناي لخال أسود على وجنة تركي شيرازي؟!”. فأجابه الشاعر متخلصاً بلباقة: “ولذلك ترى يا مولاي ما أنا فيه من فقر ومسكنة بسبب هباتي الخاطئة هذه”.
عُرف عن حافظ شغفه بموطنه شيراز وعدم مغادرته إياه كما عُرف بقصائده البديعة التي تحتوي, باﻹضافة إلى متانة السبك وأصالة الصور والتشبيهات, نفساً صوفياً وروحانياً عميقاً أفسح لديوانه مكاناً في قلوب جميع اﻹيرانيين ومنازلهم.
ومن أبياته السائرة:
– ﮔنج زر ﮔر نبود ﮔنج قناعت باقيست آنكه آن داد بشاهان بﮔدايان اين داد
– (إذا لم تملك كنزاً من ذهب فكنز القناعة باقٍ والذي أنعم على الملوك قد أنعم على السوقة)
– بر در ميخانه رفتن كار يك رنﮔان بود خود فروشان را بﮔوى مَي فروشان راه نيست
– (إن الذهاب إلى باب الحانة من شأن ذوي اللون الواحد فقل لمن باعوا أنفسهم لا سبيل لهم إلى باعة الخمر)
– مشورت با عقل كردم ﮔفت: حافظ مي بنوش. ساقيا, مي ده بقول مستشار مؤتمن
– (لقد استشرتُ عقلي فقال لي: يا حافظ, اشرب الخمر. فهات أيها الساقي اسقنيها بأمر المستشار المؤتمن)
– هنگام تنگدستي در عيش كوش و مستي كاين كيمياي هستي قارون كند گدا را
– (حينما يضيق عليك العيش، فاعمد إلى اللهو والشراب فهو الكيمياء التي تحوّل الفقير إلى قارون)
– بي دلي در همه احوال خدا با او بود او نميديدش و از دور خدا را ميكرد
– (وثمة جاهل كان الله معه في كل الأحوال ولكن لم يره، ولذلك كان يناديه وكأنه بعيد عنه)
من هو ملا أحمد الجزيري؟
يعاني التاريخ الكردي المدون من ثغرات كثيرة بسبب المحكومية التاريخية شبه اﻷزلية المفروضة على اﻷمة الكردية، وأغلب ما تم التأريخ له لم يخرج عن حوادث سياسية كبرى كالثورات والمجازر والهجرات الكبرى, أما تفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية فقد ضاعت معظمها، وبقي قليلها شفاهياً تتناقلها اﻷجيال متعرضة لما يتعرض له سائر التراث المنقول شفهياً من تحريف وتصحيف سواء بالزيادة أو بالنقصان.
طبع ديوان الجزيري للمرة اﻷولى في ألمانيا سنة1904 م, وأعيدت طباعته بعد ذلك أكثر من عشر مرات وأكثر نسخه شيوعاً هي تلك التي حققها الملا أحمد الزفنگي رحمه الله وطبعت في مدينة القامشلي سنة 1959م.
في ديوان الجزيري أكثر من مئة قصيدة ومن بعض أبياته الرائعة قوله:
1- Nuqteyê ilm û sewdaê herf û neqşên alemê
yek didin mehnayekê eslê sewadê nuqte ye
1- (نقطة العلم وسواد الحرف ونقوش العالم تعطي معنىً واحداً هو أن أصل السواد نقطة)
2- Min go li rexan in ne ku kecrew weku ferzîn
şah gote me “kiş mat” e li bazê feresî tû
2- (قلتُ لها إنني كالرخ لا كالوزير في الشطرنج فقالت لي: كش مات, بل أنت الحصان)
3- Heyf di qeyda xak û gil bit arifê çalakerûh
dê mucerred bit ku pertew dit ji nû ew pakerûh
3- (وا أسفاه أن يبقى العارف الروحاني في أسر التراب والطين ليتجردْ حتى تظهر أنوار روحه الحقيقية الطاهرة)
4- Her gil û seng dibitin zêrê bi tedbîrê hekîm
qabiliyyet ku nebit hikmetê ustad ê çi kit
4- (هل يتحول الطين والحجر بتدبيرٍ من الحكيم إلى ذهب, إذا انعدمت القابلية فماذا تصنع حكمة الأستاذ؟!)
5- Hin ji nik dêrê ve tên, qesta kiniştê hin dikin
ne ji van im, ne ji wan im, min derê xemmarê bes
5- (يأتي البعض من دير النصارى ويمضي آخرون إلى صومعة اليهود وأنا لا من هؤلاء ولا من أولئك بل قصدي باب الحانة)
ثمة بين الشاعرين أكثر من ثمانية قرون من الزمان وحوالي (600) ميل من الجغرافيا, اﻷول فارسي محض لم يغادر شيراز إلا لماماً والثاني كردي صميم لا نكاد نعرف شيئاً عن تنقلاته سوى ما ذكره بعض المؤرخين من سياحاته الداخلية في مدن الهكارية والعمادية ودياربكر.
من الناحية العرقية, الكرد والفرس أبناء عمومة واللغتان الفارسية والكردية فرعان سامقان من شجرة اللغات الهندو- أوربية الشرقية بفرعها الإيراني وعلى ذلك فلا غرو أن يحدث بين اﻷدبين تلاقح وتثاقف وتأثر قيض للفارسية أن تحتفظ خلاله بأدبها مدوناً في جزء كبير منه بينما غلبت على الكرد الحالة الشفاهية كما أسلفنا.
لن نتعرض لموازنة التجربة الروحية لدى الرجلين لأنه أمر يتطلب مجلداً بل سنقصر البحث على الموازنة الشعرية فيما بينهما منطلقين من فرضية تلمذة “ملا أحمدي جزيري” على “خواجه حافظ شيرازي” تلمذة غير مباشرة ومستندين على القرائن والإشارات التالية:
* تقدمُ الشيرازي على الجزيري زمنياً كما هو معلوم وثابت.
* ذكرُ الجزيري للشيرازي في بعض أشعاره ذكراً مقروناً باﻹعجاب ودليلاً على اطلاعه عليه:
يقول الجزيري من مجزوء الهزج:
Ji Hafiz qutbê Şîrazê, Mela er fehm bikî razê
bi awaza ney sazê, bebê ber çerxê perwazê
(من حافظ الشيرازي القطب المعروف لو أنك يا “ملا ” فهمت السر لبلغت قبة الفلك طائراً بفضل ذلك الناي وبركة تلك اﻷنغام)
ويقول في موضع آخر من المتدارك:
Ger lûluwê mentûrê ji nezmê tu dixwazî
wer şihrê Melê bîn te bi Şîrazê çi hacet
(إن أردتَ اللؤلؤ المنثور من النظم فتعال انظر شعر الملا ولا حاجة لك بشيراز)
وكأنه – في الوقت الذي يتحداه فيه بظاهر كلامه – يشير إليه, من طرف خفي, كقدوة ومصدر إلهام بل ومضرب مثل.
* استعارة الكثير من المصطلحات والتشبيهات والصور التي استخدمها حافظ :(ناﮔهان برده هلاني، شاه خوبان، ﭘيري مغان، شرابي أرغواني، أي نسيمي سحري، زهري هلاهل، شاهدي قدسي, عهدا ألست، آب حيوان، سَمَن سايي, چ حاجت …) وعشرات التعابير والتشابيه اﻷخرى.
* استشهاد الجزيري بالشخصيات ذاتها التي استشهد بها الشيرازي: الحلاج، أياز، شيخ صنعاني، ماني، فرهاد، جم، نوح، يوسف، الخضر…) بشكل متكرر وفي مواضع متشابهة.
* التغزل بالحبيبة عينها (سلمى):
يقول حافظ:
– قاصد منزل سلمى كه سلامت بادش
(يا قاصداً منزل سلمى كن في أمان)
– منزل سلمى كه بادش هردم ازما صد سلام بر صداي ساربانان بيني وبانگ جرس
(ليكن لمنزل سلمى منا في كل وقت مئة سلام على صوت ساسة الإبل ورنين الجرس)
– ﮔر بسر منزل سلمى رسي اي باد صبا ﭼشم دارم كه سلامى برسانى زمنش
إن أنت وصلت منزل سلمى يا نسيم الصبا أترقب منك أن تبلغها سلاماً مني)
– سبتْ سلمى بصدغيها فؤادي وروحي كل يوم لي ينادي
– سليمى منذ حلت بالعراق ألاقي من هواها ما ألاقي.
ويقول الجزيري في البيت اليتيم الذي يصرح فيه باسم محبوبته:
Ma bi lehlên canfiza navê me bînit carekê
Biddua bellix tehiyyatî li Selma ya berîd
بل يغلب عندي أن الجزيري قد استوحى لقبه “نشاني” – الذي يتخلص به عادةً في قصائده من بعض أبيات حافظ كقوله:
– با هيج كس نشاني زان دلستان نديدم يا من خبر ندارم يا او نشان ندارد
(لم أر علامةً على ذلِك الحبيبِ عند شخصٍ، فإما أنا بلا خَبرٍ عنه أو هو بلا علامة)
– بنفشه دوش بﮔل ﮔفت وخوش نشاني دا كه تاب من بجهان طرةء فلاني داد
(قال البنفسج للورد ليلة أمس في بيان جميل: لقد ضيعتني ضفيرة فلان وأعدمتني صبري)
– شكسته وار بدرﮔاهت آمدم كه طبيب بموميائي لطف توام نشاني داد.
(جئتُ منكسراً إلى بابك, الطبيب وهو من أشار علي بمومياء لطف كيانك)
وقبل أن نتناول القصيدة المطلع في ديوان كل منهما, نستفتح على سبيل المثال ببعض الأبيات التي يبدو فيها التشابه بين الشاعرين جلياً:
يقول حافظ:
نظر كردن بدرويشانْ منافيّ بزرﮔي نيست سُليمانْ با ﭼنان حشمت نظرها بود با مورش
(إن النظر إلى حال المساكين ليس منافياً للعظمة فإن سليمان النبي رغم عظمته قد نظر إلى نملة)
ويقول الجزيري:
Ger çi der dîwanê hezret pur heqîr in şubhê mûr
Çeşmê te çeşmê Suleymanî bi hale mûrê bî
(إننا وإن كنا في ديوان حضرتكم صغاراً وحقيرين كالنمل فليكن نظركم إلى حالنا كنظر سليمان النبي إلى النمل حين مر بها)
ويقول حافظ:
بهواداريِ او ذرّة صفت رقص كنان تا لبِ ﭼشمهء خورشيدِ درخشان بروم
(سأتحول بحبي له إلى ذرة راقصة وأمضي إلى حافة عين الشمس الساطعة)
ويقول الجزيري:
Zerreyek bûm di hewaya te di wêraneyekî
Mitlê rojê bi şiʼaʼa xwe te meşhûrê kirin
ويقول حافظ:
عنقا شكارِ كسْ نشودْ دامْ بازِ ﭼين كانجا هميشه بادْ بدستستْ دامِ را
(العنقاء ليست صيداً لأحد والذي نصب لها الفخاخ لم يحظ إلا بقبض ريح)
ويقول الجزيري بالمعنى والصياغة ذاتها تقريباً:
Enqa ne şikara kes e davan tu beçîn ver
Dava ku li enqa tu vedî badêhewa girt
ويقول حافظ:
بآبِ روشنِ مَي عارفى طهارت كَرد على الصباح كه مَيخانه را زيارت كَرد
همين كه ساغر زرّين خور نهان ﮔرديد هلال عيد بدورِ قدح إشارت كرد
خوشا نماز ونياز كسى كه از سرِ درد بآب ديده وخونِ جﮔر طهارت كرد
(بماء الخمرة المنير تطهر العارف, على الصباح, وقد زار الحانة)
(حين اختفت كأس الشمس الذهبية خلف حجاب الأفق ظهر هلال العيد وأشار بدورة القدح)
(ويا لحلاوة صلاة ذلك الشخص وافتقاره, في حزن وألم, بماء العين ودم الكبد)
ويقول الجزيري في نسخ شبه حرفي:
Derê meyxaneya işqê seher arif ziyaret kir
Bi abê çeşm û xûnî dil widhûbest û teharet kir
Werîn cama hilalê da ji eksê mahi new bînî
Ku xanê mihr û cergê çerx û xwanê roze xaret kir
(على باب حانة العشق وقف العارف وقت السحر)
(بدمع العين ودم الفؤاد توضأ وتطهّر)
(هات القدح الهلالي لترى من انعكاس نوره هلال عيد الفطر الجديد)
(لأنه قد أغار على بيت الشمس وكبد الفلك وسفرة الصيام)
مطلع الديوانين
للقصيدة التي سندرسها كنموذج قصة شائقة طريفة يوردها العلامة السودي في شرحه التركي على ديوان حافظ.
القصيدة باﻷصل مستوحاة من بيتين لا يكاد أحد يعرفهما منسوبين إلى الخليفة اﻷموي الثاني “يزيد بن معاوية” وهما:
أنا المسموم ما عندي ترياق ولا راقي
أدر كأساً وناولها ألا يا أيها الساقي
وليزيد بن معاوية كما هو معروف فصل مأساوي في التاريخ اﻹسلامي موسوم باستشهاد “اﻹمام الحسين” في عهده وبأمره وبصورة مؤثرة ما زالت الذاكرة الجمعية لقسم كبير من المسلمين تحتفظ بها وتستعيدها بشكل سنوي، وما زالت أفاعيل هذه الذكرى سارية على مجمل الحياة الاجتماعية والسياسية المعاصرة في العالم اﻹسلامي حتى اليوم.
وجاء سعدي الشيرازي (606-690)ھ فتصرف بها بعض التصرف ولمّع بها خاتمة ديوانه:
بﭘايان آمد اين دفتر حكايت همﭼنان باقي (لقد انتهى هذا الديوان، والقصة ما تزال مستمرة)
بصد دفتر نشايد ﮔفتِ وصف الحال مشتاقي (إن مئة ديوان لا تكفي لوصف حال الاشتياق)
قم املأ واسقني كأساً ودع ما فيه مسموما
أما أنت الذي تسقي فعين السم ترياقي
ويذكر العلامة السودي أن العامة قد أخذت على حافظ هذا التضمين وأنه حين عوتب في ذلك أجاب: “لستُ أرى حرجاً على من يرى كلباً في فمه ياقوتة فيوقفه ليأخذها من فمه الملوث”.
لكن يبدو أن فتوى حافظ الافتراضية هذه لنفسه لم تعجب “الكاتب النيسابوري” المتوفى 838 ه ولم تقنعه ولذلك أجابه هذا بالفارسية:
عجب در حيرتم أز خواجه حافظ بنوعى كش خرد زان عاجز آيد
چ حكمت ديد در شعر يزيد أو كه در ديوان نخست ازوى سرايد
اﮔر چ مال كافر بر مسلمان حلالست ودر و قيلى نشايد
ولى از شيرِ عيبى ﭙس عظيمست كه لقمه از دِهان سگ رُبايد”
وترجمته :
إني أعجب ﻷمر الخواجه حافظ ويعجز عقلي عن فهمه
أي حكمة رآها في شعر يزيد حتى وضعها في مطلع ديوانه
وحتى لو كان مال الكافر للمسلم حلالاً ولم نعترض على ذلك
فإن اﻷسد يعيبه كثيرا أن يختطف لقمة من فم كلب
القصيدتان
يقول حافظ في مطلع ديوانه:
1- ألا يا أيها الساقي أدر كأسا وناولها كه عشق آسان نمود أوّل ولي أفتاد مُشكلها
2- ببوي نافهء كاخر صبازان طُرّه بكشايد زتاب جَعد مُشكينش ﭼه خون أفتاد در دِلها
3- مرادر منزل جانان ﭼه أمن عيشِ؟ ﭼون هر دم جرس فرياد ميدارد كه بربنديد محملها
4- بمي سجّاده رنﮔين كن ﮔرت بير مغان ﮔويد كه سالك بيخبر نبود زراه ورسم منزلها
5- شبِ تاريك وبيمِ مَوج وﮔردابي ﭼنين هايل كُجا دانند حالِ ما سبكباران ساحلها
6- همه كارم زخود كامي ببد نامي كشيد آخر نهان كي ماند آن رازي كز وسازند محفلها
7- حضوري ﮔر همي خواهي ازو غايب مَشو حافظ متى ما تلقَ من تهوى دع الدنيا وأهملها
الترجمة:
1- يا أيها الساقي طُف على الجالسين في الحانِ بالخمر وناولني الكأس، فإن العشقِ بدا لي سهلاً أولَ الأمرِ ولكن انهالت مشاكله
2- والصبا التي تعطَّرت من ملامسةِ جدائلِ معشوقِنا، جاءتنا منها بنفحةٍ من العبيرِ، وكم سفك ذلك العبيرِ من دماءِ القلوب
3- أي أمنٍ لي في ديارِ الحبيبِ على قرعِ جرسِ الرحيلِ الَّذي لا ينقطِع منادياً بالركبِ أن شدوا الرحالَ فالرحيلُ وشيك
4- إذا ما أردت الوصولَ إلى منزلِها حقاً فاصبغْ سجادَتك بالخمرِ، فبذلِك يأمرك شيخُ المجوسِ فأطِع فإن سالِك الطَّريقِ لا يجهلُه
5- ليل مظلم وموج عاتٍ وإِعصارٍ وأَهوال فمن أين لخفيفي الأحمال الواقفين على الساحل معرفة حالنا
6- لقد جنيتُ مِن أعمالي فضيحتي وتشويه سمعتي في آخر الأمر فإلام يظلُّ سراً ذلك الحديث في المحافِلِ
7- فإذا بلِّغتَ محضره يا حافِظُ فلا تَغِب عنه, متى ما تَلقَ من تَهوى دعِ الدْنيا وأَهمِلها
وهي قصيدة مكونة من سبعة أبيات – هي نصاب أي قصيدة – ملمّعة في صدر البيت اﻷول وعجز البيت اﻷخير تكاد تلخص فلسفة حافظ الروحية بما تحويه من الصور البديعة والمشاعر النقية.
ويقول الجزيري في مطلع ديوانه المكتوب بالرسم العربي:
1- نوايا مطرب وﭼنﮔي فغان آﭭيهته خرﭼنﮔي وره ساقي حتا كنﮔي نشوين دل ژﭭي ژنﮔي
2- حياتا دل ميا باقي بنوشين دا بمشتاقي ألا يا أيها الساقي أدرْ كأسا وناولها
3- كو كاتب ديمِ جدول كت شكسته خطْ مُسلسلْ كت ژيك حرفان مُفصّل كت كيه ﭭي مشكلي حل كت
4- دزاني رود وعود أوّل ﭼه تافيتن سرود أوّل كه عشق آسان نمود أوّل ولي افتاد مشكلها
5- ژ مهرا وي شفق سعدي شرين لعلي شكر وعدي دنالم شبهتى رعدى عجيبم لى ژﭭي جعدى
6- كه دل را تاب هر ﭼينش بكفرى مى برد دينش زتاب جَعد مُشكينش ﭼه خُون أُفتاد در دِلها
7- دﭭى طاقى دﭭى خانى مه عيش وأيمنى كاني كسى دست دت ژ دَوراني نهالك في ﮔلستانى
8- در آغوشش جه مي آرد كه از دل جانش بسﭘارد جرس فرياد مي دارد كه بربنديد محملها
9- بقرآنى بآياتى أﮔر ﭘيرى خراباتى به بيژت سجده بن لاتى مريدين وى دبن قاتى
10- مريد أر بى بصر نبود زفرمانش بدر نبود كه سالك بى خبر نبود زرسم وراه منزلها
11- شﭬى ظلمات ودريايى زمَوجان قط خبر نايى شكستى كشتيا بايى عجاجى وى شﭬى دايى
12- ژ حرفان ماه وسال ما نهات در شكل فال ما كجا دانند حال ما سَبُكباران ساحلها
13- مراز أوّل ﭼه برخامى كشاند آخر ببدنامى زرنگ سعدي وجامى زشهرت بى حسين عامى
14- بدنگ وبانگ وآوازى دبيژت نغمه يا سازى نهان كي ماندان رازى كز وسازند محفلها
15- ژحافظ قطب شيرازى (ملا) فهم أر بكى رازى بآوازا نى وسازى به بى بر ﭼرخى ﭙروازى
16- تزد من حبها الصفوى به أهل الهوى نشوى متى ما تلق من تهوى دع الدنيا وأهملها.
وترجمتها:
1- إن صوت ونغمة غناء المطرب مع صوت الصنج قد علا حتى بلغ برج السرطان أي إلى السماء فتعالَ أيها الساقي فحتام نؤجل تطهير القلب من هذا الصدأ
2- إن حياة القلب في هذه الخمر الأبدية التي نحتسيها باشتياق فهلم أيها الساقي أدرها علينا وناولنا إياها
3- إذا زيّن كاتبُ القدرة الذي هو الله وجه الحبيب وكسر خطوط أصداغه فمن ذا الذي يطيق حل هذه العقد المتشابكة
4- أتعلم ما تقول آلتا الرود والعود الموسيقيتان في أول ألحانهما وأي نشيد تنشدانه أولاً؟ تقولان إن العشق في مبدأ أمره يكون سهلا ولكن سرعان ما تنهال مشاكله
5- من محبة تلك التي ضياؤها كضياء نجم السعد وشفتاها كالياقوت ووعودها كالسكر، أتأوه بصوت كصوت الرعد ذاهلاً من تجعد شعرها
6- تلك اﻷصداغ المتجعدة دائما قد نقلت القلب من اﻹيمان إلى الكفر، ومن ضياء تلك اﻷصداغ الملتفة والمعطرة بالمسك كم من دماء انسكبت في القلوب
7- تحت قبة هذا الفلك وفي دار الدنيا هذه أنى لنا العيش واﻷمن، ومن الذي يجني من روضة هذه الدنيا غصناً
8- ويضمه إلى حضنه وبكل إخلاص يمنحه روحه، يقرع الجرس أن شدوا رحالكم
9- أقسم بالقرآن واﻵيات إذا أمر شيخ الحانة أن اسجدوا للّات فإن المريدين طائعون
10- على المريد أن يكون بصيراً ومطيعاً ﻷمر شيخه لئلا يتوه السالك عن أثر الدار وطريقها
11- الليلُ مظلمٌ ولا صوتَ يصدر عن موج البحر وقد تحطمت السفينة التي تسيّرها الريح وقد هاجمتها العاصفة تلك الليلة
12- لم تأت شهورنا وسنواتنا من علم الحروف على ما نرتجي ونأمل، فمن أين لهم الاطلاع على حالنا أولئك خفيفي اﻷحمال الواقفين على ساحل السلامة
13- لقد كان أول ما فعله بنا القلم أن أذاع اسمنا آخر اﻷمر بالسوء بين الناس كما فعل بالشاعرين سعدي وجامي وفضح أمرهما بين العامة
14- من أصوات وعزيف آلات الطرب تنتشر هذه النغمة فكيف لهذا السر أن يبقى مخفياً والناس تنشده في محافلها
15- لو أنك يا ملا وعيتَ السر من حافظ الشيرازي القطب المعروف لبلغت قبة الفلك طائراً ببركات ذلك الناي وتلك اﻷنغام
16- غنيّ عن الترجمة
من الناحية الشكلية, القصيدتان من البحر العروضي ذاته (الهزج) القائم على تكرار (مفاعيلن), وتمتاز قصيدة الجزيري على قصيدة الشيرازي بتعدد قوافيها والتزامها في صدور الأبيات بحرف روي واحد, كما تمتاز بتطعيم شعري عجيب قام به الجزيري حين زاوج بين أبياته الخاصة وأبيات حافظ مع المحافظة على الوزن والقافية وتكامل معاني الأبيات وفي هذا ما فيه من العنت. وبينما اقتصر الشيرازي على أبيات قليلة كأنها قلادة على مقاس العنق توسع الجزيري توسع من لا يخشى الزلل ولا يشفق من العثرة فجاءت أبياته – ملمعة بأبيات حافظ ويزيد معاً – كأنها نسيج واحد لم يشذ منها خيط.
ومن ناحية المعاني والمقاصد, تمتح القصيدتان من بحور التصوف على قاعدة التأمل والتفكر في علاقة الإنسان بالذات الإلهية ومفارقة المنهج السني الكلاسيكي في تفضيل المظهر على الجوهر والبحث عن الله في مكان خارج القلب.
إنها روح الإنسان الحائر المضطرب في هذا الكون, الباحث عن الحقيقة في نفسه وخارج نفسه, روح الصوفي المتفلسف التي لم تجد ثغرة تغادر عبرها ذلك الجسد الترابي الفاني سوى الفن.
لدى الشاعرين منهج متشابه في التصوف وإن افترق مذهبهما في الدين, وإذا كان الدين ينبذ الشعر ويذم قائليه فإنه في التصوف سنّة متبعة يفرج بها المتصوف في غير حرج عن لواعجه الروحانية نخص منهم زهاد العجم الذين حملوا معهم بقية تراثهم الديني المندثر فمزجوه بالإسلام ومزجوا الإسلام به.
على أن الفارق واضح بين الرجلين فالعشق كما هو ظاهر في الأبيات أغلب على الجزيري، والجزيري أشد تمكناً من الوصف وميلاً إليه وأدنى إلى التفاؤل ورؤية أنوار السلامة في ظلمات بحر الحياة وبينما تحفل قصيدته من أولها إلى آخرها بأصوات الموسيقا وآلات الطرب لا تجد لدى الشيرازي سوى أصوات اصطخاب الموج وحديث السوء وجرس الموت.
الإبداع في الأصل إعادة تركيب وما من حامل قلم إلا وتزود من مداد غيره, وإذا كان الجزيري قد تتلمذ على حافظ وقلده فهي تلمذة اﻷديب اﻷريب وتقليد اللبيب النجيب ولا نشكك من قريب أو بعيد في عبقرية الجزيري أو نرتاب في علو كعبه في رحاب الشعر وميادين التصوف, ومن يتكلف الرجوع إلى ديوانه يجد مصداق هذا الكلام, فللرجل من قصائد الوصف والغزل والتصوف والمديح والهجاء والحكمة الأصيلة ما يؤهله للمقعد الذي يقعده في ساحة الأدب الكردي ويرفعه إلى مقام أساتذة البيان في عصره وكل عصر.
————————————————————-
هامش:
آخر مريدي هذه الحلقة الصوفية هو الشاعر الكردي الكبير “حاجي قادري كويي” (1817 – 1897) م الذي كتب:
Dexîlit bim were saqî edir keʼsen we nawilha
Xem û xussey dillim kem bû welê eftad muşkilha
Umêdî miskî muşkîn im sebazan turre bukşayid
Ke çî bemzanî bem derd e çi xûn uftad der dilha
Le behrî işq û xewfî mewc û gerdabî çunîn hayil
Be hawarî dillim nagen sebukbaran sahilha
Le ewwel işqî win kird û be bednamî keşîd axir
Çi lon penhan debê sîrrê ke zû sazend mehfelha
Billê bimre debê bimrî gerit pîrê muxan goyid
Ke çûnke xoy xeberdar e zi rah û resmê menzilha
Le hicranî eto bo min çi emnê eyeşê çun her dem
Ecel bangman deka zû ken ke ber bendîd mehmelha
Eger tû muxlisî işqî ezû xayib meşû Hafiz
Ke Hacî bo sefer birrwa deʼiddunya we ehmilha
———————————————————-
المصادر والمراجع:
– حافظ (ديوان غزليات)، الطبعة 51، طهران،1391 ه
– العقد الجوهري في شرح ديوان الشيخ الجزري، تحقيق الملا أحمد الزفنﮔي، القامشلي، مطبعة الرافدين 1959
– ديوان سعدي الشيرازي
– ديوان حاجي قادري كويي
– عن العدد (0) من مجلة “دشت” الثقافية وهي فصلية تصدر عن “اتحاد مثقفي روج آفايي كردستان.[1]