إعداد/ نورشان حسين [1]
ملحمة درويشي عبدي بيّنت مقاومة الشعب الكردي وجبروته بشخصية دوريشي عبدي الذي واجه العدو بكل بسالة لكن يد الغدر طالته، فأصبحت هذه الملحمة ميراثاً وانطلاقة لكل مناضل يجاهد في سبيل قضية وطنه.
تعتبر ملحمة درويشي عبدي من أعظم الملاحم في التاريخ الكردي، حيث أننا إن تعمقنا في أحداثها سنتعرف على معنى العشق الحقيقي للمرأة والوطن، وكذلك معنى البطولة الكردية الأصيلة التي تحلى بها درويشي عبدي عندما ربط عشقه الشخصي لحبيبته “عدولة” بعشقه المجتمعي للأرض والحرية وبذل روحه في سبيل العشقين معاً، أو ربما نستطيع القول بأن مصدر كلا العشقين ينبع من عشق كينونة الحياة، وإن كانت التراجيديا هي من أسدلت الستار على النهاية المؤلمة، وتدور أحداث القصة حول تحالف الحكام والشوفينيين من الأتراك والعرب ضد طموحات الشعب الكردي المتجسدة في اتحادهم بقيادة درويش عبدي والمليين و47 عشيرة كردية أخرى، عندما أصبح “تمر باشا المللي” قوة لا تقهر في قلب الإمبراطورية العثمانية والذي شكل جيشاً تجاوز تعداده 70 ألف محارب، كان التحالف المللي يتألف من 47 عشيرة وأصبح حاكماً نافذ الكلمة وسيطر على جميع الطرق المؤدية إلى حلب و”آمد” ديار بكر والموصل وغيرها من المدن الرئيسية، وأوشك على استقلال الإمارة الكردية عن الدولة العثمانية وكانت منطقة نفوذه تمتد من أرزروم إلى بيراجيك جنوباً ثم شرقاً إلى جبل عبدالعزيز وجبل شنكَال في الجنوب الشرقي وشمالاً إلى جزيرة بوطان وديار بكر (آمد) وكانت عاصمته ويران شهير.
امتنع تمر باشا المللي عن دفع الضرائب للباب العالي ولم يدع أحداً من رجال العشائر “المللية” أن يخدم في الجيش العثماني، فقرر السلطان العثماني تعيين سليمان باشا آل شاوي قائداً عاماً للجيوش الزاحفة ضد تمر باشا المللي عام 1791 م، وقد ضم إلى جيشه آلاف من الفرسان غير النظامية من عشيرة “الجيس” البدوية وبعض القبائل التركمانية، وزحفت هذه القوات إلى ماردين حيث واجهت الجيش المللي وحاصرته في قلعة “بووك” على الأغلب (منبج) اليوم ولم يستطع الجيش المللي الصمود أمام تلك الجيوش الجرارة، فأخلى القلعة وتراجع جنوباً وأخذ سليمان باشا آل شاوي يعاقب العشائر المللية بقسوة حيث أعدم رؤساء العشائر وقادتهم، وعزل حاكم ماردين من منصبه وأنهك القوة المللية في تلك المنطقة، ولذا طلب تمر باشا من العشيرة الشرقية مساعدتهم كونه يدرك جسارة درويش وأخاه سعدون، ودرويشي عبدي البطل المغوار ابن عبدي رئيس عشيرة الشرقية (الإيزيدية) أصبح قائد الجيش الكردي وكانت القيادة تتألف من (اثني عشر رجلاً) ستة منهم من كرد الإيزيديين وستة من الكرد المسلمين، وكانت حبيبته “عدولة” بنت الأمير تمر باشا الملي مسلمة، وهي رمز الأرض ورمز الإمارة الكردية التي يجب الدفاع عنها بدمائهم، وقام درويشي عبدي بسلسلة من الهجمات البطولية بتكتيكات حرب الأنصار ضد جيش الأعداء ملحقاً خسائر فادحة واستنزاف هائل في صفوف الأعداء في المناطق التالية: (سهل موصل، ويران شهير شنكَال، جبل عبد العزيز “جبل كزوان”)، كان درويش معروفاً بأنه فارس عظيم لا يستطيع أحد على مجابهته وهو على صهوة جواده المسمى ب (هدبان)، فقد عجز الأعداء من هزيمة درويشي عبدي إلا بالحيلة حيث قاموا بالفرار إلى بقعة أرض مليئة بحفر الفئران وكان درويش على صهوة حصانه يطاردهم وفي هذه الأثناء يقع من فوق حصانه (هدبان) ويكسر ساق الحصان ويلتف حوله جنود العدو ويبدؤون برشقه بسيوفهم الغدارة، ويصاب درويش بجروح بليغة ويتم نقله إلى تل قريب من جبل سنجار حيث تلتقيه “عدولة” بكل شموخ وتضع رأسه على كتفها وتصرخ بأعلى صوتها بكلام يهز لها وجدان العشائر فتسرد كل تاريخ الكرد من ظلم الأعداء والإبادة التي ارتكبت ضدهم، ومقاومة الكرد البطولية وتشير على دور المرأة الكردية في الحفاظ على الثقافة والأصالة.
بالرغم أن درويش ورفاقه استشهدوا في تلك المعركة الدامية ولكنهم ألحقوا بالجيوش المعادية ضربات موجعة وشتتوا قوات الأعداء ولم يدعوهم يحققون ما يرغبون مما زاد من روح الوحدة والمقاومة لدى أبناء الكرد ولتصبح ملحمة أخرى تستلهم أحفادهم ليقاوموا بانطلاقة ظافرة قادمة، حيث قام العديد من الكتّاب والشعراء الكرد بتأليف الكتب والأغاني على هذه الملحمة ولعل أكثرهم تأثراً بها هو الفيلسوف والقائد الكردي “عبدالله أوجلان” حيث يتحدث بشكل مستفيض في مجلده الخامس من مانيفستو الحضارة الديمقراطية (القضية الكردية) واصفاً ملحمة درويشي عبدي قائلاً:
(كان درويش عبدي يشيرُ من خلالِ “عدولة” إلى المقاومةِ اليائسةِ للكردايتيةِ الجاهدةِ للصمودِ في وجهِ الصهرِ والإبادة، وإلى تصدّيها متمثلاً في الجيلِ الأخيرِ من الإيزيديين، ورغمَ غنائِها من قِبَلِ فنانٍ “بافي صلاح العفريني”، إلا إنّ كلَّ كلمةٍ قالتها عدولة كانت أَشبَهُ بآخرِ نفَسٍ تلتقطه ثقافةٌ ما فتئَت صامدةً مدى آلاف السنين، وفي واقعِ الأمر، كان درويش بتجوالِه في كلِّ مرةٍ بين جبلِ سنجار وسهلِ الموصلِ يسردُ المقاومةَ البطوليةَ ضد الإقطاعيةِ العربيةِ الإسلامية، وقد كانت تلك المقاومةُ تقليداً عمَّرَت آلافاً من السنين، ضاربةً بجذورِها إلى عهدِ السومريين، وربما إلى ما قبل ذلك، إذ تمتدُّ إلى النزاعاتِ المحتدمةِ بين القبائلِ الساميّةِ الصحراويةِ والقبائلِ الآريةِ الجبليةِ السهلية.
ودرويش عبدي كان الممثلَ الأخيرَ لتلك التقاليد، أما سقوطُ درويش عن صهوةِ الحصانِ وإصابتُه بجروح، فما هو في الحقيقة سوى سقوطُ تاريخٍ بأكملِه ومجتمعيةٍ برمتِها، وإصابتُهما بجروحٍ غائرة، والموتُ البطيءُ لدرويش الجريحِ قد تحولَ على لسانِ عدولة إلى عباراتٍ كانت كافيةً ووافيةً للتعبيرِ بكلِّ يُسرٍ عن تاريخٍ يمتدُّ لعشرِ آلافِ سنة، وعن أعرقِ التقاليدِ الشعبية، استمعتُ إلى أغنية بافي صلاح وتأثرتُ بها كثيراً وعلمتُ لاحقاً أنّ أغنيةَ “دلالو” التي غناها صديقي “آرام تيكران” هي أيضاً جزءٌ مقتضبٌ من ملحمةِ “درويشي عبدي”، وكانت تفضي إلى نفسِ النتيجة، ما أثار دهشتي هو أنه كيف استطاعَ رمزٌ نسائيٌّ مثل عدولة التعبيرَ بهذا العمقِ السحيقِ عن الواقعِ التاريخيِّ والاجتماعيّ، وباعتقادي، هذه قضيةٌ أوليةٌ من قضايا الأدبِ الكرديِّ التي لا تنفكُّ تستلزمُ الإيضاح)