كورد منطقة آليان… نموذجاً لمجتمع الفلاحين في سهول الجزيرة الفراتية (2)
د. آزاد احمد علي
مجلة الحوار – العدد /80/ – السنة 29 – 2022م
“جبل إيلم المركز الروحي لمنطقة آليان وأصل تسميته”
الملخص:
يعد هذا البحث دراسة قطاعية لنموذج من الحياة الريفية للمجتمع الكردي التقليدي في الهضاب وسهول الجزيرة الفراتية العليا، وهي دراسة توثيقية للحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمنطقة ذات شخصية وحدود جغرافية ثابتة مرتبطة تاريخيا مع إمارة بوتان، حيث كانت أحد أهم مناطقها الزراعية المنتجة.
الدراسة تاريخية جغرافية اجتماعية عمرانية شاملة، تعتمد البحث التوثيقي الميداني، بالترابط مع أهم الأحداث التاريخية التي مرت بها منطقة آليان، وخاصة في القرنين التاسع عشر ابان الحكم العثماني، وفي القرن العشرين حيث انتقل حكم القسم الأكبر من منطقة آليان الى الانتداب الفرنسي، فالجمهورية السورية.
يركز البحث على الإطار العام للحياة القروية الزراعية في آليان بوصفها عماد ديمومتها ووجودها، كما يسعى البحث للكشف عن أبرز العوامل التي ساهمت في استمرارية الحياة المجتمعية وأسباب غناها وتنوعها، وكذلك البحث عن سر توافر بيئة التعايش الديني والمذهبي فيها طوال قرون عديدة. فقد تعايشت في منطقة آليان الأديان الرئيسة السائدة تاريخيا في كوردستان: بدءا من اليهودية والمسيحية، الايزيدية والإسلام، مع اكتشاف ملامح واضحة لبقايا المعتقدات الدينية القديمة خاصة ما هو مرتبط مع معبد إيلم Girê Êlim وطقسها الرئيسي: (Zêwa Êlim)
يلقي البحث الضوء على الجذور القديمة للحياة الاجتماعية وارتباطها بشكل وثيق مع توفر مصادر المياه، فتشكل مجتمع زراعي مستقر. مع الإشارة الى انتعاش الحياة التجارية في القسم الشمالي من آليان لوقوعها على طريق الحرير (طريق أوربا إستانبول – حلب- نصيبين – جزيرة بوتان – الموصل – بغداد).
من الناحية السياسية والإدارية كانت آليان مرتبطة بمركز إمارة بوتان أي مدينة (جزيرة ابن عمر) لذلك تأثرت بشكل مباشر بمصير الإمارة، إذ شكلت آليان جزءا فاعلا من هذا التاريخ الاجتماعي والسياسي، فقد جرت على أرضها معركة نهاية إمارة بوتان (معركة ديرون 1853)، وتراجع دورها السياسي بعد تعرضها لحملة الإبادة وخاصة مجزرة آلاقمش عام 1926م، وصولا الى تقسيمها بين سوريا المستحدثة وجمهورية تركيا الوليدة بعد عام 1930م، ليتمزق نسيجها الاجتماعي والعمراني بين دولتين.
انكمشت حدود آليان بعد تراجع الحياة الرعوية فيها وانحسار مراعيها جنوبا أمام زحف القبائل العربية البدوية، وكذلك نتيجة لتحديث الحياة الاجتماعية والاقتصادية فيها.
5-5 الموارد المائية
يبدو أن وفرة المياه السطحية الغزيرة المتغذية والمنبثقة من طبوغرافية المنطقة قد أسست لحياة المنطقة الاجتماعية والاقتصادية، بل أفترض أن للماء علاقة بمثيولوجيا وجذر معتقدات المنطقة، خاصة بوجود قرية تاريخية تسمى كفري دنان، ووجود آثار حجرية لدنان مقلوبة بجوار بحيرة جفت مياهها، كانت مركزا لنشاطات طقسية وترفيهية في عهود ما قبل التاريخ على الأرجح. لاحظ الصورة رقم (2) المرفقة.
لا شك أن وفرة المياه في منطقة الجزيرة الفراتية هي التي غيرت مسار أحداث تاريخها بشكل عام، كما ساهمت في التأسيس لحياة اجتماعية غنية في منطقة آليان بشكل خاص. حيث تظل السفوح الشمالية للجزيرة الفراتية بين مدينتي جزيرا بوتان ونصيبين من أغنى المناطق بالمياه سواء بمياه الأنهر أو الينابيع، إذ تبين الخارطة الجغرافية العائدة لنهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين المرفقة بان عدد الأنهر قد بلغ حوالي عشرين نهرا في المسافة الواقعة بين جزيرة ابن عمر ونصيبين والتي لا تتجاوز 90 كم، نصفها تقريبا في منطقة آليان، بمعنى، هنالك حوالي عشرة أنهر تنبع من سفوح الجبال وتتجه جنوبا لتسقي أراض آليان، أكبرهما نهري هزافي وجرح.
إضافة إلى هذه الوفرة في المياه، ساعدت طبوغرافية منطقة آليان على إسالة المياه من الشمال نحو سهول الجنوب. تتوزع مواردها المائية على:
الأمطار والثلوج:
تعد منطقة آليان من المناطق المتوسطية ذات الأمطار المعتدلة ومعدلها السنوي بحدود (400) وهي أحد النماذج التي اعتمدت على الزراعة البعلية بشكل رئيس. وقلما تمر سنة دون سقوط الثلوج لتختزن مياهها ببطئ في الطبقات الدنيا من الأرض.
الآبار السطحية
لقد تم حفر آبار سطحية تتراوح أعماقها بين (4 و9) أمتار لتوفير مياه الشرب وللاستعمال المنزلي، خاصة في القرى والحارات البعيدة عن الينابيع. وكانت تدعم جدرانها الداخلية عادة ببناء أحجار بازلتية لمنعها من الانهيار والانسداد. وقد شكلت هذه الآبار جانبا مهما من جوانب الحياة الريفية الخدمية والاجتماعية.
الينابيع
الينابيع كانت عديدة في منطقة آليان، لكن أغلبها جف في السنوات الخمسين الأخيرة، بسبب عاملي الجفاف والاستخدام المفرط للمياه. نذكر أهم وأشهر هذه الينابيع، بدءا من الزاوية الشمالية الشرقية لآليان، أي من قرب كري ايلم وأزدينان باتجاه الغرب والجنوب:
سي كاني Sêkanî، أي الينابيع الثلاث. في قرية بانوح شمال (خ ح د)
نبع قرغو (الاسم ربما كانيا دحلي او كانيا شيخ)
نبع قرية باترزان
كانيا كجا شيخ في ديرونا آغي
نبع خربه بلكا ْXirbebilka
نبع وادي خراب خاي، Kaniya Newala Xirabê Xayê
نبع آلا قوس
نبع الأفاعي / كانيا ماران
نبع علي بدران
يظل نبع باترزان الذي ينبع من داخل القرية، أغزرها حاليا، وربما شيدت هذه القرية التاريخية ومسجدها حول النبع منذ أمد بعيد، حيث تحيط بالنبع أشجار معمرة عالية، مكونة حولها فضاءا عمرانيا وساحة داخلية للقرية شيدت حوله بعض المساكن والمسجد. كما في الصورة رقم (3)
الأنهار:
هذه الينابيع المتعددة والغزيرة شكلت أنهر وجداول، تزايدت عددها وغزاراتها بحسب المواسم المطرية وشدة الأمطار والثلوج. لكن ظلت بعض الأنهر دائمة، غزيرة لتحافظ على أهم عامل للاستقرار والمعيشة. كما أغنت الحياة الطبيعة وحافظت على المجتمعات الزراعية في المنطقة طوال عصور وحقب متعاقبة. أهم وأكبر هذه الأنهر هي:
هزافي Hezavî
الذي تغذيه الينابيع الرئيسية: (باترزان، خربه بلكا، باديان) اضافة الى ما تأتيه من المياه من وراء خط الحدود الدولية (خ ح د)، أي من سفوح جبل أيلم وسفوح جبل باكوك (طور عابدين) الشرقية. وخاصة نبع سي كاني Sêkanî، أي الينابيع الثلاث، الذي يغذي ويشكل منبع نهر هزافي Hezavî بدءا من قرية بانوح شمال (خ ح د).
هذا وقد عرف نهر هزافي شعبيا بنهر جل آغا نسبة الى قرية جل آغا، كون النهر يبلغ أقصى غزارة له عندها، وهي من أقدم قرى آليان في الوقت نفسه. علما أن اسم هزافي قديم وظل طي النسيان وضمن الخرائط، وقد ورد بصيغتين في الخرائط والوثائق (هزاوي، حصاوي). هذا وقد شيد سد على نهر هزافي (جل آغا) في ثمانينات القرن العشرين.
جمي كري ديران أو (جمي شيخ تمو)
يعرف بنهر كري ديران لوقوع قرية كري ديران التاريخية على ضفتها الشرقية. هو نهر موازي لنهر هزافي السابق الذكر، يقع شرقه بعدة كيلومترات فقط، وهو أيضا يتجه من الشمال نحو الجنوب، يتغذى وينبع من عدد كبير من الينابيع نذكر منها، ما هو جنوب (خ ح د)، وهي من الشمال نحو الجنوب:
نبع خرابي خاي
نبع دلافي كران
نبع قرغو
نبع نبي
كاني كه رك
نبع كه ردميك
نبع شيخ ابراهيم
من الملاحظ أن أغلب الينابيع التي تغذي هذا النهر تقع جنوب (خ ح د) وبالتالي تعرضت للجفاف أكثر، مما قلل من غزارة النهر في العقود والسنوات الأخيرة. علما أن هذا النهر كان يشكل على مجراه بحيرة تاريخية بجوار قرية كفري دنان الحالية، كانت البحيرة مركزا لمعتقدات دينية تتعلق بالمياه والينابيع كما سبق ذكره.
– نهر جرح
هو النهر الذي يشكل الحدود الغربية لمنطقة آليان ويفصلها جغرافيا واعتباريا عن منطقة سنجق خلف آغا، هذا السنجق الذي كان يضم أراضي جنوب شرق نصيبين ومنطقة قامشلو الحالية.
5-6 آليان منطقة ريفية نموذجية
المقصود بأنها منطقة ريفية هو غلبة الطابع الزراعي عليها، واعتمادها على الفلاحة والرعي بشكل أساسي، على الرغم من وقوعها على الطريق التجاري الرئيسي بين آسيا وأوربا. وعدم اعتماد سكان قرى آليان على مهن أخرى غير الزراعة والرعي وعدم اشتغالهم بالتجارة، عزز الطابع الريفي التاريخي للمنطقة، كما رسخ نمط حياة القرية الكوردية المتوارث جيلا بعد آخر. فالقرية كتجمع سكني شكل تاريخيا القالب الفيزيائي والهيكل العمراني لنمط مميز ومحدد من الحياة الفلاحية، ولا تشكل القرية بالضرورة مرحلة انتقالية بين البداوة والتحضر، وإنما نمط حياة مستقل بذاته منفتح على نمطي البداوة والتحضر ومتداخل معهما، كما هو مكمل وداعم لنمط حياة المدن (علي، 2002، ص22). فقرى آليان التاريخية قدمت نموذجا وتأكيدا على هذه الفرضية، التي تتلخص: بأن الحياة تستمر في أغلب القرى لسنوات بل لقرون أحيانا وهي تظل قرى، ولا تتحول الى مدن، لأنها تحافظ على نمط حياة القرية والتي هي في أساسها الاقتصادي الاجتماعي معتمد بشكل حصري على الزراعة وتربية المواشي.
6- الزراعة سر بقاء وتنامي المجتمع في آليان
أحد أبرز عوامل تنامي وديمومة الحياة الريفية في منطقة آليان يكمن في سيادة عملية الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهذا وفره عاملان رئيسيان، الأول تبعية منطقة آليان لإمارة بوتان، وبالتالي الاستظلال بظل حكم كوردي محلي رشيد نسبيا. وفي المقام الثاني توافر زعامات قروية عاقلة ومحبة لسكان قراها، وبالتالي عدم استنساخ تجارب الإقطاع التي كانت تتعامل بشكل حاد مع فلاحيها. فمن هذه الناحية تسجل عمليات الاستقرار لصالح عائلة مرعي آغا بشكل رئيس، حيث كانت زعامة ريفية اجتماعية، غير إقطاعية وغير قبلية بالمعنى الدقيق لكلا المصطلحين. فتعاونت مع آل بدرخان وكذلك مع الوجهاء المحليين في حسن إدارة أغلب قرى منطقة آليان من جهة، كما شجعت الفلاحين على البقاء والعمل في القرى، دون ممارسة الضغط عليها، أو الانحياز لأبناء هذه القبيلة ضد الأخرى من جهة أخرى. فساد الأمن والأمان المنطقة وانتعشت فيها الحياة الريفية بكل جوانبها، بما فيه التعليم الأهلي، حيث نشأت تاريخيا مدرسة للتعليم الديني واللغة الكوردية، اضافة لعلوم الفلك والحساب في قرية ديرونا آغي، وسميت بالمدرسة السبيكية نسبة الى مؤسسها.
إن تعاون الزعامات المحلية مع آل بدرخان شكلت عاملاً رئيسياً في التطور الاقتصادي – الاجتماعي، فانتعشت القرى عاما بعد آخر، وازدادت مردودية الزراعة، حتى تراكم فائض كبير في الإنتاج مما أدى بأمير بوتان بأن يتخذ قرار استحداث مخازن كبيرة (أمبار – (Embar في قرية كفري دنان لحفظ الحبوب كاحتياطي غذائي للإمارة.
هذا ما أكدته المصادر المحلية والمرويات الشفاهية التي بينت بأن منطقة آليان كانت سلة الغذاء لمدينة جزيرا بوطان، وكانت علاقات أمراء بوطان متينة مع سكانها منذ أقدم العصور، خاصة عندما كان جزء مهم من سكانها مسيحيون ويهود، بحسب الرواة المعمرين: بوتكي، توفي 1994 وشيخموس مرعي، توفي 1995 وكذلك سيد نور الدين، توفي 2005).
ونظرا ً لأن قبيلة آل مرعي الآغا لم تكن كبيرة فلقد كانت سياستهم تعتمد على وجهاء المنطقة الآخرين لتشجيع الوفاق بين مختلف الفئات، وتدعيم العمل الزراعي. لذلك تم احترام الفلاحين المنتجين وعدم اللجوء إلى منطق القوة القبلية سواء مع سكان آليان أو المناطق الكردية المجاورة. مع مرور الزمن اتخذ النسيج الاجتماعي في ريف آليان طابعاً فلاحياً صرفاً إذ اجتمعت في كل قرية أسر عديدة متنوعة ومتباينة الأصول القبلية ولم ينتمي كامل سكان أي قرية الى قبيلة واحدة فقط.
إلى جانب النجاح في الزراعة المروية وإنتاج الخضار والفواكه بدأ إنتاج التبغ وتحسين زراعة الكروم والأشجار المثمرة مما ربط الفلاح بقريته بوشائج ومصالح مهنية متينة. كما ازداد أعداد الأغنام وتوجه أهالي القرى الذين يمتلكون قطعان الماشية الكبيرة إلى البراري الجنوبية حتى سفوح جبل سنجار. لدرجة يمكن الافتراض أن هذه الرحلات الرعوية ساهمت في زيادة الاحتكاك بين الكورد المسلمين والايزيديين، وقامت بتحسين العلاقة بين إيزيدي جبل سنجار وفلاحي منطقة آليان، كما تزايدت المبادلات التجارية سلعة مقابل سلعة (Ser bi ser) مع قرى منطقة سنجار.
لقد مرت سنوات طويلة من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والحياة الفلاحية الرتيبة، فقد اكتشف قبر يعود تاريخه لعام (935) هجري الموافق لعام (1528) ميلادي في مقبرة قرية ديرون آغا لأحد أحفاد شيوخ الدين المعروفين تاريخيا (كحيل، 2018، مجلة الحوار)، مما يؤكد استمرارية الحياة وتزايد أعداد سكان القرى في منطقة آليان وجوارها من الريف الكوردستاني في سفوح الجزيرة العليا. كما تطورت في هذه السفوح القوى المنتجة، حيث توفرت أراضي خصبة ومياه سطحية كثيرة وأمطار مناسبة، لدرجة أن قدمت هذه المناطق وخاصة آليان عينة نموذجية فريدة لحالة الاستقرار والانتعاش الاقتصادي الريفي في مناطق شرق البحر المتوسط. بعكس ما افترضته إيرينا سميليلنسكايا: “لقد تميز تطور المجتمع في المشرق العربي، بالبطء ونلفت الانتباه هنا إلى التأثير السلبي العام الذي أحدثه الوضع الديمغرافي السيئ على تطور القوى المنتجة وما ارتبط به من مؤشرات الأزمة الايكولوجية التي ظهرت في هذه المنطقة في أواخر العصور الوسطى وعلى مشارف العصر الحديث، والتي تمثلت بانخفاض حاد في عدد السكان المؤهلين لفلاحة الأرض وزراعتها وأفسحت المجال أمام تدفق البدو الرحل إلى المناطق الزراعية. نتيجة لذلك أثرت الخصائص التي تميزت بها البنية الاجتماعية في هذه المنطقة على وتائر التطور الاجتماعي والاقتصادي فيها… وظهرت أشكال واسعة من مظاهر إفلاس الفلاحين بين وقت وآخر مما سبب تعطيلا مرحليا لدور القوى المنتجة في الزراعة.” (سميليلنسكايا،1989، ص286). كما ركزت على تناقص عدد سكان قرى بلاد الشام وعلى ضفتي الفرات وهجر الفلاحين لها لقرون عديدة لدرجة أن عممت هذا الافتراض على سهول الجزيرة العليا المتاخمة لجبال طوروس، فدراستنا لمنطقة آليان تظهر عكس ما افترضته، فلقد كان الريف الكوردي عامرا ومنتجا إلا المناطق التي دمرت بالحروب وتلك التي تقع في السهول الجرداء. هذا وقد كانت آليان أرض الخيرات الوفيرة حتى في مراحل الأزمات والحروب، فلقد صدف أن مر بها عدد من الرحالة إبان أزمة الحرب العالمية الأولى، فعلى الرغم من مآسي الحرب كانت الجزيرة العليا عامرة ومزدانة بقرى كردية عديدة، أما سهول الجزيرة الوسطى والبادية فقد كانت تجوب فيها القبائل العربية والكردية الرحل. هذا ما أكده الرحالة الحايك. ففي عام 1914م مر الرحالة الشيخ اسكندر الحايك من منطقة الجزيرة، ووثق المشاهدة التالية: “سرنا يصحبنا الشيخ محمد شليوح وفرسانه ما انتهينا إلى ديرونة الساعة الواحدة بعد الظهر فنصبنا الخيام في باحة قريبة من القرية إلى جانب نبع ماء وعلى مقربة من النقطة العسكرية وبتنا تلك الليلة مرتاحين مسرورين ساعدنا على ذلك اعتدال الهواء وجودته في تلك البقعة، وديرونة قرية صغيرة سكانها من الأكراد وهي جيدة المياه … وسافرنا من ديرونة[1] الساعة السابعة صباحاً فوصلنا إلى لنزادور[2] الساعة الثالثة مساء فبتنا في مكان قريب من ينبوع ماء غزير ومن حولنا البيادر العديدة وكانت ملأى بأصناف الحبوب كالحنطة والشعير والذرة والعدس والحمص. وكما بعد وصولنا إلى هناك ذهبنا لمقابلة شيخ القرية وطلبنا منه علفاً لدوابنا فرافقنا إلى حيث كنا نصبنا خيامنا وقال: اتركوا الدواب على البيادر …ولنزادور قرية صغيرة سكانها جميعاً من الأكراد وكلهم رعاة وفلاحون يحرثون الأرض ويستغلونها. وهي كثيرة المواشي والكلاء، أراضيها متسعة ومخصبة. ومياهها غزيرة تفي بحاجة الناس.” (الحايك، 1936، ص195)
6-1البقرة الضائعة والتاريخ المنسي
أكدت المشاهدات والروايات على وجود تمثال من الحجر لبقرة مع المعلف، كانت قائمة بجوار قرية آبر (عابرة) حتى أواسط القرن العشرين، ثم اختفت، وعلى الأرجح سرقت من قبل تجار الآثار. تدل هذه الحادثة على عدم اهتمام بالتاريخ والآثار، ومؤشر على إهمال شعبي وحكومي متعمد وكذلك سياسي. ثمال البقرة النادر في آثار المنطقة دليل إضافي على أهمية ومكانة الزراعة في المنطقة، وربما قدسيتها… فلم يسبق الذكر في أي رواية وجود أي معلم أثري في منطقة آليان، لكن الرمزية الصريحة سواء لدنان قرية كفري دنان، أو لنصب البقرة في قرية آبر كانت جديرة بالبحث والاهتمام نظرا لعلاقتهما الوثيقة بالزراعة والمجتمعات الريفية القديمة. ولن نبالغ إن افترضنا أن الزراعة والمياه كانت تمجد في المنطقة لدرجة التقديس، لكننا نفتقر الوثائق والدراسات الكافية، فقد ضاعت واختفت كما اختفاء نصب بقرة قرية آبر الحجري.
6-2 الرعي والحياة شبه الرعوية
لقد أدمجت الحياة الفلاحية الخاصة بمنطقة آليان نمطي الإنتاج الزراعي بالرعي معا مستفيدة من ميزات الجغرافيا والتضاريس المحلية، وخاصة في ظل وجود مراعي سهلية قريبة وواسعة. وتكمن هذه الخصوصية في بقاء قسم من العائلة في القرية لمتابعة أعمال الزراعة، في حين يخرج القسم الآخر من الأسرة لمتابعة رعي المواشي، خاصة لقطعان الأغنام الكبيرة. وذلك في دورة قصيرة طوال فترة الربيع، لذلك كانت تسمى باللغة الكوردية بهاريا (Buharîya) نسبة الى اسم فصل الربيع وتوقيت الرعي الخارجي الذي يبدأ فيه. حيث تشكل أشهر الربيع أفضل فترة للرعي في سهول جنوب منطقة آليان. هذا ما تصفه لنا المرحومة السيدة شمسة مرعي آغا: “أنا ابنة سليمان مرعي، ولدت في قرية كوندك، حوالي عام 1913، لكن الأتراك أحرقوها في إحدى غاراتهم بعد أن أحرقوا قرية آلاقمش ونفذوا فيها مجزرة، كما قصفوا ديرونا آغي.. حينها اضطررنا للرحيل إلى مكان آخر وبنينا قرية كوندك شلال … ما زلت أتذكر أيام طفولتي عندما كنا نذهب إلى مكان قرى قلعة الهادي وسليمان ساري الحالية، للقيام برعي قطعان أغنامنا، كنا نأخذ معنا الخيول الأصلية والجمال وأعداد هائلة من الماشية، لم نكن نرى أولها من آخرها، كنا نترك ديارنا طلباً للمرعى في شهري شباط وآذار ونغيب حتى موسم الحصاد. هكذا كانت طفولتي وشبابي أيضاً، الترحال من مرعى إلى آخر وتأرجح العيش بين عواميد الخيام وجدران البيوت، وبين حياكة السجاد وخدمة الضيوف” (ابراهيم،2003، www.amude.net)
6- 3 مرونة العلاقات الزراعية
تحول مجتمع آليان مع الزمن الى مجتمع فلاحي مستدام، تبلورت وترسخت هياكله الاجتماعية توافقا مع العلاقات الزراعية، وكانت هذه العلاقات تتسم بالمرونة بين أطراف العملية الإنتاجية، فكانت المنتجات الزراعية مخصصة للاستهلاك المحلي قبل استخدام فائضها في المبادلات التجارية، فضلا عن أن فائض المنتجات كانت تذهب الى مدينة جزيرا بوتان وسنجار على الأرجح. أما التراتبية الاجتماعية في مجتمع آليان الفلاحي فلم تكن قبلية، بقدر ما كانت متعلقة بعملية الإنتاج الزراعي. وكانت تنقسم الى الشرائح التالية:
أولاً: شريحة الملاكين. وهم من كان يملك أراض القرى الزراعية وملكلية القرى نفسها، وذلك بموجب عرف اجتماعي تم توارث الملكية أبا عن جد، أو بموجب صكوك وسندات ملكية عائدة للدولة العثمانية، وعملية توثيق الملكية بموجب صكوك الملكية المعروفة شعبيا ب (قوجانا) أو الطابو في العهود المتأخرة. وهي أساس تكون أصحاب الملكيات الزراعية: “قبل الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانت الأرض المزروعة ملكا للفلاحين أو تحت تصرفهم باعتبار أن رقبة الأرض للدولة. ومع ظهور قانون الأراضي العثماني عام 1885 وقانون الطابو 1863 بدأت تتشكل طبقة إقطاعية من الفئات المتنفذة استولت على الأرض، وحولتها الى ملكية إقطاعية في غضون ثلاث مراحل” (حنا، دمشق ب ت، ج4، ص253). كما كان يتبع الملاكين بعض العائلات من أقربائهم أو وكلائم في ظروف معينة.
ثانياً: العمال الزراعيون والرعاة، هم العاملون في الزراعة وأعمال رعي الأغنام، وكانت هذه في الغالب الشريحة الفقيرة والتي كانت لا تملك أرضا ولا تستثمر أراضي الملاكين وأصحاب القرى بشكل دائم، كما كانوا أشبه بالعمال المؤقتين، حيث كانوا يتنقلون بين القرى لتأمين فرص العمل وسبل المعيشة، لكن من كان يعمل في الزراعة كان أكثر استقرارا من يعمل في الرعي، فالراعي هو عامل مؤقت وان طال به الزمن في رعي قطيع عائلة معينة، سواء من أبناء الملاكين أو الفلاحين الميسورين. وكان الراعي في الغالب أعزباً، وان كان لديه عائلة فكانت تتنقل معه، وعلى صاحب المواشي تأمين السكن له ولعائلته. وكان كل من العامل الزراعي أو الراعي يعمل بأجر سنوي محدد. كما كانوا يوصفون بالمرابع في بعض الحالات، حيث كانوا يعملون في فلاحة الأرض بالمحراث الذي يجره الثور في الغالب أو الدواب الأخرى، مقابل ربع الإنتاج. وكانت شريحة من هؤلاء العمال الزراعيين لا يمتلك حتى المحراث، وإنما يقوم بتقديم العمل فقط لقاء ربع أو ثلث الانتاج حسب الاتفاق.
ثالثاً: شريحة الفلاحين، وهم ما يمكن تسميتهم بالشريحة أو الطبقة الوسطية بين الملاكين والعمال الزراعيين، فالفلاحون هم أبناء القرى الأصليون، وقد يكونوا من أقرباء الملاكين، لكنهم لم يكونوا يملكون وثائق تخولهم لملكية الأرض. لكنهم كانوا في الواقع أشبه بأصحاب الأرض الحقيقيين. كانوا يعملون في أراض مخصصة ومقتطعة لهم. كانوا يتكفلون بكافة الأعمال والأعباء في عملية الإنتاج الزراعي، كانوا يملكون المحاريث وكل أدوات الإنتاج الأخرى اللازمة. كان المطلوب منهم أن يقدموا نسبة من المنتجات الى المالك، تكون هذه النسبة
عادة حوالي 10% وقد تصل 15% في بعض الأوقات والقرى، هذه الشريحة المستقرة هي التي كانت تعمل في الزراعة وتحافظ على الأرض خلال أجيال متعاقبة. كما هي من حافظت على استمرارية الحياة في قرى منطقة آليان.
6-4 قوة المحراث
منطقة آليان هي إحدى المناطق الفلاحية النمطية التي كان عماد اجتماعها مرتبط بوجود واستمرارية جموع الفلاحين. فكان لكل قرية عدد من عائلاتها الفلاحية القديمة، مع عدد آخر من العمال الزراعيين والفلاحين الجدد، الذين ينضمون إليهم حسب الحاجة.
لقد كانت قوة القرية تقدر بعدد فلاحيها وبالتالي بعدد المحاريث التي تعمل ضمن حدودها. فكلما زاد أعداد المحاريث توسعت المساحة التي يتم استثمارها، وبالتالي يزداد الإنتاج والوفرة. لقد شكل المحراث قوة اجتماعية واقتصادية. كانت أداة أساسية للإنتاج طوال قرون من تاريخ المنطقة. فلقد تراوحت أعداد المحاريث في كل قرية من قرى آليان التاريخية بين (30 – 80) محراث (بوتكي، توفي 1995). علما أن كل محراث يجب أن يجره دابتان، وعند الحساب يحسب كل دابة بنصف محراث، فعند التشارك بين الفلاحين الفقراء، فكل واحد ممكن أن يقدم دابة ويمتلك نصف المحراث، الذي كان يسمى اصطلاحا بالكوردية (نيف جوت). في حين كان من الممكن أن يمتلك فلاح ميسور أكثر من محراث بحسب سعة أفراد الأسرة وتوافر حيوانات الجر، من بغال وهي أفضلها وثيران، أو حتى الحمير أو غيرها، في حال عدم توفر البغال.
لقد كانت قوة قرى آليان تكمن أساسا في كثرة عدد محاريثها، وبالتالي في كم إنتاجها. من جانب آخر كان أصحاب القرى والآغاوات يفتخرون أحيانا بعدد المحاريث التي تعمل في قراهم، فقد كانت أعداد المحاريث مؤشرا على القوة والنفوذ. لدرجة أن أحد وجهاء المنطقة قد بين أن قوة القرية أو الآغا كانت تكمن في عدد محاريثه وبالتالي بعدد فلاحية (جميل عليوي، 2018)، فالفلاح كان القوة المنتجة الأولى فضلا عن كونه قوة بشرية وثقل ديموغرافي في وجه المنافسين.
6-5 تنوع الحياة الفلاحية
أغلب أبناء هذه الشريحة الفلاحية كانوا يعملون جزئياً في الزراعة، وكان قسم منهم يبدو كملاكين صغار، وأرباب عمل، حيث أن لدى بعضهم عمال زراعيون، يعملون بشكل رئيسي في تربية الماشية، خاصة الأغنام والماعز. لذلك نجد أن حياة فلاحي آليان كانت مرنة، غير متشبثة بالقرية تماما. بل كان قسم منهم خاصة من يملك عددا كبيرا من المواشي يرجح كفة عمله في تربية الحيوان على الفلاحة، وكان يمتلك أغلبهم الخيام لاستخدامها في عمليات التنقل مع المواشي (بوهاريا). لذلك يمكن تصنيف قسم من فلاحي آليان بأنصاف الرحل على الرغم من امتلاكهم للأرض وعملهم في الزراعة. هذا ما أكده الرواة وكذلك مشاهدات العديد من الرحالة في القرنين (18 و19). فكثيراً ما كانت القرية في منطقة آليان تخلو من سكانها جزئياً ويظل فيها الفلاحون الذين لا يملكون الأغنام، وبعض كبار السن، أما العائلات التي كانت تمتلك قطعان الماشية فكانت ترحل جنوباً وترعى بأغنامها في السهول الجنوبية المحاذية لنهر (هزافي) والواقع شمال غرب جبل سنجار، كما سبق ذكره.
ثمة مؤشرات تبين اهتمام العائلات الفلاحية أكثر بتربية الماشية منها بفلاحة الأرض نظراً للفائدة المباشرة والسريعة من الأغنام والألبان. كما يعود ذلك لاتساع ووفرة المراعي في جنوب منطقة آليان.
6-6 التوزيع العادل للمنتجات الزراعية
هذه المرونة في الحياة الاجتماعية والتنوع في مصادر المعيشة أثرت بدورها على طرق توزيع المحاصيل التي كانت تتم إنتاجها، فاتسم التوزيع بالعدالة والمرونة نسبيا. فلم يكن هنالك مبالغة في حصة المالك، كما لم يكن يتم استغلال العامل الزراعي بشكل حاد. فالتوزيع العام لإنتاج المحاصيل الزراعية كانت حسب حصص شبه متقاربة بين الفلاحين والعاملين الزراعيين من جهة والمالك من جهة أخرى، بحيث كانت الحصة في حدودها الدنيا بالنسبة للمالك أو الآغا. إذ كان التوزيع في الحصص على الشكل الآتي في أغلب الحالات وبحسب معظم الروايات:
حصة المالك أو الآغا: تتراوح كحد أدنى بين 10% إلى 15% من المجموع العام للمحصول، وقد تصل في بعض الحالات الى 20%.
حصة العامل الزراعي: تتراوح بين 25% 33% من القسم المتبقي من المحصول.
حصة الفلاح: الذي يعمل بنفسه في الأرض ويمتلك المحراث كانت تتراوح بين (85 – 90%)، أما إذا كان لديه عامل زراعي فكانت حصته تنخفض حتى 60%.
وبذلك يمكن وضع تصور لحالة التشارك في العمل الزراعي وقدرة علاقات الإنتاج الزراعية المحلية في المحافظة على التماسك الاجتماعي، إذ تشير أغلب الدلائل والروايات بأن عائلة الآغا غالباً ما كانت تكتفي بنسبة العشر وكأنها ضريبة تفرض لأغراض حفظ الأمن وتأمين مظلة للفلاح للاحتماء بها سياسيا واجتماعيا.
وقد يكون هذا التوزيع مصدرا لحياة اجتماعية اتسمت بالاستقرار، نظراً لتشارك ثلاث شرائح اجتماعية بحصص متقاربة ومنسجمة في الإنتاج الزراعي كما أن الحياة النصف رعوية جعلت من الضغط الاجتماعي على أسلوب التوزيع للمحاصيل الزراعية خفيفاً وغير تناحري، لأنها كانت توفر دخلا آخر، بل اضافي للفلاحين.
– يتبع في العدد القادم –
××××××
الهوامش:
[1] هي قرية ديرون آغا مركز منطقة آليان.
[2] هي قرية أزناور غرب ديرون باتجاه نصيبين.
——-
المراجع والمصادر: (بحسب تسلسلها في النص)
1) كوفان، جاك. (1999)، الإلوهية والزراعة، ثورة الرموز في العصر النيوليتي. دمشق: المديرية العامة للآثار.
2) ميلات، جميس. (1990). أقدم الحضارات في الشرق الأدنى. دمشق.
3) الدويكات، فؤاد عبد الرحيم. (2013م)، الأحوال الزراعية في إقليم الجزيرة الفراتية في العصر الأموي. المجلة الأردنية للتاريخ واللآثار. المجلد 7، العدد 1
4) ابن حوقل، أبي القاسم النصيبي. (1992). كتاب صورة الأرض. بيروت: مكتبة دار الحياة، نسخة معدلة عن طبعة ليدن الأصلية
5) برصوم، أفرام. (1963). تاريخ طور عبدين. بيروت
6) داؤود، إسكندر. (1959). الجزيرة السورية بين الماضي والحاضر، دمشق
7) أحمد، د. جمال رشيد. (2005). ظهور الكورد في التاريخ. أربيل: دار آراس
8) علي، آزاد أحمد. (2002). قرى الطين. دمشق: وزارة الثقافة
9) المجموعة الإحصائية السورية لعام 1960- مجلد محافظة الحسكة، دمشق
10) كحيل، مصطفى. (2018)، حجرة شيخ محما. مجلة الحوار، العدد 71، قامشلي
11) سميليانسكايا، ايرينا. (1989). البنى الاقتصادية والاجتماعية في المشرق العربي على مشارف العصر الحديث. بيروت
12) الحايك، الشيخ يوسف. (1936). رحلة في البادية. لبنان
13) بكنغهام، جيمس. (1968). رحلتي إلى العراق بغداد
14) ابراهيم، بيوار. (2003). ضرائح الحكايا حوار مع سيدات من آليان. موقع عامودا نت، على الرابط: http://www.amude.net/erebi/nerin/bewar-shemse-emina.html
15) حنا، د. عبد الله وآخرون. (ب ت)، وآخرون. ملامح من تاريخ نضال الفلاحين في الوطن العربي ونضالهم في القطر العربي السوري. الاتحاد العام للفلاحين. دمشق.
16) يوسف، عبد الرقيب. (1975). حضارة الدولة الدوستكية، بغداد
17) شميساني، د. حسن. (1983). مدينة سنجار. بيروت
18) علي، د. آزاد أحمد. (2019). زمن الأنظمة الاستبدادية، أربيل: مركز رووداو للدراسات
19) لقاءات وحوارات منهجية مطولة مع مجموعة من الرواة والشخصيات من أبناء منطقة آليان، تم توثيقها بالتسجيل الصوتي والفيديو أحيانا. ورد أسماء بعض منهم داخل المتن. وذلك ضمن جولات ومعاينة ميدانية للقرى والمواقع الأثرية، وكذلك دراسات ميدانية مطولة لرصد الحياة الاجتماعية في المنطقة.[1]