“عندما تعاديك الجغرافية تفقد الأمان الداخلي”
مالفا علي
إنها الرابعة وما يقارب عشرون دقيقة فجر الاثنين السادس من فبراير /شباط 2023 ، ليلة مرعبة وأحداث جمدت الدم في عروقي…
شعور بالغثيان قض مضجعي وأيقظني ،ارتطمت عيناي بالحائط وإذ به يتحرك يميناً ويساراً ، لأصادف لوحة رسمتها أنامل شقيقتي منذ عدة سنوات لسيدة تحتضن فتاتها الصغيرة ، لتحميها من قذارة المتوحشين ممن لبسوا قناع البشر ،فجأةً أرى السيدة تخرج من اللوحة هاربة وتاركة طفلتها ورائها تنوح بين ألوان اللوحة ،التفتُ بسرعة إلى طفلي بجانبي نائم بسلام يحيك أحلام المستقبل ، لربما لعبة جديدة وحديقة واسعة ليلعب فيها معي ومع أبيه.
لوهلة ظننت أنني أحلم أو غادرت إلى كونٍ آخر أو أنّ قذيفةً ما أصابت منزلي، توقعت كل شيء إلا أن نتعرض لعدوانٍ غاشم من الجغرافية وتغزو مضاجعنا ليلاً وتسرق أسطح وجدران منازلنا لتخطف الأرواح التي لجأت إلى تلك البيوت.
هزة أرضية أصابتنا وأصابت صميمنا لتزيدنا ألماً ومرضاً.
أصوات خارج المنزل ،سكان الحي كلهم في الخارج يهرعون خوفاً على أرواحهم وأبنائهم إلى الشوارع لتستقبلهم الأمطار والعواصف بأعتى صفات البرد ،يا الله قضينا هذا الشتاء ونحن ندعوا أن تغزو أمطارك سمائنا وتحتضن ترابنا لكن يا الله عفوك ليس هذا الصباح،الأطفال يختبئون تحت أجنحة الأمهات والآباء ،لكن الآباء والأمهات أين يختبئون من مخاوفهم !؟
مثلَ كُل السكان احتضنتُ ابني ورميته بين ضلوعي أعطيته من الأمان ما يكفي تلك الثواني لأنظر إلى نفسي وأرى روحي عارية من الدفء والأمان .
كان زلزالاً أصاب الأرض ،لكن ما أعلمه أنا ،أنّ الزلزال تسلل إلى قلبي مخترقاً الخلايا فالجلد والعظام ،حول مملكتي الداخلية من آمنة ودافئة إلى ثلاجة لدفن الموتى .
لحظات وافتقدَ قلبي الاستقرار ،مشاعر مختلطة مرتطمة بجدارن المنزل والأمان هرب من مُقلتي وقلبي ، زحفاً مع حركات اللوحة على الجدار .
كل أناملي ترتجف ليس برداً وإنما خوفاً من الأرض التي قد تبتلع كل ما هبَّ ودبَّ على وجهها،كلُّ هذه المشاعر حولت جُدرانَ منزلي إلى سجنٍ موحش ضيق ومظلم يهدد حياتنا.
أين أنتَ يا علاء الدين؟! كي تُعيرني مصباحكَ السحري وأحول الموت إلى حياة ..
لأحول الزلزال إلى دبكة لطيفة ومنعشة..
لأجعل البشر ترتشف الراحة والأمن ، عوضاً عن القهر والعذاب .
قدماي تخطفاني إلى عالمٍ آخر ثم ترمياني في زاوية البأس من مخيلتي المتعبة لأدرك أن الأرض تتحرك مجدداً تحتنا ونعيش حالة زلزال هو الأخطر منذ قرون ، واجهته هذه المنطقة .
أعصر أصابع ابني في يدي اليمنى وأصابع زوجي في يدي الأخرى ليضمنا ونتوحد خوفاً من الفقدان ،لوهلة ظننتُ أنَّهُ العناق الاخير لنا كعائلة ،إن كان ليكن ،لكن سنكون عائلة في مغادرتنا للسماء .
شجعتُ قلبي أن هذه ليست النهاية ، لكن رداء الخوف خطف مني تلك الشجاعة.
هذه اللحظات لم تعادلها كل الجرعات السابقة من الرعب التي أخذتها بسبب الاحتلال والحرب منذ 12عاماً، هي تساوي دهراً كاملاً من معركة غير عادلة من المكابدة والنضال والألم والتلظي بمشاعر الخوف والحزن .
كنت أظنُّ أن امتلاك سلاحٍ متطور ودعمٍ دولي كفيل أن ينهض بنا من مُعاناتنا ، لكن ثلاثونَ ثانية كانت كافية لتدمرَ تلك الظنون وتُبدد الأمل في حُجر عينيَ ،وتقفل الباب على الحرية والحياة …
ثلاثونَ ثانية حولت نسمات الريح إلى مرض الربو غازياً رئة الشمال السوري …
ثلاثونَ ثانية اختصرت قصة الحياة والأمل ولخصتها بكلمة “زلزال “
لأول مرة أدركتُ أن ليس كل أنواع الرقص مفرح ، رقصة الأرض قاتلة ، سامة، خطيرة .
أدركتُ أن تحديها و محاولة مجاراتها أو حتى تقليدها ليس بممكن وأنها أقوى من الحرب والحب .
هذا الشتاء حول الأرض إلى فأسٍ ظالمة اقتلعت آلاف الأرواح من الأعناق ،حبالٌ سرية مزهوقة ، أنفاسٌ مخنوقة، جدران آمنة تحولت إلى قيود سامة .
على الطرف الآخر من هذه الثلاثون ثانية كان هناك العالم الخارجي الذي ذرف الدموع على من فقدناهم وبعضهم تضامن بكلماته معنا، كل العالم يعلن تضامنه لكن لا أحد أرسل ذاك التضامن في صندوق الإسعافات الأولية ولا رفع الجدار الغادر عن الطفل الصغير .
ذاك المتضامن لم يعطيني شعور الأمان ، لم يعطني أملاً أن الحياة ستعود إلى الشمال السوري المنكوب .هي ثلاثون ثانية من عمري سرقت مني ثلاثين سنة ورمتني ثُكلى الكبد على وطني المحطم تحت رماد الجغرافيا اللعينة ، مابين رحمة السماء والأرض لم نحصل سوى على الموت .ثلاثون ثانية كانت كفيلة لأدرك من أنا ومن أنتم ..
لأدرك أننا واحد لا الدين ولا السياسة ولا التراب تجعلنا نختلف …
كل المشاعر التي خالجتني جعلتني أدرك أننا واحد
ثلاثون ثانية بقدر ما جعلتني أعاني وأتحطم بقدر ما جعلتني اكبر عقوداً من الزمن
مازلت حية ولم أتضرر من الزلزال جسدياً أو مادياً لكن تضررت روحي ، فقدتها تحت الأنقاض مع أكثر من/6000/فقيد ،فقدتها تحت حُطام الهلع والخوف مع سكان مدينتي ووطني .
هذه المرة ليس تجار الحرب من نهبوني بل الأرض فعلت حينما رقصت على أرواحنا وكومت حطام الأبنية على حناجر أطفال جنديرس واللاذقية وحلب وشمال كردستان هي التي أحالتني إلى صحراءٍ قاحلة من الأمل . تلك السيدة الجميلة عندما هربت من اللوحة وتركت فتاتها الصغيرة متأرجحة على جدران غرفتي سجنتني في أزقة الوطن ثم غمرتني بالخوف ورمت المفتاح في تشققات الأرض. بعد الزلزال نحن الآن نعيش مع رداته بين الحين والآخر أتذكر تلك المقولة التي قالها احدهم (كل الطرق تؤدي إلى روما)
لكن أنا سأغيرها قليلا وأقول عوضاً عن روما ، أن كل الطرق تؤدي بينا إلى” الموت “.
التاريخ بأوراقه البيضاء والملونة وخرائطه الخضراء والزرقاء سيكتب عن جيلنا الذي عاصر الحرب والموت والجوع وزلزال القرن ….
الجغرافية بصفائحها ونواتها وقشور الأرض وصخورها وبحارها ستكتب عن قوة هذا الزلزال الرهيب ،سنتحول إلى ارقام محفوظة في الجداول والخطوط البيانية العالمية.
محرك كوكل سيحفظ هذه الأرقام والتواريخ ويظهرها لمن يبحث عنها ليكتب بحثاً عن الكوارث الطبيعية في القرن الواحد والعشرين .
قد نتحول إلى قصة مُرعبة تلقنها الجدة لأحفادها لتشعرهم بالذعر كي لا يقتربو من عصاها او يعبثوا بنظاراتها ،
وقد نتحول إلى سطرٍ مختصر في تقرير إخباري ليشهد به المراسل أمام الجمهور كم أن معلوماته قوية ومثقف متمكن من مهنته ، لكن لا أحد عاصر الزلزال يستطع أن يدرك أكوام المشاعر المرعبة والمختلطة التي أحسسناها .
أنا الآن أعدُ صرّة من الذكريات والمشاعر المؤلمة عن صباح الاثنين المشؤوم السادس من فبراير /شباط ، لأرمي تلك الصرّة بين عويل الأمهات والأطفال لأرميها بعيداً عن طفلي وذكرياته .
لا أريد لزلزال قتل الأرواح أن يكسوني في ممشاي في هذه الحياة .
مشاهد الألم والدمار ونظرات الحسرة في عيون من فقدوا أحبتهم وعوائلهم تمزقني وتمزق كل من يعيش في هذه الجغرافية …
احتضن طفلي لكن أشاهد الآلاف يتحسرون حتى على احتضان جثث أطفالهم .
آباء وأمهات فقدوا أبنائهم وأبناء فقدوا أهلهم كل هذه المشاهد لا أعلم متى ستتركني ، وتحررني من القوقعة المميتة التي أعيش فيها حالياً .
أما ذاتي ، هي مهددة بالانهيار كتصدعات جدران منزلي
كل جسدي مهدد بالسقوط في جلد الجغرافية
كصحفية وأم أنا أُعلن خذلان ذاتي أمام هذا الزلزال
ذاكرتي باتت تخترق ذاتها لتبتلع نفسها وتجتزئ منها حياةً كاملة ..
أترقب الجدران ،الأهالي ،الحواري منتظرة ما لا نحبذ قدومه .
الذعر يرقص بين جفوني ويأبى الخلود للنوم
لكن في المجمل أعلن “أن ذاتي منكوبة مع موطني المنكوب “
لحظات من الرعب عشتها مع عائلتي وسكان المدينة ،سيلخصها التاريخ بكلمتين “زلزال بقوة 7,6 “
أما أنا سألخصها “بثلاثون ثانية من عدوان الجغرافية “[1]