يلماز كوناي – لقاء في السجن
ترجمة وتقديم : بُرﮪان شاوي
في العام 1987 صدر عن دار العلم ( ناوكا) في موسكو كتاب بعنوان ( يلماز كوناي ) من تأليف الصحافي والكاتب السينمائي الأذربيجاني ( حسينوف ). والكتاب في مجمله هو لقاء طويل، تم على مراحل، مع السينمائي الكردي، التركي، الراحل، (يلماز كوناي )، حينما كان في السجن. وكنت قد عزمت وقتها ( بعد صدور الكتاب ) على ترجمته الى العربية، وفعلا بدأت بترجمته، لكنني توقفت لأسباب وظروف مختلفة، رغم ان الكتاب ليس كبيرالحجم أبدا. المهم، حينها نشرت ما ترجمته في مجلة ( الاغتراب الأدبي) التي كانت، ولسنوات، تصدر من لندن. ولم يتسنَ لي مواصلة الترجمة، بل انني ونتيجة التنقل فقدت الكتاب نفسه. والآن، وبعد هذه السنوات، أعيد نشر ما ترجمته من هذا اللقاء في ( تيريز)، وفي باب (السينما الكوردية)، لسببين، أولهما هو أرشفة كل وثيقة أو خبر أو بحث أو نص له علاقة بالسينما الكوردية، بحيث يكون هذا الباب أقرب إلى( بنك المعلومات) فيما يخص السينما الكوردية، وثانيهمالأرشفة كل ما له علاقة بيلماز كوناي، وأن نتعرف على سيرة حياته كما يرويها هو نفسه..دونما تأويل أو تفسير أاو تضارب في المعلومات، لا سيما وأن الجزء الذي ترجمته له علاقة بهذا الأمر. ولا أدري إن كان هناك من الإخوة والأساتذة من الكرد الذين درسوا في روسيا، ممن لديهم علاقة بالسينما أو الأدب او الصحافة قد أقدم على ترجمة هذا الكتاب الى الكوردية، فيكون بذلك قد قدم خدمة كبيرة للثقافة والفن الكوردي.
* اسمك الكامل ؟
– يلماز حميد، وأمي اغلو بيتون.
* أين ومتى ولُدت..؟
– في الأول من نيسان العام 1937 في قرية ( اينجة) على مبعدة 27 كلم من مدينة ( أضنة).
* لماذا يكتب البعض تاريخ ولادتك في العام 1931؟
– إنﮪم يخطئون.
* حدثنا، رجاء، بالتفصيل عن طفولتك وإبداعاتك؟
– أبي وأمي أكراد. أمي من عائلة غنية،هربت العائلة بعد زحف القوات القيصرية في الحرب العالمية الأولى. أبي على العكس..، إنه من عائلة فقيرة جدا،في شبابه كان أبي مضطرا لهجر أهله خوفا من الانتقام العشائري،وحدث أن التقيا في(أضنة) وتزوجا. لم يكن عندهما مال او أرض لذا عاشا المرارة لفترة، لكن حالف الحظ أبي لاحقا، فعمل ملاحظا في شركة تابعة لإقطاعي كبير مما انعكس على حياة العائلة ماديا.
كانت طفولتي سعيدة حتى السابعة من عمري، حتى تلك اللحظة التي جاء أبي فيها بامرأة ثانية. منذ ذلك اليوم لم تهدأ حياتنا العائلية، بل تحولت الى جحيم. أبي كان يضرب أمي دائما، وكان يطردنا أحيانا من البيت. في تلك الفترة، كانت لي أخت اسمها (ليلى) تصغرني بسنتين،وكانت عند بابنا قد نمت شجرة توت واثنتان من اشجارالتين، وحينما كان أبي يطردنا كنا نرقد تحت ظلال هذه الأشجار.
ذات مرة اتجهنا ثلاثتنا الى مدينة (أضنة) حيث كان يعيش ابن عم لأمي، وطوال الطريق كانت أمي تبكي وتغني أغاني كوردية حزينة.. ورغم انني وأختي كنا نعرف لغتنا الأم بشكل سيء، فلقد كنا نرفع أبصارنا نحو أمنا ونذرف الدموع. عندها كنت أفكر بان تعاستنا لن تنتهي، ووددتُ لو أموت كي لا أرى أمي تتألم. ثم بدأت العمل. ومنذ الصغر.. وفي مواسم قطف الفواكه في المزارع، وقطاف القطن ( يخرج يلماز فيما بعد افلاما عن الانتقام العشائري، وعن عمال التراحيل الموسميين عند قطاف القطن..- م )،..ثم حمّالا. في القرية كنت قد أنهيت الصف الثالث الا بتدائي، وبعد وصولنا الى (أضنة) أنهيت دراستي الابتدائية والمتوسطة والثانوية، أدرس وأعمل. في البداية كنت أبيع الكرزات في الشوارع، ثم بائع صحف، ثم عملت بقالا..، كما عملت ميكانيكيا لآلات التشغيل السينمائي في الشركات. في البداية في شركة (اندفيلم)، وهي استوديو سينمائي ودار عرض، بعد ذلك في (كمال فيلم). كنتُ أتنقلُ بين القرى لعرض الأفلام، كما كنت أمثل ككومبارس أيضا، ويمكن القول ( هنا يبتسم يلماز) هكذا دخلتُ عالم السينما.
* فيما بعد أين درست؟
– في العام 1956 دخلت كلية الحقوق في جامعة أنقرة، لكنني درست لمدة شهرين فقط. حينها لم أجد عملا، وكما ترى كان يجب ان أعيش وأساعد عائلتي التي نمت خلال هذه السنوات حتى أصبحنا أربعة إخوة وأختين. لذلك كنت مضطرا للعودة الى (أضنة). وبدأت العمل مباشرة في شركة لتأجير الأفلام. نهاية العام 1957 وصلت الى أستنبول مستمرا بالعمل لدى المركز الرئيس لمكتب الشركة(دار فيلم). وفي العام 1958 سجلت في كلية الاقتصاد بجامعة استنبول، لكنني لم أستطع إنهاء الدراسة لأنني اُعتقلتُ العام 1961 وكان ذلك لأول مرة. بعد ذلك واصلت الدراسة ذاتيا، قرأتُ كثيرا ودرست في جامعة الحياة.
* كيف جئت الى الفن..؟
– قبل كل شيء، أنا مدين بذلك لأبي وأمي..,أقولها صراحة. رغم ان أبي كان يؤذي أمي دائما، لكنه كان يحب ابناءه كثيرا، خاصة أنا، أول العنقود. إذ كان يدفع آخر قرش لديه من أجل ان أواصل تعليمي.
أبي، وكذلك أمي كانا يغنيان بالكوردية أجمل الأغاني وأكثرها حزنا. وكان أبي يعزف على الساز( السنطور)..وكانت العوائل تدعوه في الأعياد وعند ميلاد الابناء وفي الاعراس أو عند أفراح الختان، فكان يأخذني معه في كل هذه اللقاءات. كنت أستمتع جدا بغنائه وعزفه. أما أمي فكانت خلال ليالي الشتاء الطويلة تقص علينا أقاصيص من التاريخ الكوردي، ومن الأساطير والخرافات الكوردية، فكان بيتنا يزدحم بالجيران الذين كانوا مستعدين للسماع حتى الصباح. كنت أود ان أكتب كل تلك الأقاصيص لكنني حينها لم أكن أحسن ذلك. وكان في قريتنا رجل عجوز اسمه ( يعقوب ) يغني جيدا ويعزف على الساز وينظم الشعر والأغاني. وتصادقنا، أنا وهو، ..كان يحبني، فلقد علمني كيف أنظم الشعر.
في الثالثة عشرة ولأول مرة دخلت السينما. وفي الرابعة عشرة أصبحت كما ذكرت مشغلا لماكنة العرض.. ثم بدأت كممثل كومبارس، وهنا بدأت حياتي تدخل منعطفا.
* متى وكيف بدأت الكتابة؟
– في السنة الثانية من المرحلة الإعدادية كتبت قصيدة للنشرة الجدارية عن فلاح فقير يأتي بزوجته المريضة إلى المدينة، ولم يكن عند هذا الفلاح أي شيء من النقود، لذا فلقد حمل إلى الطبيب المعالج ديكاً، وهو أغلى ما لديه، إلا ان الطبيب حينما علم بان الفلاح لا يملك نقودا طرد الثلاثة، الفلاح وزوجته المريضة والديك. ( بعد سنوات يخرج يلماز فيلم ( القطيع) عن فلاح يأتي بزوجته المريضة الى المدينة.. لكن مع أحداث أكثر مأساوية – م ). القصة لم تنشر بدعوى انها يسارية، رغم انني في هذه الفترة لم أكن اعرف ماذا تعني اليسارية.
وفي العام 1953- 1954 بدأت بكتابة المقالات والقصص القصيرة. فكنت أرسلها الى الصحافة المحلية والمركزية. وفي منتصف العام 1954 أخذت مقالاتي وقصصي تظهر على صفحات الاعداد الخاصة ليوم الأحد في الصحف، وحتى نهاية هذا العام أخذت نتاجاتي تنشر في المجلات.
أهم قصة نُشرت لي حينها كانت تحت عنوان( الموت يدعوني)، تتحدث عن الحب المأساوي لاثنين من الفلاحين الفقراء، فالشاب لم يكن باستطاعته العمل وتأمين مستقبل العائلة فيهجر حبيبته التي تنتحر وتترك قصاصة من الورق كتبت له فيها( لماذا قتلتني، لقد أردتُ أن أعيش لكي أحبك)، وكذلك قصة (ليس ثمة من نهايةللإهانات)، وهي تتحدث عن شخص يبحث عن عمل، ويتحمل في بحثه ما لا يحصى من الإهانات، ورغم ذلك فلم يحصل على عمل فيلقي بنفسه من الجسر الى الماء.. القصتان نشرتا العام 1956 في مجلة (أيتي أوفوكلار – الأفق الجيد ). ولكن الأكثر ضجيجا كانت قصتي( الأسرار الثلاثة لأسباب عدم المساواة الاجتماعية) التي نُشرت في مجلة (البحوث الفنية – انوج – العدد 13)، هذه القصة أصبحت مرحلة في حياتي، حيث كان دويها وانعكاسها واضحا وبارزا طوال مسيرة حياتي اللاحقة. لذا فحينما جئت إلى استنبول العام 1957 كان لديَ اكثر من ثلاثين مقالة وقصة منشورة.. حينها منحني أصدقائي اول لقب ( القاص يلماز).
* هل بالإمكان، ولو باختصار، أن تحدثنا عن هذه القصة، لأنني لم أجد عدد المجلة التي نُشرت فية قط؟
– ولن تجده،لأن العدد لم يظهر الى النور، إذ احتجزه الرقيب، وكل النسخ قصت ومرت تحت السكين. أما القصة فقد كانت عن اللامساواة الاجتماعية في البلاد. فأحدهم يعمل والآخر يجني ثمارعمله. الأول يعيش في البؤس كما يعيش الإنسان البدائي والثاني يحصل على الشهادة العالية والضمان الصحي وضمانات الحياة الأخرى وهو يحاول ان يفرض سيطرته على الأول بواسطة ثلاثة عوامل: المال، والدين، والتقاليد. طبعا الأحداث مأخوذة من واقع الحياة، لكني أُتهمتُ حينها بالشيوعية.
* لقد قرأت رواياتك، والكثير من قصصك، وشاهدت أفلامك، وأعرف جيدا أرضيتك السياسية، لكن بودي ان أعرف أيضا الأشياء الأخرى التي أثرت في تكوين وعيك؟
– الحياة..؛ البيئة التي ترعرت وسطها. في طفولتي لم أشعر بانتمائي الكوردي، فحولي كانوا يتحدثون بالتركية. ,أعيدها هنا وأكرر، بأنني كنتُ أتحدث لغتي الأم، لغتي الكوردية، بشكل سيء. فلقد كان العداء بين السكان الاتراك والأكراد، أو قل النظرة العدائية ضد الأكراد والقوميات الأخرى واضحة للعيان.. وهذا الوضع فجر لديَ مشاعر المحبة إزاء المهاجرين.
أثناء لعبي مع ابناء الأغنياء، وانا صغير ، فهمتُ ماذا يعني التفاوت الطبقي. أمي كانت تعمل صيفا في الأرض مع أبي، وفي الشتاء كانت تعمل كخادمة في بيوت الأغنياء، وكانت تحمل معها بقايا الطعام الذي لم يتلف بعد. ولكن مع مرور الأيام كنت أتفهم بأن هذا الوضع مهين..؛ فكنت أصارع شعورالذل في أعماقي.
شكليا، العلاقة بين الإقطاعي والفلاح مبنية على أسس ديمقراطية، فالفلاح يشرب القهوة وكذلك الإقطاعي، وقانونياً إنهما متساويان بالكامل في الحقوق الاجتماعية، لكن الاضطهاد والاستغلال لا يتأثران بهذا.
أبي كان يحلم دائما في أن أواصل تعليمي، كان يقول:( اذهب الى المدرسة يابني وتعلم كي لا تصبح عبداً مثلما صرنا نحن)، لكنه لم يفهم بأنه في المجتمع البرجوازي يمكن أن تصبح عبداً حتى وإن كنت متعلماً.[1]