#عوني الداوودي#
لا شك بأن كركوك مدينة عريقة وموغلة في القدم ، حيث يعود تاريخها إلى العصور الغابرة ، وتشهد قلعتها المنتصبة على الجانب الشرقي من نهر خاصة داخل المدينة على ذلك ، تعتبر كركوك من المدن التاريخية المهمة التي أنشئت خلال فترة ازدهار حضارة وادي الرافدين ، وتشير الدلائل التاريخية بأن الكوتيين على الأرجح هم الذين وضعوا اللّبنات الأولى لبناء هذه المدينة ، حيث أثبتت الحفريات الاريكولوجية بأنه كانت هناك مدينة تعرف ب آربخا أو أرنجا أو آرفا وتؤكد هذه الحقيقة دائرة المعارف الإسلامية حيث وردت فيها حول مدينة كركوك . أن كل من ( S . H . Gadd جاد ) وسدني سميث ( Sidney Smith ) يعتقدان بأن كركوك الحالية هي نفس المدينة التي كانت تعرف ب ( آربخا ) . ولهذا عمدت بلدية كركوك بإطلاق هذا الإسم التاريخي (آرفا ) على الحي الجديد الذي أنشأ لعمال وموظفي شركة نفط العراق بالقرب منها وتداولت إلى عرفة الحالية . بينما كان البابليون يطلقون عليها اسم ( آميخة ) أي ( عرفة )
يذكر العلامة توفيق وهبي : بأن كركوك مدينة قديمة ، وهي أقدم ذكراً في المسمارية من مدينة أربيل، وأقدم ما لدينا من المعلومات الخاصة بكركوك، هو ما جاء في التقويم الجغرافي المشهور، عن ممتلكات ( سرجون ) ( سركون ) الأكدي ( 2530 2473 ق . م تقريباً ) ففي التقويم المذكور نجد إسم بلاد ( أربخ ) بين أسماء أخرى ك ( الآشورية ، اللولوبي ، الكوتيوم ، والأكد … إلخ ) وقد شخصت ( أربخ ) بمدينة كركوك . [2]
وجاءت التسمية نفسها ( أرابخا ) لمدينة كركوك في كتاب فاتحة انتشار المسيحية في إمبراطورية الإيرانيين ( ميسوبوتاميا وإيران ) 100 537 . [3]
وجاء في العراق قديماً وحديثاً ، للسيد عبد الرزاق الحسني ، بأن ( سردنابال ) ملك الآشوريين هو الذي أنشأ هذه المدينة مستنداً إلى بعض المصادر السريانية . في حين يذهب الدكتور شاكر خصباك في كتابه الكورد والمسألة الكوردية [4] إلى أن الكوتيين هم الذين شيدوا هذه المدينة . وجاء أيضاً في كتاب لمحات تاريخية لليلى نامق جاف بأن الكوتيين عاشوا في هذه المدينة واتخذوا من مدينة ( أرابخا ) مركزاً لهم . [5]
ويؤكد الدكتور شاكر خصباك مرة أخرى في كتابه ( العراق الشمالي ) : واعترف السومريون وكذلك الاكديون من بعدهم بمملكة الكوتيين التي كانت عاصمتها أرابخا ، والتي ربما كانت تقع قرب مدينة كركوك الحالية .
ومن خلال تتبعنا لمنشأ وتطور هذه المدينة ( آربخا ) نصل إلى تأييد القول الذي يؤيد تشييدها من قبل الكوتيين .
حيث سجل ( تكلت نزت ) الأول ، الملك الآشوري ( 1255 1218 ق.م ) أنه فتح بلاد ( أربخ ) ، وكان أول ملك آشوري استولى عليها . ثم وقعت بعد ذلك بيد الملك العيلامي ( شهلك أنششنك ) ( 1165 1151 ق . م ) . [6] أي بعد نشوء مدينة أربخ بحوالي عشرة قرون ، لهذا يستبعد إنشاءها من قبل الآشوريين .
أما الأستاذ كريم زه ند فإنه يرى أنه في حدود القرن السادس قبل الميلاد أطلق على المدينة إسم كاركوك من قبل الأهالي وهذه الكلمة كانت متداولة أيام السومريين ، وهي في الأصل متكونة من ( كار ) بمعنى العمل و ( كوك ) أي الشديد والمنتظم أو العظيم [7] . والكلمتان كورديتان ، ومتداولتان إلى يومنا هذا . [8]
لكن العلامة توفيق وهبي يرى ، بأن إسم كركوك الحالي مشتق من ( كرك القلعة ) . [9]
يذكر التاريخ بأن كركوك كانت جزءاً من الإمبراطورية الميدية بعد تحالفهم مع الباليين الجدد، والذي نتجت عنه سقوط الإمبراطورية الآشورية وتدمير عاصمتها نينوى ، حيث أطلق الميديون إسم ( كي ه رك ) على المدينة .
وكان الساسانيون يطلقون عليها ( كه رمه كان ) أي البلاد الحارة . [10]
وفي المصادر السريانية كانت كركوك تسمى ب ( بيث كرماي ) ولما استطاع السلوقيون ( نسبة إلى أحد قواد الإسكندر ) من بسط سيطرتهم على أجزاء من بلاد الرافدين ، عرفت كركوك بعد ذلك ب ( مدينة سلوقس ) وهناك من يقول ب ( قلعة سلوقس ) وفي المنجد في الإعلام في طبعتها الثانية عشرة ب ( كرخا دبيث سلوخ ) وكذلك وردت التسمية في كتاب الدكتور نوري الطالباني ( GARHHA DE BETH SELOOK ) . [11]
أما الأثريان العراقيان باقر طه وفؤاد سفر ( ويعاضدهما الدكتور جمال رشيد) ، يروّن : بأن اسم كركوك له صلة بكلمة ( كركر ) ، وهذه الكلمة كوردية ، مأخوذة من طقطقة النار والنور المنبعثة منهما ، لكن ( بابا كركر ) الاسم الحالي الذي يطلق على حقل النفط القريب من المدينة وهي كلمة كوردية أيضاً ومعناها ( الأب النوراني ) . وأصله كما ذهب المحامي عباس العزاوي لشيخ مشهور من شيوخ بكتاشية كركوك اسمه ( بابا كركر) . [12]
وقال بعضهم بأن النار الأزلية التي لا تزال نيرانها ملتهبة حتى اليوم ، قد انبعثت في عهد
( نبو خذ نصر) في حدود 550 قبل الميلاد .
ويذكر الشيخ ياقوت الحموي كركوك بإسم( كرخيني ) : بكسر الخاء المعجمة ثم ياء ساكنة ، ونون ، وياء ممالة ، هي قلعة في وطاء من الأرض حسنة حصينة ين داقوقاء وإربل رأيتها ، وهي على تل عال ولها ربض صغير . [13]
لم ألحظ ما يؤيد الرأي القائل بأن الاسم الحالي للمدينة أطلق في زمن تيمورلنك( تيمور الأعرج ) . فمهما تكن الاجتهادات حول أصل تسمية كركوك ، وقدم المدينة لا شك في أن إنشاءها يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد . [14]
عرف من خلال الرقُم المكتشف في قرية ( تركلان ) التي تبعد عن كركوك بحوالي 12 كم بأن كركوك كانت جزءا من بلاد الكاشيين ( عند بعض المؤرخين أنهم أجداد الكورد الحاليين ) الذين استولوا على بابل في حدود 1600 قبل الميلاد . [15]
وخلاصة القول يذكر الباحث جرجيس : بأن كركوك إسم تاريخي لا غبار عليه ، وللإقليم كله إسمه التاريخي الذي عرفه المؤرخون العرب والمسلمون وهو ( باجرمي ) أو ( كرميك ) . [16]
تختلف كركوك عن باقي المحافظات في العراق كونها مدينة غنية بآبارها النفطية ، وللتنوع السكاني الذي تتميز به المدينة ، وما رافقتها من أحداث دموية وسياسات غير إنسانية بحق أبنائها الأصليين من الكورد ومن ثم التركمان ، ولا شك بأن المسيحيين أيضاً من السكان القدماء في المدينة ، وما المذابح التي أوقعها بهم تيمورلنك إلا شاهدا على ذلك ، والتواجد المسيحي في المدينة هو أقدم بكثير من التواجد العربي والتركماني فيها .
وقد بقيت كركوك خلال سبعة قرون مركزاً هاماً للنساطرة المسيحيين ، وما زالت كركوك كرسياً لرئيس أساقفة كلداني ( وريث الكرسي النسطوري ) وقد ظلت المدينة تفتخر بأقدم كنيسة في العالم ، بنيت في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي وكانت تعرف ب ( بيعة الشهداء ) تخليداً لذكرى شهداء اضطهاد الملك الساساني يزدكرد الثاني ( 438 457 ) كان الأتراك العثمانيون في 1918 قد اختزنوا فيها عتادهم وذخيرتهم . فعمدوا إلى نسفها قبيل انسحابهم من المدينة عند اقتراب القوات البريطانية وكان تدميراً كاملاً . [17]
ويذكر الدكتور شاكر خصباك بصدد تواجد المسيحيين في مدينة كركوك في العصر الراهن أما المجموعة السريانية فتتمثل في محافظة كركوك بنسبة ضئيلة تتركز في مدينة كركوك ، وهي تتألف من الكلدان والآثوريين ، ويوجد بالإضافة إليها عدد من الأرمن . ومن المعلوم أن عدداً كبيراً منهم يعمل في شركة نفط العراق التي تم توطينهم فيها في أعقاب الحرب الكبرى الأولى [18] مرت كركوك بعدة مراحل خطيرة وبارزة في تاريخها المعاصر أي منذ بداية الربع الأول من القرن العشرين إلى يومنا هذا .
فقد أعلنت كركوك عصيانها وبقيت خارج الدولة العراقية لمدة خمس سنين أي منذ عام 1918 ولم يرتفع العلم العراقي على بناياتها طوال تلك المدة .
حادثة صدام الجيش الليفي ( الآثوري ) .
من الحوادث المؤسفة التي مرت بها المدينة هي حادثة الصدام بين الجيش الليفي( الآثوري) . [19] مع السكان المحليين في وسط المدينة وهي من المراحل التي تستحق وقفة تأمل لاستخلاص الدروس والعبر منها ، وتلقي الضوء في نفس الوقت على الحالة السائدة في كركوك آنذاك .
لذا أرى أنه من المفيد بسط وجهات النظر المختلفة حول هذه الحادثة . فالدكتور قسطنطين بتروفيج ماتييف ( بارمتي ) يعزو الحادثة إلى محاولات السلطات في دق الإسفين بين القوميات المختلفة لقد كانت جميع السلطات العراقية باستثناء رفعت باشا المتصرف السابق للموصل والذي أعار انتباهاً شديداً للمسألة الآشورية وناضل في سبيل الوحدة الوطنية بين مختلف الشعوب في العراق تحاول إشعال نار الفتنة بين القوميات ، وتشهد مجموعة كبيرة من الثوابت على ذلك بما ذلك الصدام الدموي الذي حصل بتاريخ 4 آيار 1924 في كركوك ، لقد بدأت المشكلة في السوق بين الباعة الترك المحليين والجنود الآشوريين ثم إلى شوارع المدينة مما إضطرت القيادة الآشورية إرسال الوحدات المصفحة وقوات الإنزال إلى المدينة ، وعندئذ فقط توقف القتال . إلا أنه في اليوم التالي هجم المسلمون المحليون على الدور الآشورية ، عندها لجأت السلطات الإنكليزية إلى اعتقال بعض المسببين في الصدام ومحاكمتهم . [20]
لكن المؤرخ العراقي المعروف عبد الرزاق الحسني يرى الحادثة من وجهة نظر مختلفة :
بينما كانت ثلة من الجيش الليفي من التياريين ، تبتاع حاجة لها من أسواق كركوك ، في اليوم الرابع من شهر أيار سنة 1924 ، أختصم أفرادها مع أحد الأهلين في السوق ، فأدى الخصام إلى جرح أحد أفرادها ، وهرب الباقون إلى ثكناتهم حيث استنجدوا برفاقهم ، وخرجوا من الثكنة يحملون أدوات القتل والدمار ، وصاروا يطلقون النار على كل من صادفهم في الطريق ، فتصدى شرطيان لمنع النار فقتلوهما ، فعمد مدير الشرطة ، مراد رحمة الله إبن مبارك ، إلى منع قوات الشرطة من الخروج من ثكناتهم ، وفاقاً لطلب ضابط الشرطة البريطاني ، فإضطر الأهلون إلى الدفاع عن أنفسهم ، فالتجأ المعتدون إلى دور المسيحيين في المدينة ، وصاروا يقاتلون الأهلين المدافعين من البيوت فقتل من قتل ، وجرح من جرح ، وقارب عدد الإصابات المئتين . [21]
وفي 5 مايس عام 1924 أصدر المندوب السامي . ﮪ . دوبس . بلاغاً جاء فيه :
تأثرت كثيراً لتلك الفواجع التي وقعت نهار أمس . لقد شُرع منذ اليوم الأول في ترحيل الجنود الآثوريين من كركوك إلى محل بعيد ، كما سيجري التحقيق فوراً من قبل الضباط البريطانيين المنتخبين بصورة خاصة . وأعدكم ( أي أهالي كركوك ) أنه إذا ثبت إدانة أحد منهم ، فلن نقصر في فرض العقاب الصارم كما سيجري تعويض الذين تضرروا . [22]
لكن الكثيرين رأوا بعد ذلك بأن المحاكمة التي وعد بها المندوب السامي كانت صورية ، حيث عهد بها إلى محكمة خاصة تألفت من رئيس محكمة بداية كركوك المستر بريجارد رئيساً ، وعضوية كل من حاكم كركوك السيد عمر نظمي ، وحاكم الصلح عبد الكريم كركوكلي ، وضابط بريطاني من قيادة الطيران ، والمار شمعون بطريك الآثوريين . وقد إستنكر الرأي العام وجود البطريرك في هذه المحكمة .
أما التقرير البريطاني الخاص عن إدارة العراق يقول :
وقتل في حادثة كركوك عدد من المسلمين على يد حضيرتين من التياريين الذين ساروا في المدينة ، وكانوا يطلقون النار على كل من يرونه منهم . أ . ﮪ .[23]
وقد تولى فوج المشاة البريطاني الذي بعث به المندوب السامي إلى كركوك حماية أرواح المسيحيين الموجودين فيها من ثأر المسلمين الذين رأوا بأم عيونهم كيف فتح المسيحيون دورهم ومكنوا التيارين من الدخول فيها ومقاتلة الأهلين [24]
وترد تفاصيل أخرى دقيقة لبدء المشاجرة عند الباحث العراقي جرجيس فتح الله التي لم نلاحظها في المصادر الأخرى ، فإنه يصور لنا الحادثة على الشكل التالي : في صبيحة04-05- 1929 ، نزل اثنان من جنود الليفي إلى السوق لشراء حاجة فحصل جدال بينهما وبين البائع التركماني انقلب إلى عراك بالأيدي شارك فيه عدد من المستطرقين وأصحاب الدكاكين وقيل أيضاً أن الاستفزاز جاء من استخدام عبارات متنقاة من تلك التي تشعل النار في دماء الشرقي حين تقذف إلى وجهه فلا يستطيع السكوت عنها ولا يقوى على ضبط مشاعره . فقد جاء من الشهادات المستمعة أمام المجلس العسكري الذي حاكم المتهمين من الجنود فيما بعد أن التركمان أسمعوهم عبارات مقذعة تتناول الأعراض كقولهم ستذهبون إلى القتال …. وعندئذ سنفعل بنسائكم كذا .. وكذا مع الإشارات بالأيدي والأعضاء الأخرى إشارات ذات معنى . لم يكن هذا في الواقع مقدمة بل حصيلة حقد تنامى منذ وطئت أقدام هؤلاء الدخلاء كركوك ومشوا في شوارعها وأزقتها مختالين متبخترين يمثلون القوة الإجرائية لسلطة المحتل البغيض [25]
ويضيف في الهامش صفحة 736 . ومما تسكت عنه المصادر العراقية ولا تذكره بحرف واحد أن عناصر من الأهالي المسلحين الهائجين قامت برد الكيل في اليوم التالي فهاجمت حي المسيحيين الكلدان القديم ونهبت بيوتهم وقتلت بضعة عشر منهم ولم يقدم أحد للمحاكمة .
وبعد حوالي سنتين من تاريخ الحادثة ، في 29-06- 1926 وتحت ضغط الإنكليز أصدرت الحكومة العراقية قراراً بالعفو عن المحكومين في تلك الحادثة ، حيث كانت المحكمة الخاصة قد أصدرت حكمها على ثمانية منهم بالسجن المؤبد وعلى شخص آخر بالسجن لمدة خمس سنوات ، لجملة أسباب وهي :
أ إن الجرائم التي ارتكبوها كانت وليدة تهيج وقتي ساقهم رأساً إلى تلك الجرائم .
ب كونهم غرباء في هذا القطر الذي هاجروا إليه تخلصاً من المصائب التي انتابتهم ليعيشوا تحت حماية الحكومة العراقية ، اعتماداً على حسن معاملاتها ومساعدتها لمن كان مثلهم ، وقد تنقلوا من بلاد شتى ، وقاسوا الأمرين ، فهم مستحقون للعطف الملكي وعفوه .
ج مرور هذه المدة غير اليسيرة على وقوع الحادثة ، وزوال نتائجها وتأثيراتها من الأذهان بصورة لا يصح معها بقاء هؤلاء المسجونين في السجن ، حتى تنقضي الأحكام الصادرة عليهم لمدة طويلة .
د بقاء عائلاتهم في حالة يرثى لها ، واحتياجها في أمر المعيشة .
ﮪ لما كان العفو المطلوب مقيداً بشروط مهمة ، فأنهم سوف لا يتمتعون بالحرية بمعنى الكلمة ، وإنها سيكونون بمثابة المحجوز عليهم في محل معين ، وهذا مما يسهل العفو عنهم . [26]
فقرر مجلس الوزراء الموافقة على ذلك أن يرسلوا جميعاً إلى قرية ( ماي ) في شمال غربي العمادية .
فمهما تكن الأسباب الكامنة وراء الحادثة ، لا يمكن للباحث أن يحكم عليها بمعزل عن الظروف التي كانت سائدة آنذاك والانعكاسات النفسية لنتائج الحرب العالمية الأولى ، ودور الإعلام والدعاية للأطراف المتنازعة أبان الحرب في نفوس السكان من الأقوام والديانات المختلفة . فكان العثمانيون يفضلون العنصر التركماني في حكم المدينة على الكورد بحكم اللغة المشتركة . فلهذا أعتبر التركمان أنفسهم حكاماً للمدينة لا ينازعهم أحدٌ عليها ، وبهزيمة العثمانيون في الحرب العالمية الأولى أختل هذا التوازن لغير صالح التركمان ، وبما إنه لعب الجيش الليفي الآشوري دوراً ليس بالقليل لصالح القوى المتنازعة ضد العثمانيون في تلك الحرب ، كانوا مكروهين من قبل التركمان وحتى بالنسبة للكثير من الكورد ، حيث حارب الجيش الليفي لصالح الإنكليز بشراسة تطلعات الشيخ محمود الحفيد لبناء كيان كوردي . كما لعبوا أيضاً دوراً بارزاً في قمع ثورة العشرين لصالح الإنكليز أيضاً ، فأدت هذه العوامل إلى كراهية المسلمين الذين عاشوا لعدة قرون في ظل راية الإسلام الذي كان يمثلها الباب العالي في الأستانة ، فوجود هؤلاء المسيحيين المسلحين في مدينة كانت تعتبر حتى الأمس القريب من ضمن دائرة الحكم الإسلامي ، تحدياً لمشاعرهم وسلطانهم في آنٍ واحدٍ ، والحالة نفسها تنطبق على الآشوريين الذين ذاقوا الويل على يد العثمانيون أثناء الحرب ، فروح الحقد والكراهية لدى الجانبين ضد بعضهما البعض هي التي كانت المحرك الأساسي لتلك الحادثة المؤسفة .
تموز إله الخصب لدى سكان بلاد ما بين النهرين هذا الشهر بالذات يعني الكثير بالنسبة للعراقيين عن باقي أشهر السنة ، ففي هذا الشهر جاءت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 لتغير وجه العراق وتسلك به إلى اتجاه آخر غير التي رسمتها بريطانيا وخططت له ، كُتب الكثير عن 14 تموز ، ولربما لم يكتب في تاريخ العراق المعاصر بقدر ما كتب عن هذه الفترة القصيرة من عمر العراق والمليئة بالأحداث والتغيرات ، تتفق الغالبية على وصفها بالثورة ، وأيدتها الجماهير الواسعة من الشعب العراقي ، وآخرون نعتوها بالانقلاب وأم المشاكل ، وحاربوها بكل ما أوتوا من قوة ، بل إمتد التآمر ضدها إلى خارج الحدود ، وهناك قلة من هم يطلقون عليها إسم حركة الضباط الأحرار . وفي السابع عشر في الشهر ذاته عام 1968 إغتصب البعثيون وبغفلة من الجميع السلطة إلى يومنا هذا وجّروا البلاد إلى كل المآسي التي يعاني منها العراقيون قاطبة ، وخاصة كركوك سيأتي الحديث عنها لاحقاً ، وسنعاني منها لعقود أخرى بسبب التركة الثقيلة التي طمسوا العراق بها . وكركوك أيضاً لها ذكرياتها المريرة في شهر تموز . ففي12-07- 1946 سقط ما لا يقل عن عشرة شهداء بالإضافة إلى سبعة وعشرين جريحاً في إضراب كاور باغي .
إضراب كاور باغي :
كان العقل المخطط والمحرك لهذا الإضراب هو الحزب الشيوعي العراقي ، حيث أعطى الإشارة إلى بدء الإضراب في يوم 3 -07- 1946 واستجاب للدعوة ما يقارب خمسة آلاف عامل ، وكانت المطالب الأساسية للمضربين هو زيادة الأساس الأدنى للأجر اليومي من 80 إلى 250 فلساً ، والاعتراف بحقهم في تشكيل نقابة ، وإدخال نظام التأمين ضد المرضى والإعاقة والشيخوخة ، وللحد من الطرد التعسفي بحقهم، وكان غالبية العمال من شركة نفط العراق ، وبعد عدة جلسات لم يتوصل الطرفان إلى حل يرضي الطرفين ، وكان من عادة العمال أن يتوجهوا يومياً إلى حدائق كاور باغي لقضاء ساعات ، وفي 12 تموز وجد العمال أنفسهم محاطين بقوات الشرطة من ثلاثة جوانب لينهالوا عليهم بالهراوات بداية ، وبعد تفرق شمل المضربين أطلقت الشرطة عليهم الرصاص ، وحصل ما حصل ، وبعد إجراء التحقيق كان كل القتلى مصابين في الظهر .
أحداث كركوك الدامية تموز 1959 : [27]
بعد ثلاثة عشرة عاما ًمن إضراب كاورباغي ، وفي نفس الشهر في الرابع والخامس عشر من تموز عام 1959 عاشت مدينة كركوك أحداثاً دموية راح ضحيتها 31 مواطناً من أهالي كركوك وما يقارب 30 جريحاً ( هذه الأرقام وردت في كتاب العراق ، حنا بطاطو ) أما عند جرجيس فتح الله (32 من الضحايا و130 جريحا)ً ، غالبيتهم من التركمان ، نتيجة التعصب القومي ، وصراع الإرادات . وفي الثاني والعشرين من شهر حزيران عام 1963 أضيف إلى عدد الضحايا ، ثمانية وعشرين شخصاً آخر علقوا على أعواد المشانق معظمهم لم تتلطخ يدهم بدم ضحايا مسيرة 14-07- 1959 ، فما عدا 4 أشخاص من التركمان كان البقية من الكورد . وبالرغم من مرور 43 عاماً على تلك الأحداث الدموية ، ومهما تكن الاجتهادات من جانب أي من الأطراف المتصارعة آنذاك ، لم يكشف النقاب بعد عن المسببين الحقيقيين عن تلك الأحداث ، ولا عن العقول المدبرة التي كانت تقف وراءها من خلف الستار . فكما هو معروف أن أبطال هذه المسرحية الدامية هم من الكورد والتركمان والشيوعيين فالأستاذ حنا بطاطو يبرئ قيادة الحزب الشيوعي العراقي من تدبير الحادثة حيث يذكر : فقد أصبح مؤكداً الآن أن هذه الأحداث لم تكن مدبرة من قبل زعمائهم يقصد الشيوعيين ولا هم سمحوا بها [28] ويرمي باللوم على عاتق الكورد المتزمتين ، بينما يرى ( الرفيق أبو سرود . كما يذكره جرجيس فتح الله المحامي بهذا الأسم ) [29] . بأن المسببين للحادث هم عملاء شركة نفط العراق . بينما يصر التركمان بأن ما حدث في تلك المسيرة عمل مدبر ، وراءها الشيوعيون والكورد . ويرى الكورد بأن الاستفزازات بدأت من جانب التركمان من خلال رفعهم لشعارات استفزازية قبيل المسيرة بأيام ، وإصرارهم على الاحتفال الأول للثورة في مسيرة لوحدهم . فمهما تكن الأسباب ومن البادئ بالشغب التي نتجت عنها تلك الأحداث المؤلمة . ستبقى قتول كركوك نتيجة شرارة آنية قدحت عبوة من الديناميت ، ومن العبث إخراجها بمثابة عمل مدبر سبق الإعداد له [30] . أما ما يراه الدكتور نوري طالباني : من الصعب تحديد دور العامل الأساسي فيها ، لأنها كانت عوامل متلازمة ومكملة أحدهما للآخر ، من تطرف الجانبين إلى دور التحريض من جانب السلطة المركزية ، والفئات القومية والبعثية المتحالفة مع التركمان ، ودور العامل الخارجي [31]
وما يؤيد ما ذهب إليه نوري طالباني إلى دور التحريض من جانب السلطة ، هو ما توصل إليه جرجيس فتح الله : هناك حلقة مفقودة قد تعين على إيضاح حقائق حول هذه النقطة . فبعد حوادث القتل والسحل أرسل الحاكم العسكري العام بأمر من ( قاسم ) لجنة تحقيق ، برئاسة العميد الركن ( عبد الرحمن عبد الستار ) وعضوية كل من قاضي محكمة التمييز ( وديع جرجي ) والقاضي ( حافظ خالد ) والعقيد الركن ( صبيح رؤوف ) والمقدم ( شكيب المدلل ) وقد علمت أن تقريراً مسهباً تم إعداده وأن السيد ( وديع جرجي ) قام بمعظم صياغته . الغرض الذي توخته الهيئة القيام بالتحقيق في القتول وتوقيف المتهمين والقيام بالإجراءات لتعيين الفاعلين والأسباب . لم يتطرق أحد ممن كتبوا عن المأساة إلى هذا التقرير . وبقي محفوظاً في أركيفات وزارة الدفاع ينتظر السماح للباحثين بالإفادة منه . لماذا لم يحاول الكتاب حول هذه المأساة الحصول عليه من مظانه . وكثير منهم كان يملك المقدرة على ذلك . [32]
وحتى تقارير الجهات الرسمية لم تجزم بمن كان البادئ بالاستفزازات في تلك الأحداث . فالتقرير الموجه من مدير الشرطة إلى متصرف اللواء ، يرى إنها صدرت من التركمان ، ومدير الأمن يعزوها إلى ضباط الصف والجنود من سرية الانضباط العسكري وسرية الشغل التابعة للفرقة الثانية وغالبتهم من الكورد . [33]
يرجع الأستاذ حنا بطاطو في مكان آخر من موضوعه حول تلك الأحداث ليؤكد مرة أخرى : وما زال غير مؤكد ما إذا كان الانفجار أمراً مدبراً ، أم أنه ببساطة تنوعاً متطرفاً من الجيشانات شبه الغريزية المتكررة الحدوث للحقد العرقي ، أم أنه نتيجة للأمرين معاً .[34]
وفي رسالة غير مؤرخة وجهها الزعيمان التركمانيان تحسين رأفت والمقدم المتقاعد شاكر صابر يدعيان بأنه تم جلب الرجال من العشائر الكوردية من الريف المجاور للمدينة قبل الأحداث ببضعة أيام . ذلك للتأكيد على أن الحادثة مدبرة . بينما الوقائع تثبت عكس ذلك . والكلام للدكتور نوري طالباني : لعب الضباط الكورد دوراً متميزاً في السيطرة على الأوضاع الأمنية المتردية في المدينة وفي منع التجاوزات والتعديات على أرواح الناس وممتلكاتهم ، كما منعوا أيضاً الفلاحين الكورد في القرى القريبة من كركوك من دخول المدينة في صبيحة 15 تموز 1959 وما كان يترتب على ذلك من آثار سيئة للغاية . [35]
ولا تزال ذكريات تلك الحادثة المؤلمة تدق في عقول المتزمتين من كل الأطراف بدون استثناء لإذكاء نار الحقد . ويحاول كل طرف من الأطراف التي ذكرتها أن يرمي اللوم والتهمة على الطرف الآخر ، ولا شك بأن المستفيدين الوحيدين من جراء تلك الحوادث لم يكن قطعاً أيٌّ من الأطراف أعلاه . حيث يذكر بطاطو لا شيء أذى الشيوعيين بقدر ما فعلت أحداث كركوك الدموية في 14 16 تموز .[36]
ويتفق جرجيس مع بطاطو في ذلك : لم يلحق الحزب الشيوعي العراقي والشيوعيين العراقيين من أذى وتدهور في السمعة قدر ما ألحقتهما بهم وقائع الرابع عشر والخامس عشر من شهر تموز 1959 .[37] هذا بالنسبة للشيوعيين، أما بالنسبة للكورد والتركمان فلا تزال تلك الأحداث المؤلمة تخيم كالغيمة السوداء على علاقاتهم اتجاه بعضهم البعض ، مما سهل كثيراً للبعثيين بقطع أشواطٍ كبيرة جداً في سياستهم المبرمجة لتعريب مدينة كركوك ، حيث شملت محرقة البعث التركمان أيضاً ولم يقتصر على الكورد وحدهم . فمن خلال استقرائنا لتلك الحقبة من تاريخ العراق ، فالمنطق في تحليل الأحداث يدفعنا إلى أن نسلّم بأنه كانت هناك أطراف مستفيدة مما جرى في تلك الأيام المشؤومة ، فليس الشيوعيين وحدهم الذين تدهورت سمعتهم من جراء ما حدث , بل ثورة 14 تموز نفسها وقفت عارية أمام أعدائها الذين كانوا يتربصون لكل هفوة مهما كانت صغيرة لتهويلها وإعطائها حجماً أكبر بكثير من حجمها الحقيقي ، من شركة نفط العراق والغرب إلى الجمهورية العربية المتحدة ، ناهيك عن دول الجوار ، إيران الشاه ، وتركيا المتحالفة مع الغرب والعضو الفعال في حلف السنتو ، حيث حصلوا على المادة التي كانوا يصبون إليها لتشويه سمعة الثورة وللنيل من زعيمها عبد الكريم قاسم ، وخاصة وسائل إعلام مصر . والحالة هذه ، لدولة كالعراق لم يمض على عهدها الجديد سوى سنة واحدة ، ومحاطة بكل هذه القوى المعادية ، أفليس من المنطق أن تكون لهذه القوى أصابع أخطبوطية تحوك شباكها خفية من وراء الستار؟ . ومن هم الممولين الذين كانوا يمدون العصابات بالمال التي عرفت ب ( المناقصات السرية ) لاغتيال الشخصيات اليسارية والوجوه البارزة من الكورد في كركوك فيما بعد ؟ حيث كانت تلك العصابات تدخل في مساومات مع الممولين وضد بعضها الآخر في تنافس غير شريف وغريب لم نسمع به من قبل ولكل رأس مبلغ من المال في مناقصة سرية ، والعصابة التي كانت مستعدة للقتل حتى بإبخس الأثمان هي التي كانت تفوز برأس الضحية والمبلغ المدفوع .[38] ولا شك بأن البعثيين والجناح القومي العربي في العراق وخارجه المناهض لحكم قاسم لعبوا دوراً غير قليل برمي الحطب في النار المشتعلة .
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه الفترة من الزمن على تلك الأحداث . ألم يحن الأوان بعد لطوي تلك الصفحة السوداء من تاريخ المدينة والشروع بالعمل المشترك للوقوف بوجه سياسة التعريب وبناء مدينة كركوك على أسس التفاهم والتآخي القومي للأجيال اللاحقة ؟ .
إذا استثنينا الويلات والمآسي التي مرت على المدينة ، فكركوك لها أن تفتخر بأبنائها الذين رفعوا إسمها عالياً في سماء الأدب من خلال مجموعة كركوك أو جماعة كركوك المتميزة التي لعبت دوراً أساسياً في تطور الشعر العراقي ، وكان نتاجهم بمثابة الأوكسجين الذي تنفسته الشعرية العراقية حسب تعبير الشاعر عبد القادر الجنابي [39] . ويشير أيضاً الشاعر والروائي المبدع فاضل العزاوي الذي هو قلب الجماعة إلى الروح الجديدة التي حملتها جماعة كركوك إلى بغداد وتركت تأثيرها على الأدب العراقي .[40]
جماعة كركوك :
جسدت جماعة كركوك معنى التآخي القومي في مدينة سمتها البارزة بعد النفط ، تنوعها القومي التي جّرت المدينة إلى حوادث دموية يصعب تبريرها ، وبالرغم من خصوصية المدينة وتكتلاتها القومية اجتمعت هذه الفرقة من أبناء كركوك تجمعهم جمالية اللغة التي كتبوا بها وهاجس الشعر والأدب الذي حاولوا من خلاله تغيير السائد من الأفكار البالية على اختلاف قومياتهم ودياناتهم . همها الإبداع ، والتمرد على كل ما هو تقليدي . يصف هذا اللقاء أحد المحركين الأساسيين في هذه الجماعة وهو سركون بولص بقوله : وإن التقاء هذه المجموعة الدينامية في مدينة مثل كركوك في تلك الفترة بالذات ليس أقل من معجزة صغيرة .[41] وجماعة كركوك هم فاضل العزاوي ، سركون بولص ، يوسف الحيدري ، أنور الغساني ، مؤيد الراوي ، محي الدين زه نكنة ، صلاح فايق ، جليل القيسي ، جان دمو ، والأب يوسف سعيد . ولكل واحد من هؤلاء بصماته الواضحة والمتميزة في جيل الستينات العراقي سواء في الشعر أو القصة أو المسرحية . وعلى الرغم من حياة المنافي التي أبعدت الجماعة عن بعضها البعض في دول العالم ، لم تنقطع الاتصالات ولا الزيارات القصيرة ليعيدوا تلك الأيام التي يحنون إليها بشكل يدعو للدهشة والإعجاب ، وأكثرهم الأب يوسف سعيد . الذي جعل من الكنيسة مكاناً للاجتماع ، واللقاء ، والنقاش حول القصيدة والجديد في الأدب العالمي . وتحتل كركوك مكاناً خاصاً في ذكرياته : كان شارعان يمتدان في تلك المدينة الباهرة ، في أحدهما ، وفي أمسية ما ، التقيت بشاعر بسيط جداً ، دلني بإصبعه إلى بقية الشعراء والكتاب . فارق العمر والعمل اليومي ، كانا يفصلاننا ، بالأحرى يفصلانني عنهم ، إذ كنت قساً مسؤولاً ، أعيش في شارع أسمه شارع المحطة ، حين إلتقيتهم كانوا شباباً مراهقين ، بدل أن يقرأوا كتب الغزل وجدتهم يلاحقون أفضل ما في الأدب العالمي من رواية وشعر . وفي مكان آخر وأغرب ظاهرة في هؤلاء أنهم كرسوا حياتهم تماماً للثقافة والشعر ، يعيشون بزهد ، بلا طموحات مادية أو وظيفية ، وبقوا هكذا حتى الآن . ما يدهش إلى اليوم ، هو أن هؤلاء جميعاً ، حين التقيت بهم ، كانوا في قلب الثقافة العالمية ، يبحثون عن الجديد ، واحدهم يحمل اكتشافه إلى الآخرين دون أن يفصلهم أي انتماء ديني أو قومي أو سياسي . وينتهي أبونا إلى القول : ليتنا ، وأقصد كل المجموعة ، نلتقي ونحج ، كل عام ، تلك المدينة الجميلة ونعقد جلساتنا في باحة تلك الكنيسة أو في بيت أحدنا .[42]
إذن هذه هي معجزة الثقافة التي لم يفهمها السياسي . قبل أكثر من ثلاثمائة عام صرخ الشاعر الكوردي أحمد خاني صاحب ملحمة مم وزين : ليس الشاعر مسؤولاً عن الظلم الذي يحصل ، بل الحكام والملوك .
فبالإضافة إلى جهد هذه المجموعة المتميزة ، للارتقاء بالشعر والأدب بصورة عامة ، ما ميزهم عن باقي جيل الستينات ، هو التنوع القومي والديني لهذه المجموعة التي حمل الواحد منهم إرثه التاريخي واللغوي وثقافته المتميزة عن الآخر، ليضيفها إلى اللغة التي كتبوا بها العربية لينتج بالتالي أدبٌ إنسانيٌّ لا تشوبه النعرات الطائفية والقومية والدينية. فالتنوع جاء هنا ليضيف ويغني ، على العكس من السياسي الذي يوظف تلك الاختلافات العرقية ليضرب أحدهم بالآخر ليكون بالنتيجة هو المستفيد من تلك التناحرات ، وهذا ما حصل بالضبط في أحداث كركوك الدموية .
وعن جماعة كركوك يقول الأديب العراقي المعروف عبد الرحمن مجيد الربيعي : كانت مدن العراق الأخرى تضم مجموعات من الأدباء الذين يبعثون بنتاجهم لصحف بغداد أو المجلات العربية وكان من أكبر هذه المجموعات وأكثرها لفتاُ للنظر مجموعة كركوك التي تضم عربا وأكراداً وآثوريين وكانوا يكتبون بالعربية . [43]
أما أنور الغساني الذي هو أحد أعضاء المجموعة يطلعنا على الوجه الآخر ، الجميل والمشرق لهذه المدينة التي حُجبت عن الأنظار، وكأن لا شئ في المدينة غير النفط ، بفضل السياسات الحمقاء للأنظمة المتعاقبة ، وقصر نظر وجهاء المدينة الذين انساقوا وراء الشعارات والعواطف المجنونة . هذه العصبة جاءت من كركوك ، انسلخت عن تأريخ طويل للتطور الفني والفكري لتلك المدينة التي يبدو أنها كانت على الدوام مدينة لأناس معتوهين بالفن والغناء والفكر والحب . الإطار الأوسع الذي كانت تنتمي إليه جماعة كركوك عند وصولها إلى بغداد كان يجمع شخصيات مثل سعاد الهرمزي ( الكاتب والصحفي والمذيع ) ، عبد الصمد خانقاه ( القاص المحامي ) ، قحطان نجاتي الهرمزي ( القاص ) ، عصمت نجاتي الهرمزي ( الممثل ) ، محي الدين زه نكنة ( القاص ) ، يوسف الحيدري ( القاص ) ، زهدي الداوودي ( القاص والمؤرخ ) ، علي حسين السعيدي ( الممثل والمخرج ) ، محمد أحمد رستم ( القاص ) ، القس يوسف ( ؟؟ ) سعيد ( الأديب ) ، وحول هؤلاء، وفي إطار أوسع كان هناك سنان سعيد ( الصحفي والرسام )، محمود العبيدي ( الرسام )، العقيد صديق أحمد ( الرسام )، فائق معصوم ( القاص)، حسين علي الهورماني (القاص) الشاعر الشيخ رضا الطالباني والشاعر ده ده هجري .[44]
ويستعرض أنور الغساني في مكان آخر في شهادته ،السجون والتعذيب التي مر بها هؤلاء الأدباء كانت أعوام بغداد بالنسبة لجماعة كركوك زمن تثقف ومعاناة . كانوا حين وصلوا إلى بغداد قد مروا بالمعتقلات والسجون والتعذيب ، وشاهدوا الموت والاغتيالات . مؤيد وأنا رأينا من باب محجر سجن كركوك ذات مساء ستة وعشرين رجلاً يدخلون إلى البناية الرئيسية للسجن ثم يخرجون في الليل أمواتاً بعد إعدامهم . الجثث نقلت بعدئذ ، عند الفجر، بشاحنة ليجري تعليقها من أعمدة الكهرباء في الشوارع . في الصباح خرج الذين كانوا يعتبرونهم أعداء لهم بالطبول والمزامير ليحتفلوا بموتهم . [45]
وها هو أحد أكبر رموز الجماعة فاضل العزاوي بعد خروجه من السجن. ماذا يقول ؟ : كنت عائداً من الجحيم ، أحمل في داخلي خبرة عميقة عن النار والرماد، عن الشمس المطفأة، عن كبرياء الألم، عن جنون الجلادين، الأصدقاء الذين كنت أسمع أصواتهم في الزنزانات المجاورة قبل اقتيادهم إلى الشنق ليعلقوا بعد ذلك على أعمدة الكهرباء أمام بيوتهم . كنت بلغت الألف من عمري وأنا في الرابعة والعشرين، ممتلئاً بالغضب على العالم كله، ومؤمناً أن العدالة الحقيقية هي أبعد من المبادئ والإيديولوجيات. إنها عدالة الوقوف إلى جانب الضحية دائماً . وفي مكان آخر حين كان بينه وبين الموت دقائق . الرمي العشوائي في الشوارع من قبل الحرس القومي في عام 1963 . يقول : ربما فكرت في ديستوفسكي، ربما لم أفكر في أي شيء . ولكني أدركت منذ تلك اللحظة أنه ما من عار أحط من عار الجلاد . وإذا ما خيرت بين أن أكون جلاداً أو ضحية فسوف أختار أن أكون ضحية . [46] ولأنهم أرادوا للشعر أن يحكم بين الناس . وأي حكم هذا الذي يُشرع قانونه الشعر؟ أليست هي اليوتوبيا ؟ المدينة الفاضلة التي ابتغاها أفلاطون في جمهوريته .
قاسى هؤلاء الأدباء صنوف العذاب والحرمان .
وبصدد المعاناة والجوع والحرمان التي تعرضت لها جماعة كركوك التي ظلت تلاحقهم أينما حلوا . لا لشيء …..! فقط لأنهم وقفوا بجانب الضحية . ويستعرض أنور الغساني في مكان آخر صورة أخرى ، لشقاء الإنسان العراقي في صراعه اليومي كي يبقى محافظاً على وجوده كإنسان ، وخاصة أولئك الذين اصطفوا بجانب الضحية في بلدٍ نفطي كالعراق إذا كنا نملك في يوم ما ثمن الشاي في البلدية فإن الظهر كان يأتي فلا نجد ثمن الغذاء . وفي مكان آخر كان الجوع يذهب بي إلى حانوت الحاج الذي ذكرته في قصيدة ( بغداد ، البديل نيسان 1990 ) في شارع فرعي بين شارعيّ الجمهورية والرشيد خلف سينما الخيام . كان الحاج يقدم وجبات رخيصة من الخضروات المقلية والبيض فقط . كان كل زبائن الحاج من الفقراء واللحم لم يكن قط في وجبات الحاج . كنت أطلب شيئاً وآكل . ثم أقول للحاج : حجي باجر ، ثم أمضي . الحاج لم يسألني قط من أنا ، ولم يشك أبداً في أنني سأعود لأدفع له ثمن ما أكلت . ولهذا فإنني أتسائل في القصيدة . لماذا لم يقيموا حتى الآن تمثالاً للحاج في الباب الشرقي ؟ .
هكذا بدت لنا كركوك وجماعتها من خلال شهاداتهم . ترى لو تسنى لأحدهم أن يحج إليها كما قال أبونا ويرى الخراب والدمار والتغيير الديموغرافي الذي حصل لهذه المدينة من جراء سياسة التعريب المقيتة على يد نفس النظام الذي شردهم في منافي العالم وحرمهم من تآلف الإنسان مع المكان الذي يعشق ؟ . ترى بماذا سينطق الشعر ؟ .
من أبرز وأخطر المراحل التي مرت بها كركوك ، ليس في العصر الحديث والمعاصر وحسب ، بل على مدى تاريخ هذه المدينة . هو سياسة التعريب . وحتى عند اجتياح تيمورلنك لهذه المدينة لم تصل ذروة الخراب إلى ما حصل على يد الأنظمة العراقية المتعاقبة وخاصة في عهد نظام الحكم الحالي الذي لم يرَ في كركوك غير بحر من النفط . فهيا معاً لنتجول في شوارع وضواحي وقرى كركوك لنرَ ما حصل .
حول كوردستانية كركوك ، وسياسة التعريب :
أود أن أنوه بداية بأنه لا غبار على كوردستانية مدينة كركوك مطلقاً ، ليس حسب الادعاءات الكوردية ، بل حسب الوثائق الدولية والحقائق التاريخية والخرائط المعتمدة ، ويعتبر الكورد من أقدم سكان المنطقة . ويبدو أن الأصول التأريخية للشعب الكوردي تعود إلى الكوتيين ، وأن كان الرأي المتداول أنها تعود للميديين . يتفق المؤرخون على وجود شعب باسم الكوتيين كان يعيش قبل الميلاد بألفي عام في منطقة تشكل الآن إحدى مناطق الأكراد الرئيسية ، وهي المنطقة المحصورة بين نهر دجلة والزاب الأسفل ونهر ديالى [47] ويقول الدكتور كمال فؤاد حول هذه النقطة : بأن تأريخ نشوء القومية الكوردية ، تكونت من امتزاج الميديين بالسكان الأصليين . الذين هم الشعب الكوتي ، الذي كان البابليون يسمونهم كاردو . ومن خلال ما تقدم يتضح لنا بأن الكورد عاشوا في هذه المنطقة منذ آلاف السنين ، وإلى حد الآن لا يزالون يعيشون في نفس المنطقة . وهذا لا يعني بأن المدينة في الوقت الحاضر كوردية صرف ، بل تعتبر كركوك مدينة تآخٍ لتعايش القوميات بكورده وتركمانه وعربه ومسيحييه بكافة طوائفهم . كانت كركوك في العهد العثماني مركز ولاية شهرزور التي كانت تضم مناطق واسعة من كوردستان بما ضمنها راوندوز وأربيل وكويسنجق وشقلاوة وبشدر ورانية ، قبل أن تصبح أربيل محافظة بحد ذاتها ، واقتطاع راوندوز وشقلاوة وكويسنجق وبشدر ورانية إلى هذه المحافظة الجديدة . وكانت الجهات الدولية والعراقية تتعامل مع كركوك كجزء من كوردستان العراق ، مما حدا بالملك فيصل الأول أن يستفسر من المندوب السامي عن حدود مملكته ، فأرسل الأخير استفسار الملك فيصل إلى لندن ، وجاء الجواب ليؤكد حقيقة كوردستانية كركوك . وكان الجواب يتعلق بكل كوردستان الجنوبية التي تبدأ حدوده الجنوبية من سلسلة جبال حمرين إلى جنوب خط بروكسل ، وهي الحدود الدولية الحالية بين العراق وتركيا . وحينما سنت الحكومة العراقية في العهد الملكي قانون اللغات المحلية في العراق سنت قانوناً خاصاً لاستعمال اللغة الكوردية ، وأسست مديرية معارف خاصة لإقليم كوردستان ، وكان مركز هذه المديرية كركوك .
وأكدت الإحصائية التي أجراها وفد عصبة الأمم المتحدة إلى كوردستان العراق على أثر الصراع الدائر آنذاك حول ولاية الموصل بين بريطانيا والعراق من جهة وتركيا من جهة أخرى والكورد لوحدهم ضد الجبهتين ، حيث كانت اللجنة تسأل الأهالي مع أية حكومة تريدون العيش . التركية أم العراقية ؟ وقد أجابهم متسائلاً الشخصية الكوردية بابان زاده عزت بك مستنفراً من صيغة السؤال الاستفزازي : لماذا لا تسألون هل نرغب بحكومة كوردية أم لا ؟ .
وكانت نتيجة الإحصائية في محافظة كركوك على الوجه التالي :
عدد الكورد 87500 ويساوي 63 %
عدد التركمان 26100 ويساوي 19 %
عدد العرب 25250 ويساوي 18 %
وكان الإحصاء العراقي يختلف قليلاً عن إحصائية وفد العصبة وهي على الوجه التالي :
عدد الكورد 81400 ويساوي 59 %
عدد التركمان 28741 ويساوي 21 %
عدد العرب 26654 ويساوي 19 %
كما جاء في الموسوعة العربية العالمية عن كركوك وتعد كركوك عاصمة المجموعات الكوردية في شمال العراق . [48] واعتبرت الموسوعة العربية الموجزة في صفحتها 449 كركوك من المدن الرئيسية في كوردستان العراق . وكذلك في الموسوعة السويدية السنوية[49] جاءت كركوك ضمن جغرافية كوردستان ومن المدن المنتجة للنفط . هذه بعض الأمثلة البسيطة من خلال الموسوعات ، وهناك العشرات من الشواهد الأخرى تؤكد على كوردستانية كركوك .
ومن الوجه التاريخية نرى العشائر الكوردية تحيط بالمدينة من كل الجوانب ، ك عشيرة الجباري ، طالباني ، زه نكنة ، شيخ بزيني ، جاف ، هموند ، شوان ، الداووده أو الداوودي ، الكاكائي ، وغيرها كثيرة ، ولكل هذه العشائر إمتداداتها إلى داخل المدينة .
وكانت غالبية المناطق تحمل الأسماء الكوردية بما فيها الوديان والتلال وباقي معالم المدينة ، وهناك أيضاً بعض العشائر التركمانية والعربية في ضواحي المدينة لكنها قليلة قياساً بالعشائر الكوردية .
وللتأكيد على كوردستانية كركوك كان رئيس عشيرة الداووده الكوردية دارا بك هو من أوائل النواب المنتخبين عن كركوك ليمثل المدينة في المجلس التأسيسي عام 1924 .
ومن الجدير بالذكر أيضاً بأن أول محافظ متصرف لهذه المدينة هو الشخصية الكوردية أمير اللواء فتاح بن سليمان باشا المعروف ب ( فتاح باشا ) عين على أثر تأليف الحكومة العراقية ، متصرفاً للواء كركوك في 15-08- 1921 فشغل المنصب نحواً من أربعة أعوام إلى سنة 1924 . [50]
وكان غالبية النواب عن كركوك في العهد الملكي من الكورد وعلى سبيل المثال ، ففي شباط عام 1937 أنتخب أحمد الكركوكلي نائباً عن كركوك في مجلس النواب وجدّد انتخابه في كانون الأول ( ديسمبر) 1937 .
وفي أعوام 1935 1939 أنتخب فائق طالباني نائباً عن كركوك . كما أنتخب الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ حميد بن عزيز طالباني في أعوام 1943 1948 . وكذلك بالنسبة للشخصية الكوردية أمين رشيد آغا من رؤساء قبيلة هموند عام 1939 . وانتخب محمد سعيد قزاز عام 1953 نائباً عن كركوك ويشير المؤرخ المعروف عباس العزاوي بأن أمين رشيد آغا الذي جاء ذكره أعلاه أنتخب نائباً عن كركوك في أعوام 1940 1947 . [51]
ولو رجعنا إلى الوراء ، أي إلى عام 1872 1873 ومن خلال المصادر التاريخية ، نلاحظ بأن الكورد كانوا يشكلون النسبة المطلقة تقريباً من سكان كركوك فقد قدر المهندس الروسي يوسف جيرنيك الذي زار كركوك ضمن جولته في كوردستان لدراسة إمكانيات الملاحة النهرية في حوضي دجلة والفرات وروافدهما ونشر فيما بعد عام 1879 نتائج رحلته ودراسته في المجلد الرابع من نشرة قسم القفقاس للجمعية الجغرافية الملكية الروسية ، قدر عدد سكان كركوك في ذلك الوقت ب ( 12 15 ) ألف نسمة وأكد أنه وباستثناء ( 40 ) عائلة أرمنية فباقي السكان هم من الكورد . ويبدو بأن أفراد الحامية العسكرية العثمانية في كركوك لم يحسبوا ضمن سكان المدينة [52]
كما قدر الرحالة التركي المعروف شمس الدين سامي عند زيارته لكركوك في نهايات القرن التاسع عشر، بأن ثلاثة أرباع سكان المدينة هم من الكورد والباقي من الترك والعرب .[53]
وقد بعث المؤرخ محمد أمين زكي بك ، الذي كان وزيراً للمواصلات أبان الحكم الملكي في العراق ، بمذكرتين للملك فيصل الأول يعرض فيها المظالم الكوردية مذكراً إياه الوعود التي قطعتها الحكومة العراقية والحكومة البريطانية لعصبة الأمم بالنسبة لحقوق الكورد ، مقابل إلحاق كوردستان الجنوبية بالعراق المشكل حديثاً ، وطبعت المذكرتان لاحقاً على شكل كتاب بعنوان ( دوو ته قه لاي بي سود ) ( محاولتان غير مجديتان ) وجاء في الكتاب في حدود عام 1930 شّكل الكورد في محافظة كركوك 51 % والتركمان 21,5 % والعرب 20 % ، كلدان ، أشوريين ، سريان ، يهود ، أرمن ، وغيرهم 7,5 % .
نلاحظ من خلال هذا العرض السريع والموجز جداً ، بأن الكورد كانوا يشكلون على الدوام الغالبية من سكان المدينة ، وسنلاحظ فيما بعد التراجع الذي حصل في عدد نفوس الكورد في المدينة من خلال سياسة التعريب التي شملت الكورد أولاً ، ومن ثم التركمان . وزيادة العنصر العربي على حساب سكان كركوك سواء أكانوا من الكورد أو التركمان .
أدركت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الحكم الملكي في العراق بأنهم لا يستطيعون التلاعب بالموارد التي ستجنيها من إنتاج النفط في كركوك حسب مشيئتهم ، واستعمالها لخدمة مصالحهم ، من دون ضرب الحلقة الأقوى من سكان المدينة وهم الكورد، ولهذا نرى عدم تناقص العنصر التركماني في بداية سياسة التعريب حيث شمل الترحيل والتهجير في بداية الأمر الكورد فقط ، وعندما قطعوا أشواطاً بعيدة في تنفيذ سياستهم الرامية لتحويل هذه المدينة الكوردستانية إلى عربية صرف أداروا دفة عجلة التعريب نحو التركمان أيضاً . وقد بدأ التعريب الفعلي لمدينة كركوك مع بداية اكتشاف النفط فيها ، من قبل القوميين العرب وبمساعدة الإنكليز وتوافقاً مع السياسة التركية التي تعتبر الكورد من أشد أعدائها ( وأخطر عنصر فعال على أمنها القومي ) .
وكما ذكرنا أعلاه بأن التعريب الفعلي لمدينة كركوك بدأ مع اكتشاف النفط فيها عام 1927 . لم تعمد شركة نفط العراق لاستخدام العمال الكورد إلا بنسب ضئيلة جداً قياساً بعدد نفوسهم ، بل بادرت بجلب المواطنين العرب من وسط وجنوب العراق لاستخدامهم في العمل وكذلك تم تعيين الآشوريين والتركمان والهنود ، وحتى الأعمال التي لا تحتاج إلى مهارات فنية حرم الكورد من سكان كركوك منها، ضمن سياسة هادئة يراد لها عدم تمكين السكان الأصليين من الكورد في المدينة في عملية الانتعاش الاقتصادي ، وتطوير قدراتهم الذاتية لحسابات مستقبلية جنوا ثمارها لاحقاً حيث تم بسهولة قلع واجتثاث الكورد من جذورهم التاريخية دون أن يؤثر ذلك على حركة ونشاط العمل والإنتاج داخل المؤسسات الحيوية في كركوك بما ضمنها شركة نفط العراق .
في عام 1927 حين باشرت الشركة بحفر البئر الأول في حقل بابا كركر النفطي إنفجر البئر بغزارة مما أدى إلى وفاة مهندس إنكليزي وبعض العمال العراقيين بالغازات السامة المنبعثة من البئر . وكان خوف كبير على أهالي كركوك من أن يؤدي تحول الرياح إلى وصول الغازات المنبعثة من جوف البئر إلى داخل المدينة ، مما أدى إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع ذلك ، فأخبروا على الفور الجهات المختصة لاتخاذ الإجراءات المؤدية إلى مساعدة الأهالي وتوجيههم لسلك الطريق التي يجب أن يسلكوها بعكس اتجاه الريح ونقل الباقون من الأطفال والنساء والعجزة والشيوخ بسيارات وآليات الشركة إلى مكان أمين تجنباً للكارثة . وحين ذاك وحسب الوثيقة المتعلقة بتلك الحادثة وهي باللغة الإنكليزية تشير إلى عدد نفوس كركوك في تلك السنة ، لقد بلغ سكان كركوك آنذاك 35 ألف نسمة ( السكان داخل المدينة فقط ، وليس محافظة كركوك ) ثلاثون ألفاً منهم من الكورد أما البقية والتي تبلغ خمسة آلاف من التركمان والعرب والمسيحيين واليهود . [54]
في أواسط الثلاثينات من القرن العشرين بادرت وزارة ياسين الهاشمي لتوطين عشيرة العبيد وجلبهم من ديالى وإسكانهم في سهل الحويجة بحجة نزاعهم مع عشيرة العزة في ديالى ، ومن ثم جلب عشيرة الجبور الرحالة وتوزيع الأراضي عليهم بعد إنشاء مشروع ري الحويجة ، وتعيين خبراء زراعيين لإرشادهم وتعليمهم مهنة الزراعة ، بهدف توطينهم نهائياً في تلك الربوع ، لزيادة العنصر العربي في محافظة كركوك وقد أعطت هذه السياسة ثمارها بعد سنين ، بعدما نتأمل إحصائية عام 1957 التي نرى بوضوح زيادة العنصر العربي على حساب العنصر الكوردي . وحسب الإحصاء شكل الكورد 48 % بنقصان 3 % قياساً بعام كتابة المذكرتين لمحمد أمين زكي بك التي ذكرتهما في مكان آخر من هذا المبحث ، وزيادة نسبة العرب إلى 28,5 % وكانت نسبة التركمان 21,5 % . ولكن بقي الكورد هم الأغلبية في محافظة كركوك ، ومن خلال الإحصائية يتأكد لنا بأن سياسة التعريب استهدفت الكورد أولاً كما ذكرنا .
وكان المجموع العام لسكان محافظة كركوك حسب إحصائية عام 1965 بلغت 473626 نسمة شكل الكورد 170905 ، والعرب 184535 ، والتركمان 86958 + 5471 يتكلمون التركية ، الكلدانية والسريانية 1995 ، الأرمنية 1043 ، الآثورية 7278 .
لا حظ هنا أيضاً تزايد عدد العرب على حساب الكورد قياسا بإحصائية عام 1957 ، وذلك بفضل سياسة التعريب المبرمجة بعد انقلاب شباط عام 1963 .
لم نلاحظ سياسة مبرمجة لتعريب كركوك خلال فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم .
أما المرحلة الثانية لتعريب كركوك فقدت بدأت مع استلام البعثيين الحكم بعد انقلاب شباط 1963 ، كما ذكر أعلاه ، لكن سياسة التعريب هذه المرة أخذت شكلاً أكثر خطورة من سابقتها ، وذلك بترحيل وتهجير سكان القرى الكوردية في ضواحي المدينة وبلغت القرى المدمرة والمرحلة حوالي 33 قرية كوردية[55] وفي المقابل تم توزيع وتمليك تلك الأراضي على العشائر العربية ، وتسليحهم وإنشاء الربايا العسكرية على المرتفعات القريبة من تلك المناطق بهدف حمايتهم .
لكن سياسة التعريب لمحافظة كركوك أخذت أبشع صورة لها ، وأكثرها خبثاً ، هي بعد انقلاب 17-07- 1968 . حين بدأت السلطات بتغيير واقع المدينة من عدة أوجه ، وعلى مراحل حسب خطة مدروسة ، وتم تنفيذها بإتقان بارع ، ولم يسدل الستار بعد على فصول العملية .
بدأ الإنقلابيون الجدد بتطبيق سياستهم المبرمجة لتعريب كركوك ، التي لم تشهد المنطقة لها مثيلاً على مر التاريخ ، تم أولاً نقل موظفي الأحوال المدنية وجيء بغيرهم ، وقد زودوا بتعليمات معينة حول العبث بسجلات النفوس وتزويرها [56] . وتغيير الأسماء التاريخية للأحياء والمناطق إلى أسماء عربية بما ضمنها الأسماء التركمانية ، وترحيل السكان من الكورد من داخل المدينة وجلب المواطنين العرب من وسط وجنوب العراق وإسكانهم محلهم ، وسلخ الأقضية ذات الأغلبية الكوردية من المحافظة وإلحاقها بمحافظات أخرى بعيدة عنها ، وتهديم الأحياء الكوردية بحجة فتح شوارع جديدة ، وبناء أحياء سكنية جديدة للوافدين ( كما كان يطلق النظام عليهم ) في قلب الأحياء الكوردية ، فمثلاً تم تدمير ما لا يقل عن 2000 منزل ( فيهم العشرات من أقربائي ) يقطنها أكراد في حي الشورجة الكوردية الصرف ، وتعويضهم بمبالغ رمزية لا تكاد تكفي حتى لشراء قطعة أرض سكنية أخرى ، وأن استطاع أحدهم شراء قطعة أرض ، فالأوامر الصادرة من أعلى السلطات كانت تمنع حصولهم على حق التمليك ( الطابو ) وعدم إعطاء تراخيص البناء من البلدية لهم ، حسب القوانين المتبعة مع باقي أجزاء العراق .
وفي المقابل كان يمنح عشرة آلاف دينار عراقي [57] بغية البناء ، للعربي الذي ينقل سجل نفوسه من مسقط رأسه إلى كركوك مع قطعة أرض سكنية وتوظيفه في دوائر الدولة ، وأغلبهم من أفراد شرطة الأمن والاستخبارات ، والجميع من الحزب الحاكم ، وحصوله بشكل روتيني على القرض العقاري بفوائد رمزية من أجل البناء والسكن في كركوك ، ناهيك عن الامتيازات التي يحصل عليها باعتباره مواطن درجة أولى. وسمي هؤلاء من قبل سكان كركوك ب جماعة العشرة آلاف
وفعلاً تم بناء دور وأحياء سكنية جديدة في قلب الأحياء الكوردية مثل : رحيم آواه ، الذي غير إسمه إلى حي الأندلس إسكان إلى حي المثنى شورجة إلى حي قتيبة وفي الأحياء الكوردية الأخرى مثل ، إمام قاسم ، ساحة الطيران ، عرفة، سه ر كاريز ، وأخرى كثيرة غيرها ، وتمليكها للوافدين ، بلغت الدور السكنية التي شيدت لهؤلاء الذين جاءوا من وسط وجنوب العراق حوالي 51000 ألف دار وقطعة أرض سكنية إلى غاية بداية الثمانينيات وزعت على المناطق الكوردية وبأسماء عربية مثل ، حي المثنى ، البعث ، الواسطي ، الاشتراكية ، غرناطة ، الحجاج ، الحرية ، العروبة ، دور الأمن ، حي قتيبة ، حي الشرطة ، ودور العمل الشعبي ، وأخرى كثيرة غيرها . هذا غير دور الضباط وضباط الصف التي كانت تمنح على الأغلب لأفراد الجيش من العرب .
وخلال عشرين سنة فقط ما بين إحصائية 1957 وإحصائية 1977 حصل تغيير كبير لواقع السكان ، وبموجب إحصاء عام 1977 يتبين لنا التغييرالذي حصل، فقفز عدد العرب من 28,5 % إلى
44,4 % وتناقص عدد الكورد إلى 37,33 % ، فلأول مرة في تاريخ كركوك يحصل هذا التغيير ويصبح العرب الأغلبية في المدينة ليأتي بعدهم الكورد ، وكذلك بالنسبة للتركمان حيث تناقص عددهم إلى 16,31 % . لكن وبالرغم من هذا كانت ملامح المدينة لا تزال كوردية .
كل هذا كان يجري متزامناً مع ترحيل وتهجير القرى المحيطة بالمدينة تحت ذريعة ملاحقة (العصاة ) البيشمركة . أما الخطوة الأكثر خبثاً كانت تتمثل بعملية تقطيع أوصال المدينة ، وسلخ الأقضية الكوردية إدارياً بكركوك تاريخياً ، وإلحاقها بمحافظات بعيدة عنها ، مثلما حدث لقضاء طوز خورماتوا التي تبعد عن كركوك 70 كم ، لتلحق بمحافظة تكريت التي تبعد عنها 130 كم ، كما سلخ أيضاً من جسد محافظة كركوك قضاء جمجمال الكوردية الصرف لتلحق بمحافظة السليمانية، وقضاء كفري لتلحق هي الأخرى بمحافظة السليمانية ، وقضاء كلار إلى محافظة ديالى ، كل ذلك من أجل تخفيض نسبة الكورد في محافظة كركوك ، أما الأقضية الثلاث المتبقية قضاء الحويجة ، وآلتون كوبري و يطلق الكورد على هذا القضاء أسم برديئ ، ومركز قضاء كركوك كانت قد عربت منذ زمن بعيد .
وقد نتجت عن هذه السياسة الشوفينينة من الترحيل القسري وتهجير العائلات الكوردية التي بلغت 37726 عائلة ذهبت معظمها ضحايا عمليات الأنفال السيئة الصيت ، وأن حصيلة التدمير للقرى الكوردية بلغت فقط ضمن حدود محافظة كركوك 779 قرية ، 493 مدرسة ، 598 مسجد ، 40 مستوصف . [58] هذا فقط إلى أواسط الثمانينيات .
وقد استمر التعريب بعد حرب الخليج الثانية أي بعد عام 1991 بصورة أكثر شوفينية ، فما بين الأعوام 1991 2000 بلغت العائلات الكوردية المهجرة إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الكوردية 15735 عائلة بلغ عددهم 93419 إنسان [59] .
وفي حديث للسيد LORD AVEBUY عضو البرلمان البريطاني ، لمحطة التلفزيون الكوردية Medya جاء فيه نحن نعلم بأن القضية توسعت بشكل كبير ومراحل التعريب أخذت تخطو بخطوات واسعة وسريعة جداً ، ولحين عام 1999 قدم السيد ( ماكس فان ديشترويل ) المقرر الخاص للأمم المتحدة تقريره إلى لجنة حقوق الإنسان في أوربا ، أوضحت خطة التعريب بشكل جلي وهو توطين 300000 ثلاثمائة ألف إنسان عربي ليس في كركوك فقط بل في ضواحي المدينة أيضاً . [60]
وجاء أيضاً في تقرير المقرر الخاص للسيد ( أندرياس مافروماتيس ) عن حالة حقوق الإنسان في العراق والذي أحاله إلى النظام العراقي للإجابة عليه . ما يلي : أصدر عطية شنداخ المسؤول الجديد عن فرع حزب البعث في كركوك في 3 | أيار|2000 أمراً إلى وحدات الحزب بالقيام ، بالتعاون مع وحدات الأمن والشرطة بعملية تفتيش واسعة النطاق وإعداد قائمة بأسماء الأسر الكوردية والتركمانية التي تعيش في المنطقة وطلب إليهم تغيير أصلها الاثني إلى العربية وهددتهم بالترحيل في حالة عدم الانصياع لذلك .
كما زار نائب مجلس قيادة الثورة العراقي نائب القائد العام للقوات المسلحة عزت الدوري كركوك في 10|9|2000 وأكد على إجراء مسح نهائي لمحافظة كركوك للسكان غير العرب في لقائه محافظ كركوك الفريق صباح نوري علوان وتخيير القلة المتبقية من الكورد بين تغيير قوميتهم إلى العربية أو الرحيل عن كركوك . [61] حيث وزعت عليهم سابقاً قوائم تصحيح القومية .
لم يقتصر التعريب على الأحياء من سكان كركوك غير العرب ، بل حتى المقابر لم تسلم من هذه السياسة الشوفينية ، فمنذ منتصف الثمانينيات وبين فترى وأخرى يتم إزالة مجموعة من المقابر، وذلك لمحو الأثر الكوردي فيها نهائياً من المدينة . كل هذا من أجل الاستحواذ على موارد النفط وحرمان الكورد منها ، وإن هذه السياسات كانت صادرة من أعلى سلطة في العراق ، فعلى سبيل المثال أصدر مجلس قيادة الثورة وهي ( أعلى سلطة تشريعية في العراق ) قراراً في تاريخ
28- 8 -1989 المرقم 529 مذيلة بتوقيع رئيس الجمهورية العراقية ، بأنه يحق للعراقيين من غير سكنة محافظات الحكم الذاتي تملك قطعة أرض سكنية في مناطق الحكم الذاتي بالإضافة إلى ما يمتلكه في مسقط رأسه ، بينما يحق للعراقيين من سكنة مناطق الحكم الذاتي تملك قطعة أرض سكنية في محافظات العراق ما عدا محافظات ( نينوى ، التأميم ، ديالى ) فمن خلال هذا القرار تتضح لنا المآرب العدوانية ضد الشعب الكوردي وسياسة التعريب المبرمجة للنظام لمدينة كركوك
وضع النظام العراقي كل إمكانياته المادية والمعرفية لتطبيق سياسة التعريب ليس لمدينة كركوك وحسب ، بل حتى القرى والقصبات التابعة لها ، ونفذت هذه السياسة بحذافيرها ، فبالنسبة إلى مركز مدينة كركوك حاول ولا يزال تعريبها كاملة وقطع أشواطاً كبيرة في هذا المجال ، أما بالنسبة إلى الأطراف ومن جميع الجهات عمد النظام إلى خلق حزامين أمنيين ، أولاً حزام عربي وذلك بتوطين العشائر العربية الموالية له على أطراف المدينة ، والحزام الثاني هو إخلاء مناطق شاسعة من السكان وجعلها مناطق عسكرية محرمة . ويمكن القول من خلال مجمل سياسة التعريب بأن النظام طبق الأساليب الاستعمارية التقليدية للوصول إلى غاياته ، وتعامل مع المدينة وأبناءها كمستعمر ومحتل . ومن الواضح أن ما لحق بالكورد واقتلاعهم من جذورهم التاريخية ، يصب في خانة الجرائم المنظمة ضد البشرية .
ومن جهة أخرى ، ولتكملة تعريب كركوك وفق ما يراه النظام تماشياً مع مخططاته وإجراءاته بهذا الصدد ، هو توطين اللاجئين الفلسطينيين في كركوك وهذا يخدم النظام من عدة أوجه . أولاً إن الفلسطينيين هم من السنة ، والأنظمة العراقية المتعاقبة على حكم العراق كانوا على الدوام من السنة ، وهذا يخدمهم في معادلة التوازن الطائفي في العراق تماشياً مع سياساتهم ، ومن جهة أخرى إن سياسة توطين اللاجئين الفلسطينيين في كوردستان وهم غرباء عنها ، وتوزيع الأراضي عليهم وتوظيفهم ، ومدهم بالمال والسلاح سيصبحون بشكل طبيعي جزء من النظام ، وسيدافعون عن المصالح التي حصلوا عليها ، وبالنتيجة هي مصالح النظام ، وسيصبحون القوة الضاربة ضد أية محاولة للإطاحة به ، وبالرغم من هذا وذاك هو دق الإسفين بين الشعبين الكوردي والفلسطيني ، والنقطة الأهم في موضوع توطين الفلسطينيين هو مغازلة الولايات المتحدة وإسرائيل لرفع العبء عن كاهل الأخيرة في المفاوضات الجارية بين الفلسطينيين وإسرائيل ، وهو حق العودة . ومثل هذا المشروع المشبوه لا يضر بالكورد والتركمان وحدهم وحسب ، بل حتى بالقضية الفلسطينية نفسها ، لأنه يتنافى مع قرارات الأمم المتحدة وخاصة القرار 193 للعام 1947 ، الذي ينص على تقسيم فلسطين بين العرب واليهود وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم ، وفي نفس الوقت أن قرار العودة هو مطلب عربي وفلسطيني .
وأخيراً وفي مفاوضات عام 1991 بين قيادة الجبهة الكوردستانية من جهة والحكومة العراقية من جهة أخرى ، حول وضع مدينة كركوك ، قذف طارق عزيز جملته ( حكمته ) بوجه قيادة الجبهة ( أنسوا كركوك ، كما نسيّ العرب الأندلس ) فيا لقساوة هذا التشبيه وشتان ما بين الحالتين .
وخير ما أختتم به هذا الفصل المحزن من تاريخ المدينة بعضاً من التقرير الذي قدمه المحامي العربي هلال ناجي إلى الرئيس جمال عبد الناصر ، حيث كتب قائلاً :
السبب في إنكارنا لكوردية كركوك يعود إلى وجود النفط فيها والنفط بلا شك موضع أطماعنا . بيد أن خلق العداء مع الشعب الكوردي بسبب النفط لا يعود علينا إلا بالضرر ، ومن الأفضل أن نكسب هذه القومية لا أن نعاديها بسبب وجود النفط في كركوك ، فالحمد لله تمتاز الأرض العربية بالغنى ، وتمتلك الكم الهائل من النفط . [62]
قدم هذا البحث ضمن ندوة علمية عن كركوك مدينة القوميات المتآخية نموذجاً لعراق المستقبل في لندن في تموز 2001 برعاية مركز كربلاء للبحوث والدراسات .[1]