2019-07-22 00:43
بسم الله الرحمن الرحيم {{وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}} صدق الله العظيم
كانت تسمى في العراق بالحاجة أم عبد، وفي بريطانيا بالحاجة دا الفيلي، وكلمة دا باللغة الكردية تعني الام.
الحاجة ام عبد، او دا جدة، وأم فاضلة، وولية صالحة، عاشت بين ظهرانينا وعلى هذه الارض لأكثر من ثمانية عقود، وخطفها ملك الموت منا في الاول من تموز هذا العام.
من لم يعرفها ويتعامل معها فقد خسر الكثير، وهو لا يعرف ماذا خسر، ومَن تعرّف اليها وتعامل معها، كسب الكثير مما لا يمكن ان يكسبه إلاّ معها.
عمرها كان في حقبتين متساويتين من الزمن، عاشت اربعين عاماً منها في وطنها، ومدينتها بغداد، مع زوجها العبد الصالح الحاج عبد الرحيم الفيلي، وتلتها اربعون عاماً في مدينة مهجرها مانشستر في المملكة المتحدة.
حبها وتمسكها بدارها في بغداد منعها حتى من ان تحلم طوال غربتها بانها خارجه، كانت تقول (رحمها الله ):طوال سنيِّ هجرتي لا احلم إلاّ وانا في منزلي في بغداد. قناعتها بقسمتها وقضاء الله وقدره وقوة ايمانها اعطتها من السكينة ما جعلها لا تشتكي من صعوبة الغربة، او الهجرة القسرية التي عاشتها.
لكي نتحدث عن عظمة السيدة الوالدة التي رحلت عنا الى السماء مع عليين والصالحين، علينا ان نصف صورة واقعها وفضاءات محيطها.
هذه الام الفاضلة ام لاثني عشر من الابناء،وجدة لأكثر من ستين حفيداً وابناء الاحفاد، وام للعشرات من الذين ارضعتهم من حليبها الطاهر. مشروعها التربوي كان قائماً على ثلاث ركائز: إصلاح الأبدان، والاديان، والاخلاق. كانت من الذين تسميهن لغة وكلام العرب من النساء المُخَدِّرَات، اي الكريمات من النساء اللاتي لا يخرجن من دارهن إلاّ لأمر جلل، لم تسافر في عمرها (مع وضعها الميسور مادياً) إلاّ قلة، حجاً لبيت الله الحرام، وزيارة المراقد في سوريا وايران.
لم تعرف القراءة والكتابة (إلاّ كتابة الارقام وبحجم كبير وعلى قصاصات غير متشابهة لتتذكر ارقام التليفونات) وتمسك القلم كالأطفال ولم تملك يوماً حاسوباً او هاتفاً ذكياً او تستعمل الكومبيوتر او اي جهاز الكتروني اخر.
كرمها لا حد له، تطبخ بنفسها للضيوف، دارها قبلة، وديوان، ومحل زيارة ودار ضيافة على طول اليوم. لديها مخزون اكل للحالات الطارئة دوماً، طباخة ماهرة وخاصةً للأكلات الشعبية العراقية. اقراص خبزها ليس الذ منها، (باچتها) ماركة مسجلة.
خصالها الحسنة لا تُعد ولا تحصى، المُعرف منها لنا: الحب، الإيثار، الرحمة، البساطة، الصدق، الإيمان، الحِلم، التقوى، بشاشة الوجه والمعشر، الحكمة، الشجاعة، الصبر، الحث على الرزق الحلال، قضاء حوائج الاخرين، ايجابية الطرح، لا تنقل الكلام، لا تذكر الاخر إلاّ بالخير. بالمختصر نقول: لم يتعرف عليها احد الا وأحبها وتمسك بمعرفتها وسُحر بجمال خصالها، كرمها جعلها لا تبخل على الاخر بوقتها وصحتها، ومادياً اذا استطاعت إلى ذلك سبيلا.
اما من ناحية الثقافة، فلغتها العربية متواضعة. لا تعرف من اللغات إلاّ الكردية وباللهجة الفيلية فقط، ولكن مع هذا ترى لها علاقات متشعبة، مختلفة، طويلة الامد، متابعة، صبورة مع الاخر، واصدقاؤها بأعمار واجناس متنوعة ومن جغرافيا مختلفة، لا تميز في هذه العلاقات بين الكردى والعربي، مسلم او غير مسلم، تقيم علاقة صداقة ومحبة وأخوة مع جميع افراد العوائل التي تتعرف عليها، تتذكر مناسبات الاخر وتتواصل معهم، اعراساً كانت ام اتراحاً ام ولادات، وكانت معروفة بدعمها المعنوي للجميع.
كانت ملتزمة دينياً ومواظبة على الصلاة، لبسها محتشم ومن اهل گبل، لا تستمع إلاّ للقران الكريم ولا ترى من التلفاز إلاّ الاذاعات الدينية. لم تتشاجر يوماً مع احد، لا جار، ولا زوجة ابن، ولا قريب أو غريب، تعطي النصيحة بحنان وحكمة، تسامح وتنسى سوء تصرف الاخر معها بسرعة مفرطة، لم تكن تحب ان تطلب من الاخر شيئاً لنفسها بل للأخر المحتاج أينما كان ولا تخجل من ذلك.
تتابع الاخبار السياسية وتتفهم ابعادها وتعطي النصيحة لمن تراهم من سياسيين ولكن بالمختصر المفيد فقط، كانت نبيهة جداً، وتعرف بقوانين البلاد ونظامها السياسي. شجاعة، تواجه الظالم، وتذهب لسجن ابو غريب او غيرها من السجون والمعتقلات لزيارة المعتقلين السياسيين ممن تعرفهم او تعتقد ان لا اهل لهم لتخفف عنهم وحشة السجن والاعتقال، ولا تنسى ان تأخذ معها الاكل ومستلزمات المعيشة للسجين. كانت تشارك الاحزاب الكردية والاسلامية في فعالياتها السياسية ضد نظام الطاغية صدام، تراها في اغلب التظاهرات وكانت حالة انتباه للصحفيين الأجانب لنشاطها وهي طاعنة في السن على كرسي المسنين.
يقال ان بر الوالدين مطلوب إلاّ في حالات شاذة، اما معك يا امي دا فبّرك بالمطلق عبادة. وان كان الاخر يقبل بالتعايش مع سكان هذه الارض، فالحاجة ام عبد كانت تُفعِّل وتُجسِّد لنا نحن البشر معنى الامومة والايثار والرحمة. اسطورة تمشي على الارض وبين ظهرانينا، الاخر يقول ان الهند انتجت السيدة الفاضلة الأم تريزا، اما نحن فقد رزقنا الرحمن بأم عبد الفيلي، وانه لرزقٌ عظيم.
كيف يمكن لنا ان نملأ هذا الفراغ الذي تركتِه في حياتنا برحيلك؟ يقال بأن الزمن كفيل بالنسيان، ولكني اقول بأن الصبر نعمة كفيلة بتخفيف ألم الفراق.
الحاجة ام عبد، اسطورة، إنسانة خارقة، ملاك، ولي، عصمتها اخلاقية وأدبية ، سمّها ما تريد من مسميات انسانية رائعة وستكون بخيلاً بحقها وبوصفها.
لم تكن من اهل هذه الارض، وكأنها مبعوث او سفير السماء لسكان الارض لتجسد لهم معنى الانسانية وقيم السماء السمحاء. هؤلاء، من امثال الحجية دا، من السفراء القلة النادرين.
لم تكن فقط قائدة للمجتمع الذي عاشت فيه، بل كانت إماماً جسدت لمن عاشرها اثناء عقودها الثمانية على الواقع معنى ايثار القيادة.
من تعرف عليك كان يغبطنا لعشرتنا معكِ، ولا يستحضر مع نفسه ان ألم فراقك عنّا (وهذه من سُنّة الحياة) سوف يكون أضعافاً واشد وطأة. فهل حقيقة الرحيل عنّا ترسخت في حياتنا واستطعنا ان نتعايش معها بعد، اشك في ذلك؟ وهل احدنا يعرف قيمة النعمة الا بفقدانها.
اللَّهُمَّ وَ إِنْ سَبَقَتْ مَغْفِرَتُكَ لَهُمَا (الوالدين) فَشَفِّعْهُمَا فِيَّ، وَإِنْ سَبَقَتْ مَغْفِرَتُكَ لِي فَشَفِّعْنِي فِيهِمَا، حَتَّى نَجْتَمِعَ بِرَأْفَتِكَ فِي دَارِ كَرَامَتِكَ وَ مَحَلِّ مَغْفِرَتِكَ وَ رَحْمَتِكَ إِنَّكَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَ الْمَنِّ الْقَدِيمِ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
رحمك الله يا أمي..ويا معلمتي وملهمتي الغالية الحاجة دا الفيلي.. ونسأل العزيز الحكيم لك بالمغفرة وان يجمعنا بك وبوالدي المرحوم الحاج عبد الرحيم الفيلي في جنات النعيم.. امين يا رب العالمين...
ابنك لقمان عبد الرحيم الفيلي[1]