د.فائق مصطفى
إذا كان أشهر تعريف للثقافة - وهو تعريف تايلور- الذي يحددها بأنها ذلك الكل الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في المجتمع،
فاني اقصد بها هنا ما يخص الآداب والفنون والأخلاق والقيم الاجتماعية، اي الجانب الجمالي عند الإنسان، وهو واحد من ثلاثة تشكل أسس المدنية، الإيمان بالعقل والإحساس بالجمال والمقدرة على ضبط زمام النفس، وهذه الجوانب الثلاثة هي ما يعنيه ثالوث الفلاسفة الشهير نفسه (الحق والخير والجمال) يقول الدكتور زكي نجيب محمود “واهم ما يميز الجانب الوجداني من المتمدن في عصرنا الحديث هو التأثر بما ينتجه رجال الأدب والفن المحدثون، فأنت متخلف عن عصرك ومدنيته إذا لم تأخذ بنصيب-قليل أو كثير-في تقدير ما ينتجه هؤلاء الرجال من أدب وتصوير ونحت وموسيقى وتمثيل ورقص وغناء، مهما يكن عملك وموضوع اختصاصك، فقد تكون طبيبا او مهندسا او رجلا من رجال الأعمال، لكنك لكي تكون إلى جانب ذلك متمدنا فلا بد من إضافة عنصر آخر هو التمتع بنتاج الفنون” وفي الشعر عبّر عن هذا الجانب شاعرنا الرصافي في قصيدته المعروفة (الفنون الجميلة):
إن رمت عيشا ناعما ورقيقا
فاسلك إليّ من الفنون طريقا
واجعل حياتك غضة بالشعر وال
تمثيل والتصوير والموسيقى
تلك الفنون المشتهاة هي التي
غصن الحياة بها يكون وريقا
في السليمانية لا يتأخر لقاء الإنسان بالثقافة، ولاسيما إذا كان مثقفا ونظرته إلى الأشياء عميقة، لأنه، منذ الساعات الأولى لوصوله إلى المدينة، يلقى الثقافة في كل مكان، وهي تبتسم له وترحب به وتعلن عن نفسها، وتدعوه إلى التمتع بثمارها اليافعة وانجازاتها الزاهية. وعندما يقترب الإنسان منها أكثر يراها تملأ الدروب ازهارا ورياحين، وتغني ألحانا عذبة وتعزف أنغاما منعشة وتعرض تمثيلا رفيعا وترسم لوحات ساحرة،الامر الذي يدفع المرء الى ان يهتف: صدق من قال إن السليمانية عاصمة الثقافة الكردية في العراق، وفي أنحاء كردستان كلها.
ان الثقافة في السليمانية تتجلى على نحو حي في مظاهر عدة منها:
اولا: انتشار الاشجار والحدائق واشجار التوت، وكان هذا محور مقالنا الأول في هذه السلسلة التي سميناها (السليمانية في عيون أكاديمي) حيث قلنا: فكما يميز السليمانية عن غيرها من المدن العراقية خضرتها وحدائقها الزاهية التي تقع عليها العيون في كل مكان في الساحات والشوارع والأسواق والأحياء والمدارس والمستشفيات وحتى الأزقة الضيقة، وما أن تقع عليها العيون حتى تدخل المسرة معها في القلوب وتسري البهجة في النفوس. والعلاقة واضحة بين الحدائق والأشجار والثقافة لان حب الخضرة مظهر من مظاهر الإحساس بالجمال الذي هو ينبوع الفنون.
ثانيا: الشعر في السليمانية هو الأمير والسيد والصديق والسمير لأغلب الناس المثقفين او غير المثقفين، فالناس يرددون الأشعار في مجالسهم وأسمارهم، والشعر نجده منقوشاً على جدران المقاهي والمطاعم والفنادق، كما أن أهم شوارع المدينة وأجملها يحمل أسماء لشعراء: شارع مولوي وشارع سالم وشارع كوران وشارع بيره ميرد..الخ، كذلك تنتصب شامخة تماثيل شعراء الكرد داخل أروقة حديقة الشعب وسط السليمانية. وفي الوقت نفسه هناك مدارس تحمل أسماء شعراء عرب مثل مدرسة الجواهري، وشاعر العرب الأكبر الجواهري تحبه السليمانية كثيرا وقد أقامت له تمثالا في مدخل شارع سرجنار تقديرا منها لدفاع الشاعر عن كردستان زمن محنتها في العهد المباد، لكن الشاعر الذي يحظى بأكبر تقدير وشعبية هنا في أيامنا هذه، هو الشاعر الكبير شيركو بيكه س الذي يعرفه الناس جميعا فهو عندما ينشد قصائده في المهرجانات والاحتفالات ينصت إليه الجميع بواسطة البث الإذاعي والتلفزيوني في البيوت والمقاهي والسيارات، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عشق السليمانية للشعر والثقافة، الشعر الحقيقي الذي يجسد آلام الناس وأحلامهم وتطلعاتهم ويستوحي تراثهم الشعبي من الملاحم والحكايات وسير أبطالهم وعشاقهم. وهنا يحضرني ما رواه مرة المؤرخ الانكليزي المعروف (توينبي) عندما زار جزر ايسلنده حيث دخل مكتبة فوجد صياداً فقيرا يشتري ديوان شعر بثمن باهظ الأمر الذي أثار دهشته، وهذا ما جعله يعد ايسلنده ارقى دولة في العالم لوجود مثل هذا السلوك الثقافي الايجابي فيها. وعشق الكردي للشعر معروف وعريق وقد لفت أنظار الرحالة الأوربيين الذين زاروا كردستان في القرون الماضية،فمثلا يقول (ريج) ان الكردي يتميز ب(اخلاص ما له من فواق، والتزام بالكلمة وعطف على ذوي القربى ومعاملة ممتازة للمرأة، وذوق ادبي معقول، وحب للشعر واستعداد للتضحية واعتزاز جميل بالقومية والوطن.
ثالثا الصحافة: تعد الصحافة معلماً مهماً من معالم الحياة الثقافية والفكرية في المجتمعات المعاصرة لأنها خير واسطة لنقل وتجسيد الأنشطة الثقافية والفكرية كافة. وللصحافة تاريخ عريق في السليمانية فهي أول مدينة كردستانية صدرت فيها جريدة باللغة الكردية عام 1922 وهي جريدة(بانكي كوردستان) صدرت بثلاث لغات العربية والفارسية والكردية. بعدها توالى صدور الصحف فيها وأهمها جريدة (زين) التي أصدرها الشاعر بيره ميرد في عام 1939. والآن يصدر فيها عدد كبير من الصحف بين يومية وأسبوعية، ومجلات أسبوعية وشهرية ودورية بالكردية والعربية. وعلى نحو عام تؤدي الصحافة في السليمانية دورا كبيراً في المجتمع السليماني فهي تعكس إيقاع الحياة اليومية فيها وفي المدن الكردستانية الأخرى، بنشر أخبار وفعاليات المؤسسات الاجتماعية والسياسية، ونقد المؤسسات الحكومية، ومناقشة البرامج التلفازية والأنشطة الثقافية كافة، وتجسيد هموم الناس وتطلعاتها. من اجل ذلك صارت الصحف تحظى بإقبال الناس ومتابعتهم حتى صار منظر وقوف الناس في صفوف طويلة أمام الصحف المعروضة على أرصفة الشوارع، منظراً مألوفاً في المدينة، ومثله منظر الذين يقرأون الصحف والمجلات في الحدائق العامة ولاسيما حديقة الشعب في قلب المدينة. لكن منظرا آخر أتمنى أن أراه في السليمانية، منظر قراءة الناس للصحف وهم داخل باصات النقل العامة، وهو من المناظر المألوفة في المدن المتحضرة.
رابعا: الفنون الجميلة: تبدو آثار الفنون الجميلة من غناء ورقص وموسيقى ورسم ونحت وتصوير وتمثيل، في كل مكان هنا، فالدبكة الكردية تلك الرقصة الشعبية الجماعية، يكاد يعرفها الكل، وتؤدى عادة بأنغام الطبل والزورنا، ولها حضور واضح في الحياة الاجتماعية للكرد، وفي الاثار الادبية الكردية، كما نجد في مسرحية الدكتور نافع عقراوي (الهدية والجرح).
الراوية..قفوا..وأعلموني ما هذا الضجيج...ولماذا كل ذلك؟
شاب من المجموعة- تعال وشاهد
الراوية-ماذا أشاهد؟
شاب آخر-دبكتنا للراحة والسعادة والفرح
والدبكة تفرح الروح
الدبكة تقوي الجسم.
ليس صعباً على الإنسان هنا أن يلحظ عشق الكرد للغناء والموسيقى، فالكردي عندما يسمع لحنا جميلا، تبدو عليه في الحال آثار الانفعال والطرب، من اجل ذلك غدت السليمانية زاخرة بعدد كبير من المغنين والمغنيات وفرق موسيقية عدة أهمها الفرقة السمفونية التي اشتهرت بتقديم حفلات موسيقية راقية، وصف لنا أحداها محمد الحمراني قائلا (في قاعة صغيرة امتلأت بالحضور الذين كان اغلبهم متعبين، ولكن حين عزفت الفرقة السمفونية ذهب التعب وانتعشت القاعة بالتصفيق. كانت مقطوعات لموسيقيين من القرن الثامن عشر، وأخرى من القرن العشرين توحي بمقدرة العازفين على التوغل في أعماق نوازع الموسيقى واصطياد ما هو مؤثر) أما مايخص المسرح فالدراما التلفزيونية مزدهرة في السليمانية، وتحظى باقبال كبير من لدن الناس، هناك فرق مسرحية عديدة تقدم عروضا فنية طوال ايام السنة وسنفرد مقالا خاصا للمسرح في هذه السلسلة (السليمانية في عيون أكاديمي).
ولعل أهم علامة من علامات العناية العظيمة التي توليها السليمانية للثقافة والفن هي إنشاء (قصر الفنون) الذي سيتم انجازه قريبا وهو صرح حضاري كبير (سيتحول إلى مكان لالتقاء الناس بالفنانين وتعريف الفن والتراث الكرديين بالأجانب أو تعريف التراث والفن الأجنبي بالشعب الكردي، إلى جانب ذلك فإن هذا المشروع سيلعب دوراً مهماً في تعزيز أواصر العلاقات الثقافية ويدفع بعجلة الفن في السليمانية وكردستان عموما إلى الأمام) كما جاء في التحقيق الذي نشره شهاب القره لوسي في (الاتحاد) عن هذا القصر.
خامسا: المراكز الثقافية: في السليمانية عدد كبير من المراكز والمؤسسات والجمعيات الثقافية التي تقوم بفعاليات وأنشطة ثقافية وفنية وفكرية مثل إصدار مجلات وكتب وعقد مؤتمرات وندوات ثقافية، وهو امر ينشط الثقافة ويطورها. ومن هذه المراكز والمؤسسات الثقافية سردم وخاك وكلاويز وحمدي ومركز كردستان للدراسات الإستراتيجية..الخ.
وعلى نحو عام يلاحظ على الفعاليات والأنشطة الثقافية هنا أن هناك توازناً بين التراث والحداثة اذ هناك عناية كبيرة بالموروث الثقافي الكردي مثل جمع وطبع أعمال الشعراء القدامى والحكايات والملاحم التراثية ودراستها، والحرص على كل مكونات الفولكلور الكردي من تقاليد شعبية واغان وفنون وأزياء. اما الحداثة فتتمثل في العناية بالترجمة، ترجمة الآثار الفكرية والفنية المهمة لشعوب وحضارات العالم، والافادة من المستجدات في الفنون والعلوم..الخ.وهذا هو عين الصواب لأن التقدم الثقافي-كما يقول الدكتور عامر حسن فياض- (هو وليد التفاعل بين الموروث الثقافي والمقتبس الثقافي، عليه فإن التخلف الثقافي سيتحدد بعدم التفاعل بينهما، او بكلمة ادق بفقدان التوازن الثابت بين المقتبسات والموروثات والمبتكرات).
وختاما أقول إن مستقبل الثقافة هنا سيكون مشرقا بفضل أجواء الحرية والديمقراطية التي يعيشها إقليم كردستان، وبفضل الرعاية الحكومية الكبيرة للثقافة، ولاسيما بعد توحيد الإدارتين في الإقليم، وتعيين مثقف معروف (روائي وصحفي) وزيرا للثقافة وهو الأستاذ #فلك الدين كاكائي# .[1]