نحو مقاربة جديدة لحل المسألة الكرديةِ
عبد الباسط سيدا
لا يختلف واقع منطقتنا كثيرًا عمَّا كانت عليه الحال عبر مختلف المراحل التاريخية السالفة، القديمة منها والوسيطة والحديثة، فما فتئت هذه المنطقة تشهد صراعات بين القوى الإقليمية المتنفذة، ومحاولات هيمنة من جانب مجموعات سكانية بعينها على مجموعات أخرى مختلفة عنها عِرقًا ودينًا ومذهبًا، وقد ترتب على ذلك تبديد للطاقات وهدر للإمكانات، وتدمير للعمران، وتمزيق للمجتمعات، وحرمان من تراكم للثروات والخبرات أعاق نهضتها.
أما ما نشهده راهنًا فهو حصيلة تقاطعات وتداخلات بين مشاريع مختلفة، تتلاقى أهدافها المرحلية أحيانًا إلى حد التماهي، أو تتباعد إلى درجة التعارض والتناقض، مما يضيف تعقيدًا استثنائيًّا إلى المعقد أصلًا.
وفي العقد الأخير، بدأ التصادم بين المشاريع المعنية يأخذ طابعًا حادًّا بفعل إرث التاريخ من ناحية وبسبب الصراعات المفتوحة بين الشعوب المطالبة بمستقبل أفضل والأنظمة المتمسكة بهيمنتها وتحكُّمها من ناحية أخرى. أما الحصيلة المتمخضة عن تفاعل الجهود التغييرية، والأخرى المقابلة المحافظة، فهي تتشخص في الواقع المعيش الذي ترتسم ملامحه عبر اصطفافات واستقطابات، فضلًا عن تجاذبات تتعارض بدرجات متفاوتة وتتناقض مع مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية؛ الأمر الذي يثير الخوف من الحاضر، ويشكِّك في المستقبل؛ فيغدو الماضي رغم ما فيه من سلبيات هو المعيار والحكم؛ ويتكوَّر كل مكوِّن ديني أو عرقي أو مذهبي على ذاته، باحثًا عن مسارات الإنقاذ الخاصة به، بعيدًا عن الالتزامات تجاه الوطن وأهله، وبمعزل عن مقتضيات الشراكة في الحقوق والواجبات والمصير.
المسألة الكردية بين التاريخ والواقع:
المسألة الكردية واحدة من أهم المسائل الكبرى وأكثرها تعقيدًا في منطقة الشرق الأوسط منذ نحو قرن كامل، وذلك استنادًا إلى حجمها ومدى تأثيرها وتداعياتها على المستوى الإقليمي؛ فضلًا عن المستويين الوطني والدولي. فهي تخص شعبًا أساسيًّا من شعوب المنطقة، يبلغ تعداده نحو 40 مليون نسمة، موزعين بصورة أساسية بين تركيا وإيران والعراق وسوريا. وقد تعرض هذا الشعب لظلم التاريخ والجغرافيا. فعلى الصعيد التاريخي، توافقت الإرادات الدولية مع الرغبات الإقليمية في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى على تقسيم كردستان (بلاد الكرد)، لتصبح موزعة بين أربع دول في المنطقة بعد أن كانت مقسمة قبل تلك الحرب بين دولتين، هما: الدولة العثمانية وإيران .
ورغم الوعود التي أُعطيت للكرد؛ وبخاصة في معاهدة سيفر، 10 أغسطس/آب 1920، التي تضمنت ما يمكن أن نسميه بخارطة طريق لمشروع دولة كردية مستقلة مركزها ولاية الموصل، إذا عبَّر الكرد عن رغبتهم في ذلك بموجب استفتاء كان من المفروض أن يُنظَّم وفق جدول زمني محدد ؛ فإن التطورات اللاحقة قطعت الطريق على ذلك. وجاءت اتفاقية لوزان، 24 يوليو/تموز 1923، لتتجاهل كليًّا البنود الخاصة بالكرد في معاهدة سيفر، وتحرص على حماية مصالح كل من بريطانيا وفرنسا في المقام الأول في كل من العراق وسوريا، وتراعي في الوقت ذاته مطالب تركيا في عهد مصطفى كمال الذي كان قد حقق انتصارات ميدانية على الأرض، لاسيما على اليونانيين. وكل ما بقي للكرد في المعاهدة المعنية هو التزام الحكومة التركية بأنها لن تميز بين مواطنيها على أساس الدين أو القومية أو اللغة . غير أن ما حصل هو أنه حتى هذه البنود ظلَّت حبرًا على ورق؛ وكانت السياسة القومية المعتمدة تركز على إلغاء الوجود القومي الكردي بمختلف الأشكال والأساليب، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية.
أما على الصعيد الجغرافي، فقد فَصَلَت الحدود بين الكرد في البلدان التي يعيشون فيها (تركيا، إيران، العراق، سوريا)، وجعلت عملية التواصل فيما بينهم صعبة؛ ما أدى إلى تفاوت لافت في مستويات التطور والنمو والوعي في سائر الميادين. وفرضت الدول المعنية على الكرد خططًا اقتصادية تنموية، تلبي احتياجات مراكز تلك الدول، ولا تعطي أي اعتبار لاحتياجات المناطق الكردية ضمن نطاق كل دولة بمفردها، وعلى صعيد إقامة العلاقات فيما بينها؛ الأمر الذي كان من شأنه -فيما لو تحقق- أن ينهض بها اقتصاديًّا عبر تأمين الكثير من مستلزمات النهوض بطرق أيسر، وكلفة أقل، وإنتاج أكثر.
وعلى الصعيد السياسي والمجتمعي؛ كانت المناطق الكردية في الدول المشار إليها هدفًا لسياسات التهميش والإهمال، والجهود المستمرة من أجل إلغاء الهوية الكردية عبر جملة من الإجراءات والقوانين التعسفية، وكانت اللغة من بين أكثر مقومات الهوية الكردية تأثرًا؛ إذ حوربت وفُرض على الكرد اللغات الرسمية في البلدان التي يعيشون فيها، ومُنعوا على مدى عقود من استخدام لغتهم في التعليم والنشر، كما منعوا من تأسيس مراكز البحث والمجامع اللغوية الخاصة بهم.فالكرد قد خضعوا لاضطهاد مزدوج، تمثَّل في حرمانهم من حقوقهم القومية المشروعة؛ الثقافية والسياسية والإدارية والاجتماعية من جهة؛ وتعرضهم في الوقت ذاته لجملة من الحملات والإجراءات القمعية، والمشاريع التمييزية التي استهدفت وجودهم القومي في المقام الأول من جهة ثانية، ويُشار هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى أحداث دموية ذهب ضحيتها أعداد كبيرة من الكرد في الأنفال وحلبجة في العراق إبَّان حكم الرئيس صدام حسين وحزب البعث. والحملات التي شنَّتها القوات الإيرانية على المناطق الكردية خاصة بعد فتوى الإمام الخميني المعروفة ضد الكرد.
أما في تركيا، فقد تعرض الكرد لحملات قمعية في كل من ديرسم وديار بكر وبدليس وغيرها من المناطق، واستمرت سياسة الإنكار والاضطهاد التركي للكرد في ظل الحكومات المتعاقبة، حتى بلغت ذروتها في مرحلة الانقلاب العسكري الذي قاده كنعان إيفرين عام 1980، غير أن العقلية الرسمية في تركيا بدأت بالتحول إلى حدٍّ ما على صعيد التعامل مع القضية الكردية إبان عهد الرئيس الراحل، تورجوت أوزال (1989- 1993). واستمر هذا التوجه في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية التي دخلت في مفاوضات مباشرة مع حزب العمال الكردستاني ، وذلك بهدف إيجاد حل للقضية الكردية. وقد اعتمد الحزب المذكور سياسة الانفتاح على الكرد عبر السماح بالفعاليات الثقافية والاجتماعية الكردية، وحتى السياسية منها، كما أقدم على فتح قناة تليفزيونية رسمية تبث برامجها باللغة الكردية، إلى جانب فتح الأقسام الكردية في العديد من الجامعات، وقد مهد ذلك كله السبيل لدخول حكومة العدالة والتنمية في مفاوضات مباشرة مع حزب العمال الكردستاني عبر زعيمه عبد الله أوجلان، ولكن لأسباب مختلفة تعثرت تلك المفاوضات، ثم توقفت، واندلعت المعارك مجددًا، ونحن نسمع كثيرًا من جانب حزب العمال الكردستاني أن الحكومة تتحمل المسؤولية؛ هذا في حين أن الوقائع والمعطيات تؤكد أن الحزب المذكور هو أيضًا يتحمل المسؤولية، ولكن الأمر الذي لا يطوله أي شك هو أن إطلاق العملية السلمية لحل القضية الكردية في تركيا على أسس عادلة سيكون في مصلحة الجميع في تركيا، كما سيكون أيضًا لصالح الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها.
أما في سوريا، فقد اعتمد حزب البعث منذ سيطرته على الحكم، عام 1963، سياسة ضد الكرد استهدفت وجودهم القومي بصورة مباشرة، نجم عنها مصادرة أراضيهم تحت شعار قانون الإصلاح الزراعي، وتجريدهم من الجنسية السورية بذريعة الإحصاء الاستثنائي 1962، وفرض على مناطقهم التعريب القسري الذي شمل أسماء المدن والقرى. كما أحدثت تلك السياسة تغييرات ديمغرافية وإدارية في المناطق الكردية التي تعرضت للإهمال والنهب حتى باتت تلك المناطق من أكثر مناطق سوريا تخلفًا، رغم كونها مصدر النفط والثروة الزراعية، لاسيما المحاصيل الاستراتيجية .
والأمر اللافت أكثر من غيره، هو أن الدول الأربع التي تتقاسم كردستان فيما بينها، قد التزمت التنسيق الأمني العسكري المشترك من أجل مواجهة ما تعتبره خطرًا كرديًّا لابد من التصدي له، ولعل النسخة الأخيرة لمثل هذا التنسيق تجسدت فيما تعرضت له منطقة كركوك، في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2017، حينما سيطرت الحكومة المركزية في بغداد على تلك المنطقة.
وقد ولَّد كل ذلك مظلومية كردية، أسهمت السياسة الإنكارية المستمرة في تعميقها وتعميمها؛ الأمر الذي ترتب عليه الكثير من التوتر والتشنج والتشدد، مما عرقل الجهود العقلانية الرامية إلى مناقشة القضية من كل جوانبها بصورة متأنية، بغية الوصول إلى حل يرضي الجميع، ليتحول الكرد إلى جسر للتواصل بين الجميع، وذلك عوضًا عن أن يكونوا موضوعًا للشك والتوجس، والدعوة إلى التيقظ والتصدي لخطرهم بصورة دائمة.
وقد شهدت المرحلة التي أعقبت إسقاط نظام حكم الرئيس صدام حسين نقلة جديدة على صعيد القضية الكردية في العراق، وذلك بعد أن تحول الكرد إلى فاعل أساسي ضمن عملية إعادة بناء الدولة العراقية الجديدة؛ وقد ساعدهم على ذلك واقع شبه الاستقلال الذي عاشوه منذ نهاية حرب الخليج الأولى عام 1991، فضلًا عن أن الدستور العراقي الذي تم إقراره عبر استفتاء شعبي نصَّ على أن العراق دولة اتحادية/فيدرالية؛ وتم بيان حدود إقليم كردستان، وبقيت مناطق أخرى موضوعًا للأخذ والرد من قبل سلطات الإقليم وسلطات بغداد، وتمثَّل المخرج في اعتماد مصطلح المناطق المتنازع عليها، وكان التوافق على آلية محددة لحل الإشكاليات الخاصة بها، وذلك بموجب المادة 140 من الدستور التي لم تنفذ، ولم تكن هناك أية بوادر توحي بالرغبة في تنفيذها.
وما ترتب على ذلك تجسد في حالة من عدم الثقة والتوتر بين بغداد وأربيل، وهي الحال التي ترسخت، وزاد ضغطها على صنَّاع القرار في المركز والإقليم؛ الأمر الذي أدى إلى ضائقة اقتصادية في الإقليم نتيجة قطع الميزانية من جانب المركز. ومع فقدان الثقة بين الطرفين، لاسيما بعد احتلال تنظيم “الدولة الإسلامية” للموصل، وإقدامه بعد ذلك على مهاجمة المناطق المتنازع عليها، وبروز مؤشرات تؤكد وجود خطط لمهاجمة الإقليم نفسه؛ قررت القيادة الكردستانية إجراء استفتاء عام على مستوى سكان الإقليم بهدف إبداء الرأي حول موضوع الاستقلال. ولسنا هنا بصدد الدخول في تفاصيل ما حدث، ولا مناقشة مدى مشروعية ما حدث، أو مشروعية الإجراءات الانتقامية الردعية التي اتخذتها حكومة بغداد لاحقًا ضد الإقليم. وإنما ما نود أن نتوقف عنده هو أن الموضوع في مجمله أكد أهمية أخذ البُعد الإقليمي للقضية الكردية بعين الاعتبار. فقد كان هناك موقف واضح رافض من جانب كل من تركيا وإيران والعراق لموضوع الاستفتاء.
ولم يتوقف الأمر عند حدِّ إعلان المواقف، بل ظهرت بوادر تنسيق عسكري، وجهد مشترك في سبيل تطويق نتائج الاستفتاء، والمطالبة بإلغائه، واعتباره كأنه لم يكن .
وبالتناغم مع هذا الموقف الإقليمي الرافض لفكرة الاستفتاء، كان هناك موقف دولي عام مطالب بالتأجيل، تمثَّل في البيان الذي أصدره مجلس الأمن الدولي بهذا الخصوص. وما يستنتج من كل ذلك، هو أن للقضية الكردية في المنطقة أبعادًا ثلاثة، يؤثِّر الواحد منها في الآخر، ولا يمكن التعامل مع أحدها بمعزل عن الآخر.
آفاق الحل
المدقق في واقع منطقتنا الراهن بغية البحث عن الأسباب الجوهرية لحالة عدم الاستقرار التي تعيشها منذ الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا، يتبيَّن له أن السبب الأساس يتمثَّل في عدم الاعتراف الضمني والصريح من جانب المكونات المجتمعية لدول المنطقة بالحدود السياسية التي رُسمت بناء على اتفاقيات بين الدول الاستعمارية المنتصرة من ناحية، وتلك التي كانت قد خسرت الحرب من ناحية ثانية. وقد تجسد عدم الاعتراف هذا في مشاريع أيديولوجية عدة، منها ما تمحور حول القومية، وأخرى حول الدين وحول المذهب. ولم تتمكن دول المنطقة من بناء مشاريع وطنية تُطَمْئِن سائر مكوناتها، ولذلك كان النزوع المستمر نحو مشاريع حالمة عابرة للحدود. وفي أوقات الأزمات كان التشدد والنزوع نحو التقوقع على الذات، والالتحاف بولاءات ما قبل وطنية، أملًا في الحصول على قسط من الطمأنينة.
وبالتوافق مع ذلك، نرى أن كل الصراعات التي كانت، أو تلك المستمرة راهنًا، سواء بين القوى الإقليمية، أم في داخل كل دولة، إنما باعثها في المقام الأول هو عدم الثقة، والتوجس من نزعات الهيمنة والتفرد. هذا إلى جانب تداخل وتفاعل هذه الصراعات مع المصالح الاستراتيجية للقوى الدولية، تلك القوى التي تعتبر منطقتنا واحدة من المناطق المهمة بالنسبة لها.
والمخرج من كل ذلك يتمثل في الدولة الوطنية المدنية الحيادية إيجابيًّا أمام جميع مكوناتها؛ فلا تكون دولة قومية أو دينية، بل تكون دولة عادلة، تحترم سائر القوميات والأديان والمذاهب والتوجهات على قاعدة الاعتراف بالخصوصيات والحقوق، ومن دون أي تمييز أو تحزب لصالح هذه الجهة أو تلك.
إن من شأن دولة كهذه أن تتمكن من طَمْأَنَة مكوناتها أولًا، وجيرانها ثانية، وألا تكون ميدانًا للتدخلات الخارجية؛ بل تكون مستعدة لبناء علاقات إيجابية مع المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي على أساس المصالح المتبادلة، والعمل المشترك من أجل إنجاز مهام التنمية، وتأمين فرص التعليم والعمل للأجيال الشابة؛ الأمر الذي سيقطع الطريق على النزعات العدمية التدميرية التي تظهر بأشكال مختلفة. والمدخل المؤدي إلى كل ذلك، هو تعزيز التفاهم والتواصل والحوار بين الجميع بغية الوصول إلى قواسم مشتركة يُبنى عليها.
وانسجامًا مع ما تقدم، نرى أهمية انطلاق الحوار العربي-الكردي بين الأكاديميين والنخب السياسية، ونحن اليوم بحاجة إلى حوارات مشابهة تركية-كردية، وإيرانية-كردية، وحوارات شاملة بين النخب الفكرية والسياسية وبناة الرأي العام لسائر شعوب المنطقة، وذلك لمعرفة الهواجس، والقطع مع الأحكام المسبقة، والتوافق على قواسم مشتركة تكون أساسًا لحلول إبداعية للمسألة الكردية، انطلاقًا من خصوصيتها في كل دولة من دول المنطقة، ذلك لأن ثمة تباينًا لافتًا من جهة الحجم، والتداخل السكاني، والموقع والتوزع الجغرافي، والفعالية السياسية، والمستوى الاقتصادي، وغير ذلك من العوامل التي تشكِّل بتفاعلها حالة مشخصة على صعيد كل وضعية، حالة تستوجب حلًّا يتناسب مع طبيعتها، وذلك ضمن إطار الدولة التي تضمها، شرط وجود مشروع عام على المستوى الوطني يطمئن سائر المكونات عبر دستور عادل يبدد الهواجس، ويسهم في تحسين شروط العيش المشترك، وبناء على ذلك يكون الشكل الإداري الذي يُعتمد لمختلف المناطق الكردية في الدول المعنية منسجمًا مع خصوصية كل بلد، ويمكن الاستفادة في هذا المجال من التجارب المماثلة، إلا أن الوضعية المُشخصة تبقى هي المرجعية الرئيسة في اعتماد أية صيغة إدارية.
وتبقى طبيعة العلاقات بين أجزاء كردستان، أو المناطق الكردية في كل من تركيا وإيران والعراق وسوريا؛ فالحدود بين هذه المناطق لا يمكن أن تكون كالحدود القائمة بين الدول، وإنما لابد من أخذ واقع الصلات المشتركة بعين الاعتبار، تلك الصلات التي تتجسد في المشتركات اللغوية والثقافية والمجتمعية والاقتصادية وغيرها. وبناء على ذلك، يمكننا التفكير في مشروع رابطة أو جامعة كردية، تكون إطارًا لعلاقات ثقافية أكاديمية، وفنية، واقتصادية، ومجتمعية…إلخ، تشارك فيها الدول المعنية بالمسألة الكردية، وتكون راعية لها، لتتحول المسألة الكردية في المنطقة من قضية خلافية، وخطر لابد من مواجهته والتصدي له باستمرار، إلى جسر للتواصل بين الجميع، ومحور لجهود متكاملة تستهدف ترسيخ الأمن والاستقرار، وذلك كمقدمة لجهود متكاملة، تنهض بالمنطقة لصالح جميع شعوبها ودولها.
ولتعزيز إجراءات الثقة، والمحافظة على استمراريتها، تبرز الحاجة إلى اعتماد آلية لحل الخلافات التي ستكون حول المناطق غير المتفق عليها، أو حول ماهية الصلاحيات وحدودها، وحول طبيعة التدخلات من جانب السلطة المركزية، على أن تُعتمد مثل هذه الآلية من قبل محاكم إدارية-دستورية، يتم تشكيلها بالتوافق، مع مراعاة معايير صارمة في ميدان الكفاءة والاستقلالية والنزاهة.
خاتمة
بقي أن نقول: المسألة الكردية هي واحدة من أكثر المسائل تعقيدًا في منطقتنا، ولن يكون من السهل الوصول إلى توافقات بشأنها عبر المجاملات الخاوية من مضمون واقعي. فما نحتاج إليه قبل كل شيء هو متابعة اللقاءات والحوارات، حتى نصل إلى توافقات حول إجراءات ملموسة، تبدد المخاوف، وتفتح الطريق أمام مقاربة جديدة للمسألة. مقاربة تقطع مع المنظومات الأيديولوجية التي كانت فاعلة حتى الآن، منظومات قومية أو مذهبية متشددة، واعتماد منظومة وطنية قادرة على طمأنة الجميع، وإشراكهم الفاعل في عملية إعادة بناء النسيج المجتمعي الوطني والصروح العمرانية في دولنا ومجتمعاتنا المنكوبة.
إن الطريق الأصح لتجاوز الوضعية غير السوية التي نعاني منها جميعًا يستوجب التحرر من أوهام الأحكام المسبقة، والتحاور بعقل وقلب مفتوحين؛ تحاور لا ينفي الاختلاف ولا يحتكر الامتيازات، بل يفتح الآفاق أمام تفاهم فعلي، وتعايش خلَّاق من شأنه تجاوز مثالب الماضي، والتمهيد لجهد مستقبلي، يكون في صالح شعوب المنطقة جميعها؛ لأن الحصيلة الإيجابية للاستقرار والتمازج الحضاري ستكون ملكًا إقليميًّا عامًّا، خاصة في عالم اليوم الذي من أبرز سماته التقاطع والتواصل بين الداخل والخارج. ومن أجل بلوغ مستوى يتناسب مع طبيعة المهام والتحديات، لابد من تضافر جهود المثقفين والسياسيين من أبناء شعوب المنطقة في إطار حوار مستمر بنَّاء، لا يتخذ من المناسباتية حيزًا له، ولا من الشعاراتية وسيلة لتبادل التهم وإثارة المخاوف.
المركز الكردي السويدي للدراسات
[1]