#عبد الحسين شعبان#
تجدّد النقاش والجدل والصراع بشأن المسألة الكردية في العراق، لا سيما بتدهور العملية السياسية، خصوصاً حول «موضوع الفيدرالية» تأييداً أو تنديداً، تصريحاً أو تلميحاً، وارتبط ذلك باستعصاء تسوية مشكلة كركوك وعائديتها ومصير المادة 140، ولعل قضية النفط تشكل محور الصراع الأساسي بين حكومتي بغداد وإربيل، فبغداد لا تريد الاعتراف بالعقود التي وقعتها حكومة إقليم كردستان، وهي عقود شراكة وتقول انها لم تطلع على حيثياتها، فضلاً عن تعارضها مع وجهة بغداد التي وقعت على عقود خدمة مع عدد من الشركات التي منحتها تراخيص وفقاً لعطاءات معلنة نقلتها وسائل الإعلام.
وتعتبر بغداد هذه العقود هي الأنسب بالنسبة للعراق وتضمن حقوقه والتصرف بموارده وتقلّص من نفوذ الشركات النفطية وغير ذلك. في حين تعتبر إربيل أن حقها مكفول بموجب الدستور لكن اتجاهاً مهيمناً لا يريد لها التصرّف بهذا الحق، وخصوصاً من جانب حكومة المالكي ونائبه لشؤون الطاقة الدكتور حسين الشهرستاني، ولعل سجالاً وتوتراً قد صاحب العلاقات خلال الفترة المنصرمة كان الأكثر حدّة منذ الاحتلال وحتى الآن.
خمسة اتجاهات أساسية يمكن استكشافها لتحديد ملامح الموقف من القضية الكردية ثم من مسألة الفيدرالية في العراق ومن خلالها يمكن رسم الخريطة السياسية العراقية بتعقيداتها وتشابكاتها.
الاتجاه الأول: القوى المؤيدة للفدرالية، كما جاءت بحذافيرها في الدستور العراقي الدائم، والتزاماً بأحكامه وسعياً لتأكيد سلطاته من خلاله وبواسطته، لا سيما القوى الكردية، وبالتحديد حكومة اقليم كردستان، وبرلمانها، الذي رسم ملامح دستور جديد لكردستان قبيل انتهاء دورته الأخيرة 2009. ومن القوى المؤيدة إلى حد ما لهذا التوجه أو أنها لا تعارضه أو تتحفظ عليه، «الحزب الشيوعي العراقي» وبعض المحسوبين عليه والقريبين من العملية السياسية.
لكن المشكلة لا تتعلق بالدستور فحسب، على الرغم من أنه سبب المشكلة الأساسي، لا سيما ببعض صياغته المبهمة والتي يمكن تفسيرها أو قراءتها على نحو مختلف، بل في الجوانب العملية التي تترتب على النصوص والوقائع، خصوصاً تحفّظ قوى من داخل العملية السياسية، بما فيها أركان حكومة المالكي، على الدور الكردي المتعاظم. وقد اعتبرت رئاسة إقليم كردستان أن عقد اجتماع مجلس الوزراء العراقي برئاسة المالكي في كركوك استفزازاً للكرد وأوعزت إلى الوزراء الكرد بعدم الحضور، بل نظّمت هي لاحقاً زيارة لعدد من وزراء الإقليم ومسؤوليه إلى محافظة كركوك ردًّا على زيارة المالكي!
الاتجاه الثاني قوى إسلامية مؤيدة للفدرالية من داخل العملية السياسية، لكنها تنظر إليها باعتبارها جزءًا من صفقة تاريخية، لاعتقادها أن الموافقة على الفدرالية الكردية يجعل الحركة الكردية توافق على فدرالية أو فيدراليات الجنوب (العربية) (واحدة أو متعددة)، في إطار تقاسم وظيفي « طائفي- إثني» وهو ما حصل لدى اقرار قانون الاقاليم الذي تم تجميد تطبيقه إلى 18 شهراً، انتهت من دون أن تحرّك هذه القوى ساكناً والتي حضّرت له ونافحت من أجله كثيراً، وذلك بسبب ردّ فعل شعبي وظروف وصراعات ما بين أطرافها، لا سيما بين كتلة السيد عمار الحكيم والمجلس الإسلامي الإعلامي المتحمس للفدرالية وكتلة حزب الدعوة ودولة القانون الذي أخذ حماسها يفتر كثيراً على حساب الدولة المركزية، وهذا الرأي أقرب إلى موقف كتلة السيد مقتدى الصدر أيضاً.
وإذا كان رئيس الوزراء نوري المالكي قد وافق على الفدرالية الكردية وأبدى مرونة في الأسابيع والأشهر الأُولى إزاء تطبيقاتها، الاّ انه عاد وتمسّك على نحو شديد «بمركزية» الدولة، وسعى لتوسيع صلاحياتها الاتحادية على حساب سلطات الاقاليم التي عبّر عنها بضرورة اعادة النظر بالدستور، لكن مواقفه تلك لم تترجم إلى واقع عملي باستثناء بعض ردود الأفعال، خصوصاً عندما اتخذت موقفاً أكثر حزماً بشأن عقود النفط في حكومة الاقليم التي عارضها وزير النفط حسين الشهرستاني بشدة.
أما موضوع كركوك فهو ينام ويستيقظ، لكنه لا يجد حلولاً ممكنة بسبب تشبث جميع الأطراف بمواقفها، وقد تحرّك الموضوع خلال العامين المنصرمين عقب سماع مقترحات المفوض الدولي، التي لم ترضِ أحداً أو لم تستطع الوصول إلى التوافق المُنتظر ، وهو الأمر الذي بحسب تقديري المتواضع لا يمكن حسمه، لا بتطبيق المادة 140 ولا بإلغائها، ولا بالإحصاء السكاني أو بدونه، لأنه أكثر تعقيداً مما نتصوّر لارتباطه بمشكلات تاريخية بعضها موروثة من الحكم السابق وقد ظل معلقاً عند إقرار بيان 11 آذار العام 1970 وكان أحد الأسباب الأساسية في اندلاع القتال بين الحكومة والحركة الكردية العام 1974، وبعضها تفاقمت خلال الاحتلال، بين الكرد والتركمان والعرب، ناهيكم عن اشتباكها مع ملفات أخرى بما فيها اقليمية!
وتتجدد مسألة كركوك اليوم على نحو أشد بعد مطالبة سكان محافظة صلاح الدين بالفيدرالية لأسباب قالوا أنها تتعلق بالتهميش والغبن ولحقهم مجلس محافظة الأنبار ومجلس محافظة ديالى وسبق لرئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي أن أبدى امتعاضاً إزاء تهميش السنّة وذلك في تصريح مثير له من واشنطن عشية الانسحاب الأميركي من العراق أواخر العام الماضي، وكلما جرى الحديث عن الأقاليم أو الفدراليات تقفز مسألة كركوك إلى الواجهة .
الاتجاه الثالث يميل إلى الموافقة على الفدرالية الكردية كتحصيل حاصل وحقيقة قائمة وأمر واقع وجزء من توازن القوى الحالي (المُختل)، لكنه يرفض بشدة الفدراليات الجنوبية. ولعل بعض القوى التي توافق على الفدرالية الكردية تنتظر دعم القوى الكردية لرفضها الفدراليات الجنوبية، على عكس الاتجاه الآخر الذي ينظر إلى موافقته على الفيدرالية الكردية، عربوناً لموافقة الحركة الكردية على الفيدراليات الجنوبية.
وبعض أصحاب هذا الاتجاه كانوا يناوئون الفدرالية الكردية أساساً، وصوتوا ضدها عند الاستفتاء على الدستور، لكن مواقعهم تحركت إلى تأييدها حتى وإنْ كان الأمر تكتيكاً للوقوف ضد الفدرالية الجنوبية وضد الاتجاهات المتنفّذة في الحكومة الحالية برئاسة المالكي. من أصحاب هذا الاتجاه جبهة التوافق سابقاً وخاصة الحزب الاسلامي، وقائمة التجديد برئاسة طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية الحالي الذي تحوّلت قضيته من سياسية إلى جنائية بتوجيه تهم خطيرة لضلوعه بالإرهاب كما ورد ذلك، وتجري محاكمته غيابياً بعد انتقاله إلى كردستان، وفي ما بعد ضيفاً على تركيا التي رفضت تسليمه بعد صدور مذكرة لاعتقاله من الانتربول (الشرطة الدولية) بطلب من الحكومة العراقية بعد صدور أمر بإلقاء القبض عليه من القضاء العراقي وقائمة الجبهة الوطنية للحوار برئاسة صالح المطلك، وحزب الوفاق الوطني برئاسة علاوي وقوائم برئاسة ظافر العاني ورافع العيساوي وآخرين، كلّها انضوت تحت لواء القائمة الوطنية العراقية التي حصلت على 91 مقعداً في البرلمان، (أكبر عدد من المقاعد)، لكن المحكمة الاتحادية قضت بأن الذي يشكل الحكومة هو الكتلة الأكبر في البرلمان.
الاتجاه الرابع يعارض الفيدرالية بشدّة كمبادئ وتطبيقات ويعتبرها دعوة مبطّنة للانفصال ومقدمة خطيرة للتقسيم وإقامة الدولة الكردية، ومن أصحاب هذا الاتجاه حزب «البعث» حالياً (على الرغم من أنه شرّع قانون الحكم الذاتي العام 1974 بعد بيان 11 آذار 1970 الذي اعترف بحقوق الكرد القومية، وأدرجها في الدستور العراقي المؤقت الذي صدر في 16 تموز/يوليو من العام ذاته، بتأكيده أن الشعب العراقي مكوّن من قوميتين رئيسيتين هما العربية والكردية). ومن القوى الرافضة لفكرة الفدرالية بعض القوى والشخصيات القومية العربية، في حين ذهب البعض منها لتأييد المشروع الفدرالي من دون ابداء تحفظات بشأنه، باستثناء الموقف من فدراليات الجنوب، ومن أكثر المواقف تشدداً إزاء الفدرالية هيئة علماء المسلمين التي يرأسها حارث الضاري.
ان الاتجاه الغالب لدى معارضي الفكرة الفدرالية يقوم على انها جاءت مع الاحتلال ويعتبرها جزءًا من مشروع «اسرائيلي» قديم. اما تنظيم «القاعدة» وزعيميه اسامة بن لادن وأيمن الظواهري، فيميل إلى اعتبارها فكرة صليبية تهدف إلى تقسيم العراق وتفتيت الامة الاسلامية على الرغم من اختلافهما في المنطلقات وفي التقييم.
الاتجاه الخامس يؤيد الفدرالية كمبادئ وقواعد دستورية وادارية، لكنه يفترق عنها في التطبيق، لا سيما ببعض التفسيرات الضيقة، وبعض أصحاب هذا الاتجاه من الماركسيين واليساريين والديمقراطيين والليبراليين، الذين لا يميل بعضهم إلى ما ورد في الدستور لأنه مخالف لقواعد النظام الفيدرالي كمفهوم اكتسب إقراراً عبر تجارب مشهودة، وناجحة لنحو 25 دولة وحوالي 40% من سكان البشرية، ناهيكم بأن هذه الصيغة لم تأخذ حيّزاً كافياً من الحوار، لا سيما وأن اقرارها جاء في ظروف الاحتلال، وفي أوضاع استثنائية وغير طبيعية، وفي ظل موجة العنف والارهاب التي ضربت العراق، خلال الفترة تلك، ولا سيما في إطار المحاصصة المذهبية - الإثنية!
الاختلاف في فهم وتفسير فكرة الفيدرالية لا يقوم على تباينات نظرية أو اجتهادية فحسب، في ما يتعلق بالدولة البسيطة والدولة المركّبة، بل يستند إلى اعتبارات عملية وسياسية، لا سيما في ما يتعلق بموضوع وحدانية الجيش ووحدانية الخطط الوطنية الاقتصادية والمالية الكبرى بما فيها الثروات والموارد الطبيعية (خصوصاً النفط والغاز) ووحدانية التمثيل الخارجي والدبلوماسي واخضاع دساتير الاقاليم في حالة تعارضها مع الدستور الاتحادي، للأخير لسموّه على دساتير وقوانين الاقاليم، وليس العكس كما يرد تفسيره في الدستور، حين تم تحديد صلاحيات السلطة الاتحادية وترك ما سواها إلى دساتير الأقاليم.
وفي ما عدا ذلك، فإن أصحاب هذا الاتجاه يؤيدون الفيدرالية كنظام اداري متطوّر يتم فيه تقاسم السلطات بين المركز والأطراف (الاتحاد والأقاليم) بحيث يمكن إحالة كل ما يتعلق بالتعليم والصحة والبلديات والبيئة والسياحة والادارات المحلية والخدمات ولواحقها للاقاليم واستقلالها في إطار الحكومة والبرلمانات الاقليمية، بعيداً عن المركزية الصارمة التي كانت تحكم الدولة العراقية منذ تأسيسها في العام 1921 وحتى سقوطها العام 2003، ومع كل ذلك لا بدّ من إقرار الحقوق السياسية والقومية للكرد بما فيها حقهم في حكم أنفسهم بأنفسهم في إطار مبدأ تقرير المصير.
ان تأييد أصحاب هذا الاتجاه للفدرالية كمبادئ وقواعد متطورة، يجعلهم محتارين وقلقين في أحيان كثيرة من العودة إلى المربع الاول باحتدام الاوضاع واحتمال تجدد الصراعات الضيقة، خصوصاً بتنامي اتجاهات مركزية صارمة داخل الحكومة الاتحادية، يقابلها اتجاهات انعزالية لدى الاقليم، وفي كلا الاحوال يوجد من يدفع الامور باتجاه التباعد والتطرف أحياناً، والابتعاد عن دائرة الحوار، تلك الدائرة التي ينبغي أن تكون هي الأساس في أي تغييرات أو تطورات.[1]