الإسمنت عدو حقيقي لحياة البشر الذين يقبلون عليه بشراهة لبناء منازلهم ومدنهم دون الأخذ في الاعتبار مخاطره التي تزداد يوما بعد يوم. مدينة #عقرة# في شمال العراق انتبهت إلى هذا السم الأسود وقررت أن ترمم أحياءها القديمة بالحجارة دون سواها، رغم أنها لا تمنع اعتماده في العمارة داخل الضواحي.
قصبة عقرة (العراق) – يغلب الإسمنت على معظم مدن العراق، لكن مدينة عقرة الواقعة في إقليم كردستان شمالا تتميّز بطابع معماري مختلف، فوسطها مبني حصراً بالحجر، ويحاول أهاليها الحفاظ عليه بهدف حماية وجهها التاريخي، لكن أيضاً من أجل درء مخاطر التغير المناخي.
أزقّة البلدة القديمة في عقرة ضيّقة جدا، إلى درجة أنه أحيانا لا يمكن إلّا للحمير نقل البشر والبضائع. وكانت تضاريسها هذه التي يصعب اختراقها سبب إنشاء مدينة عقرة قبل 2700 عام في الهلال الخصيب.
وفي عقرة مواقع أثرية تؤكد الأهمية التاريخية التي تحظى بها هذه المدينة، وقد عدها بعض المؤرخين من بلاد “المرج”، وبالقرب منها آثار قديمة تدل على تاريخ حافل مثل شوش وشرمن وكندك.
استخدام الإسمنت في البناء وعمليات الترميم مسموح به في الضواحي، لكنه ممنوع وسط المدينة التاريخي منذ عام 1991
وتطل المدينة الكردية على واديين فسيحين فيهما بساتين الفاكهة، وداخل الوادي الشرقي شلال “سيبه” الذي يؤمه الزوار والمصطافون للتمتع بمنظره الخلاب وطقسه البارد صيفا، فضلا عن عيون “كاني زرك” التي تنبع منها مياه شلال سيبه.
وباتت تسمى “عاصمة نوروز”؛ إذ يؤمها المحتفلون بالعام الجديد من مختلف الدول المجاورة والمهاجرون الذين يزورونها في هذه المناسبة حيث تخطف الأضواء بطريقتها المميزة في الاحتفاء وطقوسها النوروزية الفريدة.
اليوم، تواجه عقرة الواقعة على بعد 500 كيلومتر شمال بغداد، كما بقية مناطق العراق، تداعيات التغير المناخي. وبين ارتفاع درجات الحرارة ونقص المياه المتزايد يعدّ العراق من بين الدول الخمس الأكثر عرضة لتأثيرات التغير المناخي، وفق الأمم المتحدة.
ومقابل تلكؤ السلطات العراقية في مواجهة مخاطر التغير المناخي تسعى عقرة، البالغ عدد سكانها 100 ألف نسمة، إلى مكافحة تأثيرات التغير المناخي معتمدةً على أساليب الأجداد ومجهودات أهاليها.
وفي حين لا يزال يسمح باستخدام الإسمنت في البناء داخل الضواحي، مُنع استخدامه في البناء والترميم وسط المدينة التاريخي منذ عام 1991، حينما حصل إقليم كردستان على الحكم الذاتي.
ويذكر بلند رضا زبير رئيس بلدية عقرة أن “المباني الحجرية لديها بالتأكيد قدرة أكبر على المقاومة”، مضيفاً أن الحجر يسمح بالتخفيف من “تأثير التغير المناخي” لأن “الإسمنت يرفع درجات الحرارة ويؤثر على البيئة”.
ونتيجة لبنائها بالحجر صارت ألوان مباني وسط المدينة تتراوح بين الأصفر الشاحب والبني النحاسي؛ مثال ذلك المبنى الذي يرتفع عند مدخل البلدة القديمة، والموروث عن زمن الإمبراطورية العثمانية التي كان العراق جزءاً منها، وبني في عام 1853.
ويقول المهندس المشرف على ترميم المنازل في عقرة جميل صديق إن هذا المبنى كان عبارة عن “ثكنة عسكرية” آنذاك.
وتستقدم الأحجار المستخدمة في عمليات إعادة الترميم “من الجبال، ويستخدمون الأحجار الجيرية للبناء. ومن السهل على الناس البناء بالحجر، فهو رخيص ومتوفّر.
ويضيف أن الحجر يشكل “عازلا حراريا جيدا. الجدران الحجرية عريضة، جدار الإسمنت مثلاً سمكه 20 سنتمتراً، لكن جدار الحجر يتراوح سمكه بين 40 و60 سنتمترا”.
ويقطن بيوار مجيد (عامل بأجر يومي يبلغ من العمر 37 عاما) في أعالي عقرة. على عتبة بابه تلجأ قطط صغيرة إلى الظلّ فيما الحرارة تفوق الأربعين درجة مئوية. لكن داخل بيته الجوّ معتدل بفضل الحجارة التي بني بها.
ويقول الرجل “لست بحاجة إلى مكيّف، عندي مبرّد، يكفيني وهو أقلّ ثمناً”، مشيراً بيده إلى هذا الجهاز الذي يعمل على المياه التي تنعش الغرفة.
مع ذلك، فإن سياسة البلدية القائمة على البناء بالحجر ترتبط كذلك بالتمويل. وعلى مدى ثلاث سنوات، أي بين 2011 و2013، سمحت الأموال العامة التي خصصت للمدينة بترميم 25 منزلاً قديماً ومسجداً. لكن هذه التمويلات علّقت في عام 2014 بسبب “الأزمة المالية”، وفق رئيس البلدية.
ولا يوجد اليوم ما يمنع السكان من ترميم منازل أو بناء منازل جديدة بمالهم الخاص، شرط ألّا يستخدموا الإسمنت إلّا في حال “تغطيته بالحجر”، بحسب زبير.
وترى السلطات أنّ الحفاظ على الإرث المعماري هذا يتيح أيضاً إنعاش السياحة في عقرة. وبحسب هيئة السياحة المحلية استقبل إقليم كردستان 1.7 مليون سائح خلال الربع الأول من عام 2022، غالبيتهم عراقيون من مناطق أخرى.
ويعتمد السكان في عقرة على الزراعة بموسميها، فضلا عن بساتين الفاكهة والزيتون والرمان والتين الذي تشتهر به المنطقة، مستفيدين من مياه العيون المنتشرة في وديان هذه المنطقة.
وتوجد في قضاء عقرة العديد من المصايف التي يقصدها كل عام آلاف السياح من جميع مناطق العراق، منها مصيف شلال سيبه الذي يقع في الجهة الشرقية الجنوبية من مدينة عقرة، أي في مركز المدينة، ويؤمه المصطافون من مختلف أنحاء العراق، وخاصة خلال الصيف والخريف والربيع.
ويبلغ طول الشلال ثلاثين مترا وفيه مطعم وكازينو وكبرات وساحة كبيرة لوقوف السيارات.
وفي عقرة يفضّل السكان الابتعاد عن أحاديث السياسة. يقول علي بائع المثلّجات إنه “يفرح” عندما يأتي سياح. ويضيف “يأتينا عراقيون وألمان وفرنسيون؛ يحبون قلب مدينتنا التاريخي”.[1]