=KTML_Bold=دمياط في العصر الايوبي=KTML_End=
الكاتب: يوسف الأومري
سَلوا صهوات الخيل يوم الوغى عنَّا
إذا جهِلتْ آياتنا والقَنا اللُّدنا
ووصلت أخبار نزول الصليبيين إلى بَرِّ دمياط الغربي إلى الملك الكامل؛ فخرج بجيشه متجهًا إلى الشمال، وأرسل الأساطيل إلى دمياط، وأمر الولاة بجمع الكورد في الدولة الايوبية، ونزل الكامل بمنزلة العادلية قرب دمياط، وعسكر بها، هذا والملك العادل يرسل إليه المدد تلو المدد من الشام ليستعين بها جميعًا في محنته.
وظل البرج يقاوم ويمانع أربعة أشهر طوالًا، وأخيرًا بنى الفرنج برجًا عاليًا ضخمًا وأقاموه على بسطةٍ كبيرة، وتقدموا به تحت وابل من سهام الأيوبيين إلى أن أسندوا برجهم إلى البرج المدافع، وقاتلوا به قتالًا عنيفًا إلى أن استولوا على برج دمياط.
وكان استيلاؤهم على هذا البرج حادثًا خطيرًا أليمًا؛ فقد سهل لهم الاستيلاء على المدينة بعد ذلك. ويكفي للدلالة على خطورة هذا الحادث أن نذكر أن الملك العادل عندما سمع بخبره وهو مقيم بمرج الصفر بالشام تأوَّه تأوهًا شديدًا، ودقَّ بيده على صدره أسفًا وحزنًا، ومرض من ساعته، ثم لم يلبث أن مات من حسرته بعد أيام.
وخلص مُلكُ مصر للملك الكامل محمد، فاشتد ثقل العبء الملقى على كتفيه؛ لأن الصليبيين أقدموا بعد استيلائهم على البرج فحطَّموا سلاسله لتجوز مراكبهم في نهر النيل، فاضطر الكامل لإقامة جسر عظيم جنوبي البرج لمنعهم، ولكنهم قاتلوا عليه قتالًا شديدًا إلى أن قطعوه. ويقال إن الكامل صرف على البرج والجسر في ذلك الوقت ما ينيف على سبعين ألف دينار، ثم لم ييئس، وإنما أمر أن تُغرَق عدة من السفن في عرض النيل تمنع سفن الصليبيين من العبور جنوبًا، واحتال الفرنج على هذا الإجراء الأخير حيلةً ماكرة؛ فقد كان هناك على البرج الغربي خليجٌ قديم يعرف بالخليج الأزرق، كان يجري فيه النيل فيصبُّ في البحر ولكن الرمال طمرته، فأعادوا حفره، وأصعدوا فيه سفنهم حتى وصلت إلى مدينة بورة التي تقابل منزلة العادلية حيث يُعسكر الكامل بجيوشه، وبدأت المناوشات بين الجيشين.
كل هذا ودمياط لا زالت آمنة سالمة وسورها يحميها وأبوابها مُفتَّحة، والميرة والأمداد تصل إليها دون انقطاع، والنيل لا يزال يفصل بينها وبين العدو، والكورد تقضُّ مضاجع الصليبيين فتتخطفهم من معسكراتهم في الليل، حتى «امتنعوا من الرقاد خوفًا من غاراتهم»، وقامت رياحٌ عاصفة فقطعت مراسي مرمة الفرنج (وهي سفينة ضخمة جدًّا مشحونة بالميرة والسلاح) ويقول عنها المقريزي: «وكانت من عجائب الدنيا، فمرَّت إلى بر المسلمين فأخذوها، فإذا هي مُصفَّحة بالحديد لا تعمل فيها النار، ومساحتها خمسمائة ذراع، فكسروها فإذا فيها مسامير زِنَةُ الواحد منها خمسة وعشرون رطلًا.»
ولو سارت الأمور سيرها الطبيعي لما وصل الصليبيون إلى دمياط، ولكن البلاء نبت في معسكر المسلمين نفسه، فقد انتهز أحد أمرائهم الكبار ويدعى عماد الدين أحمد بن المشطوب الكردي فرصة موت الملك العادل، واستمال إليه عددًا من قواد الجيش، وحاول أن يخلع الكامل ويولِّي مكانه أخاه الملك الفائز. وعلم الكامل بالمؤامرة فخشي على نفسه، فترك معسكره بالعادلية في الليل وانسحب جنوبًا إلى أشموم طناح، وأصبح الجند بغير سلطان؛ فتفرقت كلمتهم «وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم ولحقوا بالسلطان.» ورحَّب الفرنج بالفرصة المواتية، ونزلوا إلى البر الشرقي يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة دون أن يلقوا أية مقاومة، واستولوا على جميع ما كان في معسكر المسلمين «وكان شيئًا لا يحيط به الوصف.» وعسكروا في البر الشرقي، وحصنوا معسكرهم كالمعتاد فحفروا حوله خندقًا وبنوا سورًا، وبدءوا يحاصرون دمياط، ولكن أهلها صمدوا للقتال وقاوموا مقاومةً مجيدةً عنيفة، وخضعوا إبان هذا الحصار لشدائدَ مريرةٍ، فقلَّت الأقوات عندهم، وكان بالمدينة — غير أهلها — عشرون ألف مقاتل، فلما طال بهم الحصار أنهكتهم الأمراض وغلت الأسعار حتى بيع رطل السكر بمائة وأربعين دينارًا، والدجاجة بثلاثين، وراوية الماء بأربعين درهمًا، واحتال السلطان للاتصال بأهل دمياط لتشجيعهم وتقوية روحهم المعنوية؛ فانتدب لذلك رجلًا من جنوده يدعى شمائل، فكان يسبح في الماء بعيدًا عن أعين الفرنج حتى يصل إلى أهل دمياط فيعدهم بوصول النجدات.
وطال الحصار بالمدينة ستة عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا، حتى اشتد بهم الضيق وعدمت لديهم الأقوات، وامتلأت الطرقات والمساكن بالموتى، وتسوَّر الفرنج المدينة أخيرًا ودخلوها في يوم الثلاثاء لخمسٍ بقين من شعبان سنة 616 (نوفمبر 1219م)، فوضعوا السيف في الناس وأسرفوا في قتلهم، وجعلوا جامع المدينة كنيسة، وانبثُّوا في القرى المحيطة، وأخذوا يحصنون المدينة وأسوارها، ليتخذوها قاعدة يتقدمون منها نحو الجنوب.
وعسكر الملك الكامل قبالة طلخا عند مخرج بحر أشموم طناح (البحر الصغير الآن)، وشرع الجند يبنون الدور والفنادق والحمامات والأسواق في هذه المنزلة (وقد سميت بعد ذلك المنصورة تيمنًا بانتصار الكامل)، وكان قد أرسل الرسل إلى ملوك الأيوبيين في الشام من إخوته وأقاربه يسألهم النجدة والمعونة، فوصله في ذلك الوقت أخوه الملك المعظم عيسى بجيشٍ كبير، فقوَّى به قلبه، وخاصة أنه سعى بعد وصوله فأنجاه من ورطته بإبعاد أخيه الفائز وابن المشطوب إلى الشام، فهدأت الفتنة، ووصلت نجدةٌ أخرى من حماة بقيادة المظفر الثاني ابن أخت الملك الكامل في جيشٍ كثيف؛ ففرح بوصولها، ثم وصلت نجدةٌ كبرى بقيادة الملك الأشرف موسى أخي الكامل، وبلغت بذلك عدة فرسان المسلمين نحو أربعين ألف فارس، فقويت قلوب المسلمين، وبدءوا يستعدُّون للمعركة الحاسمة.
وتقدم الصليبيون — بعد تحصين دمياط — وبعد أن وصلتهم أمدادٌ وفيرة العدد نحو الجنوب في حدِّهم وحديدهم، ونزلوا قبالة جيش المسلمين شمال بحر أشموم طناح، ولا يفصل بين المعسكرين غير هذا البحر.
واشتد القتال بين الفريقين، وأبلى المسلمون بلاءً حسنًا، فاستولوا على نحو تسع سفن كبيرة من سفن الفرنج التي تحمل إليهم الميرة من دمياط، وأسروا منهم ألفين ومائتين، ثم احتال الكامل فأرسل سفنًا من أسطوله بقيادة الأمير بدر الدين بن حسون في بحر المحلة، وهو فرع كان يخرج من النيل قرب بنها الحالية، ويتصل به ثانية شمالي المنصورة؛ فحالت هذه السفن بين مراكب الفرنج الآتية من الشمال بالميرة وبين الوصول إلى معسكرهم عند المنصورة، ثم عبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة هذا إلى الأرض التي يعسكر عليها الفرنج «وحفروا مكانًا عظيما في النيل، وكان في قوة الزيادة؛ فركب الماء أكثر تلك الأرض، وصار حائلًا بين الفرنج ومدينة دمياط، وانحصروا فلم يبقَ لهم سوى طريق ضيقة، فأمر السلطان في الحال بنصب الجسور عند أشموم طناح؛ فعبرت العساكر عليها، وملكت الطريق التي يسلكها الفرنج إلى دمياط إذا أرادوا الوصول إليها، فاضطربوا وضاقت عليهم الأرض.»
وفتَّ ذلك كله في عضد الفرنج، واضطربت أحوالهم وبدءوا يفاوضون الكامل، ويعرضون أن يتركوا دمياط مقابل أن تعاد إليهم القدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية والكرك والشوبك وغيرها من المدن الكثيرة التي كان قد استعادها منهم البطل صلاح الدين، وقَبِل الكامل أول الأمر أن يسلِّم لهم هذه المدن جميعًا عدا الكرك والشوبك لمكانتهما الحربية، ولكنهم أصرُّوا على طلباتهم، فلما أحيط بهم من الشمال، وأصبحوا محاصرين بالمسلمين من كل الجهات، أدركوا أنهم هزموا فهدموا خيامهم ومجانيقهم وألقوا فيها النار، وهمُّوا بالزحف على المسلمين ومقاتلتهم للعودة إلى دمياط «فحال بينهم وبين ذلك كثرة الوحل والمياه الراكبة على الأرض، وخشوا من الإقامة لقِلَّة أقواتهم، فذلُّوا وسألوا الأمان على أن يتركوا دمياط للمسلمين» دون قيد أو شرط.
وبدأ الكامل يستشير أهله وأصحابه، فأشار عليه البعض أن يواصل القتال حتى يتمَّ له النصر النهائي، وأشار البعض الآخر أن يعطي الفرنج الأمان إجابة لطلبهم، وتغلَّب الرأي الأخير خوفًا من أن يصل إلى الفرنج مددٌ جديد فيستأنفون القتال، واتفق الفريقان على أن يقدِّم كل منهما رهائن للآخر حتى يتم تسليم دمياط، فأرسل الفرنج عشرين ملكًا من ملوكهم رهائن عند الملك الكامل، وأرسل الكامل ابنه الصالح نجم الدين أيوب وعددًا من قُوَّاده، وجلس الكامل مجلسًا عظيمًا لاستقبال هؤلاء الملوك الرهائن، وحوله إخوته وأهل بيته «وصار في أبهة وناموس مهاب.» وخرج قُسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط، فسلَّموها للمسلمين تاسع عشر رجب سنة 618، فلما تم تسليمها بعث الفرنج الصالح نجم الدين ومن معه من الأمراء، كما أطلق الكامل رهائنه من الملوك، واتفق الفريقان بعد هذا على هدنة مداها ثمانية أعوام، وعلى أن يُطلِق كل منهما مَن عنده من الأسرى. ودخل الملك الكامل دمياط وفي ركابه إخوته وقواده وعساكره، «وكان يوم دخوله إليها من الأيام المذكورة.» وأرسلت البشائر بأخذ دمياط إلى كل البلاد الإسلامية.
وهكذا نزح الصليبيون عن دمياط بعد أن قضوا فيها وعلى شاطئيها الغربي والشرقي ثلاث سنين، وأربعة أشهر، وتسعة عشر يومًا.
وتبارى شعراء العصر — كالعادة — في تمجيد هذا النصر والإشادة به، وكان أجمل ما قيل في هذه المناسبة قصيدة الشاعر الكبير شرف الدين بن عنين التي قال فيها:
سَلوا صَهواتِ الخَيلِ يَومَ الوَغى عَنّا
إِذا جُهِلَت آياتُنا وَالقَنا اللُدنا
غداةَ لَقينا دونَ دِمياطَ جَحفَلاً
مِنَ الرومِ لا يُحصى يَقيناً وَلا ظَنا
قَد اِتَّفَقوا رَأياً وَعَزماً وَهِمَّةً
وَديناً وَإِن كانوا قَد اِختَلَفوا لُسنا
تَداعَوا بِأَنصارِ الصَليبِ فَأَقبَلَت
جُموعٌ كَأَنَّ المَوجَ كانَ لَهُم سُفُنا
عَلَيهِم مِنَ الماذِيِّ كُلُّ مُفاضَةٍ
دِلاصٍ كَقِرنِ الشَمسِ قَد أَحكَمَت وَضَنا
وَأَطمَعهُم فينا غُرورٌ فَأَرقَلوا
إِلَينا سِراعاً بِالجِيادِ وَأَرقَلنا
فَما بَرِحَت سُمرُ الرِماحِ تَنوشُهُم
بِأَطرافِها حَتّى اِستَجاروا بِنا مِنّا
سَقيناهُم كَأساً نَفَت عَنهُمُ الكَرى
وَكَيفَ يَنامُ اللَيلَ مَن عَدِمَ الأَمنا
لَقَد صَبَروا صَبراً جَميلاً وَدافَعوا
طَويلاً فَما أَجدى دِفاعٌ وَلا أَغنى
لَقوا المَوتَ مِن زُرقِ الأَسِنَّةِ أَحمَراً
فَأَلقَوا بِأَيديهِم إِلَينا فَأَحسَنّا
وَما بَرِحَ الإِحسانُ مِنّا سَجِيَّةً
تَوارَثَها عَن صيدِ آبائِنا الأَبنا
مَنَحنا بَقاياهُم حَياةً جَديدَةً
فَعاشوا بِأَعناقٍ مُقَلَّدَةٍ مَنّا
وَلَو مَلَكوا لَم يَأتلوا في دِمائِنا
وُلوغاً وَلكِنّا مَلَكنا فَأَسجَحنا
وَقَد جَرَّبونا قَبلَها في وَقائِعٍ
تعلّم غُمر القَومِ منّا بِها الطَعنا
فَكَم مِن مَليكٍ قَد شَدَدنا إِسارَهُ
وَكَم مِن أَسيرٍ مِن شَقا الأَسرِ أَطلَقنا
أُسودُ وَغىً لَولا قِراعُ سيوفنا
لَما رَكِبوا قَيداً وَلا سَكَنوا سِجنا
وَكَم يَوم حُرٍّ ما لَقينا هَجيرَهُ
بِسترٍ وَقُرٍّ ما طَلَبنا لَهُ كِنّا
فَإِنَّ نَعيمَ المُلكِ في شَظَفِ الشَقا
يُنالُ وَحُلوَ العِزِّ مِن مُرِّه يُجنى
يَسيرُ بِنا مِن آلِ أَيّوبَ ماجِدٌ
أَبى عَزمُهُ أَن يَستَقرَّ بِهِ مَغنى
كَريمُ الثَنا عارٍ مِنَ العارِ باسِلٌ
جَميلُ المُحَيّا كامِلُ الحُسنِ وَالحُسنى
لَعَمرُكَ ما آياتُ عيسى خَفِيَّةٌ
هِيَ الشَمسُ لِلأَقصى سَناءً وَلِلأَدنى
سَرى نَحوَ دِمياط بِكُلِّ سمَيذَعٍ
نَجيبٍ يَرى وِردَ الوَغى المَورِدَ الأَهنا
فَأَجلى عُلوجَ الرومِ عَنها وَأُفرِحَت
قُلوبُ رِجالٍ حالَفَت بَعدَها الحُزنا
وَطَهَّرَها مِن رِجسِهِم بِحُسامِهِ
همامٌ يَرى كَسبَ الثَنا المغنم الأَسنى
مَآثِرُ مَجدٍ خَلَّدَتها سُيوفُهُ
لَها نَبَأ يَفنى الزَمانُ وَلا يَفنى
وَقَد عَرَفَت أَسيافُنا وَرِقابُهُم
مَواقِعَها فيها فَإِن عاوَدوا عُدنا
منمنمة قديمة تصور الفرنج ينزلون بدمياط في عهد الملك الكامل.
[1]