#عزيز الحاج#
كان انقلاب الثامن من شباط 1963 مؤامرة دموية كبرى على ثورة 14 تموز، وعلى قادتها، والحركة الديمقراطية بمختلف تياراتها. وقد أكدت الوقائع والوثائق ومذكرات بعض من ساهموا في تنفيذ المؤامرة أن الأطراف التي خططت لها خليط من الحلفاء الوقتيين الذين التقوا على هدف القضاء على الثورة وزعيمها الشهيد عبد الكريم قاسم، وعلى الحركة الشيوعية وسائر القوى اليسارية. كان ذلك الخليط الشؤم مكونا من شركات النفط والمصالح الأنكلو أمريكية، والقيادة الناصرية، وقوى قومية حاقدة وناقمة من أنصار القاهرة أو من طلبة الثأر والانتقام الدمويين، ومنها الحريص على الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة بأية طريقة وبأي ثمن. وما أن تحقق الكثير مما أمله ذلك الخليط غير المتجانس، حتى انفرط عقد اللقاء المصلحي بين أطرافه، وانفجرت في صفوف الانقلابيين تناقضات ونزاعات أدت لإسقاط البعث وحرسه الدموي من السلطة في انقلاب عبد السلام عارف يوم 18 نوفمبر من العام نفسه. وقد أعادت قوى وشخصيات قومية ، من التي شاركت في تنفيذ ودعم 8 شباط، تقييم الأحداث بعد سنوات وراجعت مواقفها. ولا بد هنا من إشارة خاصة لكتاب هاني الفكيكي أوكار الهزيمة ، الصادر في أواسط التسعينات.
لقد اغتيل قاسم بجبن ودناءة ووحشية منقطعة المثيل، وأعدم معه عسكريون قاسميون مخلصون، وقتل في الشوارع مئات من الشيوعيين وأفراد الشعب، واعتقل وعذب حتى الموت قادة الحزب الشيوعي وكوادره المتقدمة المضحية، وفي المقدمة الفقيد سلام عادل. وقد دفن مناضلون كثيرون في حفر جماعية نصف أحياء بعد تعذيب رهيب. لقد دشن 8 شباط عهدا من ممارسة التعذيب الممنهج والمتعدد الأساليب والبالغ الوحشية والقسوة، وحيث أصبح التعذيب والإعدام الاعتباطي سياسة حكم وبرنامج عمل.
إن التوقف لدى هذه الذكرى القاسية والرهيبة ليس لغرض إثارة وبعث وإلهاب ضغائن الماضي وعقده والنبش لغرض تحريضي، أو لوضع القوى السياسية بعضها في مجابهة بعض. كلا، أبدا، وإنما من الواجب الوطني مراجعة صفحات الماضي القريب لكي نتعظ بدروسها، ولكي يرى كل منا دوره في سقوط الثورة، ولكي نربط بين ما حدث وما يحدث اليوم تحت كابوس النظام الشمولي الفردي العائلي، الذي أدخل عراقنا العزيز في دوامة العنف والتمزق وحمامات الدم والحروب المتتالية. فالنظام القائم هو الوريث بحق لبشاعة ذلك الانقلاب ودمويته واستهتاره بالكرامة الإنسانية وحياة الناس، غير أن نظام اليوم ليس نسخة مكررة، بل نسخة أكثر بشاعة وشناعة ودموية. ومع تشابه الأساليب القمعية فإن طبيعة نظام اليوم شمولية صرفة، وفردية مطلقة وعائلية. وقد فتك النظام بعدد كبير من شركاء 1963 ومن زملاء الطريق من البعثييين، عابثا بالبلاد وبشرها ومواردها، وبجميع القيم المدنية والدينية والأخلاقية.
لقد أخطأت القوى الوطنية جميعها بعد ثورة 14 تموز ودخلت في صراعات حادة سممت الجو وقلصت فرص الانتقال إلى حياة ديمقراطية طبيعية. ورغم قصور الزعيم قاسم ونقاط ضعفه الكبيرة، فإن الصراعات الحزبية، وخصوصا بين حزبي البعث والشيوعي، قد أربكته، وشوشت عليه و عطلت خطط سن الدستور الدائم والانتقال إلى حياة نيابية حرة. فانقلاب 8 شباط ما كان ليحدث لولا مزايدات القوى القومية باسم الوحدة، مدعومة ومحرضة من المرحوم جمال عبد الناصر، ولولا ردود الفعل الشيوعية العنفية وخصوصا في انتهاكات أحداث الموصل وكركوك. ويجب أن نضيف أيضا سلبية الزعيم الديمقراطي كامل الجادرجي في تعامله مع قاسم، وانزلاق الطرف الوطني الكردي في حمل السلاح ضد الحكم قبل استنفاد الفرص السلمية لحل المشكلة الكردية. ويحدثنا الدكتور فاضل الجلبي أيضا كيف أن ضغط الشارع اليساري والأحزاب الديمقراطية زج الحكومة في صراع كبير لا مبرر له مع شركات النفط بطرح شعارات تعجيزية ورفض عروض الشركات بإرجاع الأراضي غير المستثمرة نفطيا وبالعمل لزيادة الإنتاج. وكان قاسم قد رحب بتلك العروض ولكنه خضع في نهاية الأمر لضغط الأحزاب والشارع، فكان أن أدى ذلك إلى اتخاذ الشركات لسلسلة من الإجراءات الانتقامية أضرت كثيرا جدا بإنتاج نفطنا ومواردنا وبتطور الصناعة النفطية.
لقد ساهمنا جميعا، وكل بحسب أخطائه وجسامتها، في ضياع الثورة ونجاح الانقلاب. والمؤلم حقا أن بعض القوى والشخصيات الوطنية لا تزال عاجزة عن تشخيص أدوارها السلبية في الذي وقع، ربما لأنها تعتقد أن الاعتراف بالخطأ دليل ضعف ويسبب الإحراج!
وأرى أن من أهم دروس تجاربنا السياسية منذ 14 تموز هو لزوم التحرر نهائيا من ثقافة العنف تجاه الآخر، سواء كان العنف جسديا أو معنويا وسياسيا. فقد سادت ثقافة رفض الآخر والمكابرة والاعتقاد بالعصمة، وبان الحزب أو السياسي، وحتى المثقف، يمتلك الحقيقة المطلقة، فهم يرفضون الاستماع للآخرين والاستفادة منهم، ويكابرون ويتهجمون على بعض لحد التشاتم أحيانا. إن هذه الثقافة، إذا كانت حدتها وشيوعها قد تراجعا نسبيا، لا تزال تؤذي الحياتين السياسية والثقافية العراقية حتى في مغترباتنا. وإذا كنا جميعا نحمل اليوم شعار الديمقراطية فإن ثقافة الحوار المنفتح لم تتعمم بعد رغم تقدمها، وإن فكرنا السياسي لم يتخلص من نزعات الاحتكار والتسلط، والمنافسة الحزبية الضيقة. بل لقد دخلت حياتنا السياسية والاجتماعية ظواهر جديدة من الروح الطائفية أو العرقية. وإذ ألفت النظر إلى هذه الممارسات والنزعات التي أعتبرها سلبية ضارة، فلا أعني الانتقاص مما حدث في الجو الوطني من تقارب وروح حوار، وهو ما أبانه مؤتمر لندن رغم جميع نقاط ضعفه وسقطاته [ كالتنافس حول الحصص ].
إن القوى السياسية التي تؤيد التصدي لقيادة عراق الغد يجب أن تضرب المثل في الديمقراطية والتسامح واحترام دور الآخر، وأن تكون قدوة للروح والممارسة الديمقراطيتين. ولا بد من الإلغاء التام من قاموسنا السياسي للتهم المجانية المستهلكة في التعامل مع خلاف الرأي. إن عراق الغد ينتظر من الأحزاب والمنظمات السياسية المعارضة، ومن شريحة المثقفين المتنورين كثيرا جدا في مرحلة الانتقال إلى الحياة الدستورية والبرلمانية المستقرة، لا سيما في التصدي لكل ظواهر الُثأر وردود الفعل الغوغائية العمياء، وفي معالجة جروح عقود من سنوات القمع والعنف وغسل الدماغ، ومن سياسات تشجيع الغيبيات والعشائرية الجديدة. إن ما حصل للمجتمع من النظام الشمولي الفردي لم يصب فقط استقلالنا ومواردنا وحياة المئات من آلاف الضحايا، وإنما أعطب أيضا الكثير من العلاقات التضامنية في المجتمع، وأدت سياساته وممارساته لعزل الداخل عن التفاعل مع التطورات الفكرية والعلمية في العالم ودخوله إلى عالم المعلومات أولا بأول. ومع القمع وضيق العيش والحروب الدائمة والكوارث المتواصلة فقد برزت ظروف منا سبة لانتشار الخرافة والانكفاء على الذات. ولا أعتقد شخصيا انه لو جرت انتخابات نيابية غداة إزاحة النظام فإن في مكنة الناخبين أن يتصرفوا بتمعن ودراية، وذلك ليس فقط بسبب عهود طويلة من سحق حريات المواطن وحقوقه المشروعة، ولكن أيضا جراء قلة اطلاعه على مجريات الأمور، وعلى مختلف الخيارات التي تفتح. ومن هنا كان مؤتمر المعارضة محقا في حديثه عن فترة انتقالية مناسبة أ رى شخصيا أنها لا ينبغي أن تقل عن العامين.
إن القوى الوطنية الساعية للتغيير الديمقراطي مدعوة للتخلي نهائيا عن النزعات والممارسات التي تضعف وتفرق. إنها كلما فعات ذلك سريعا وبحزم وتصميم، كان دورها في عراق الغد حقيقيا وفعالا. وبدونه فلا ينبغي غير لوم النفس![1]