سالم بخشي
تمهيد
ما دفعني إلى هذه الدراسة الموجزة للجزء الأول من الكتاب المترجم عن اللغة الفارسية المتعلق بقصة (ملوك الغرام.. خسرو وشيرين) لمؤلفه نظامي كنجوي, أشهر الشعراء في الأدب الفارسي القديم, ترجمة الأستاذ القدير فاضل علي الكرمنشاهي؛ كونه يتعلق بمدونة أدبية موثقة عن قصة الفنان البارع والعاشق الولهان فرهاد, والملكة الفاتنة شيرين؛ لما لهذه القصة من أثر في ثقافة الكثير من الشعوب الشرق أوسطية (ايران, العراق, تركيا, أرمينيا, ومناطق كردستان كافة في العالم), لكن هذا المصدر يقدّم شخصية الملك الفارسي خسرو على شخصية فرهاد الذي لا يظهر إلا في منتصف الرواية تقريبًا, كعاشق دخيل يحب شيرين من طرف وأحد, ويقدّم شيرين على أنها ملكة أرمينية في المناطق الجبلية الشرقية من الإمبراطورية الساسانية.
وهو المصدر الفارسي الثاني الذي يتم فيه ذكر هذه الملحمة العشقية بعد المصدر الأول السابق له, الشاهنامة الفارسية, للشاعر الفارسي الكبير الفردوسي (940-1020م) الذي يذكر القصة بقراءة فارسية محضة, مستبعدًا شخصية فرهاد منها كليًا, ومصادرًا لقومية شيرين الكردية, معتبرًا إياها ملكة فارسية؛ بخلاف الكتاب موضوع بحثنا الذي يعدّها ملكة أرمينية, وبذلك صادر المصدران الأدبيان الفارسيان, نسبهما- فرهاد وشيرين- إلى الأرومة الكردية العريقة. وهذا خلاف القراءة الكردية الخالصة التي تزيح شخصية خسرو من الصدارة, وتقدّم شخصية فرهاد العاشق والبطل الكردي أولًا, وحبيبته شيرين الملكة الكردية الفاتنة, التي بادلت فرهاد العشق, وشاركته ذات المصير, وفضلت الموت بعده, نتيجة المؤامرة الشريرة التي حاكها الملك الفارسي خسرو, مع بعض معاونيه, ليس كما في القراءة التي نحن بصددها التي تؤخر موت شيرين طويلًا حتى مقتل زوجها خسرو على يد ابنه؛ طمعًا في الملك. لكن القراءة الكردية شفوية يحفظها الخلف عن السلف, ولم يتسنَ لها التدوين بشكل أدبي رفيع. هنا نحمّل أصحاب الشأن من المثقفين الكرد بالتقصير, بالذات الذين يجيدون الكتابة باللغة الكردية العريقة, والشعراء الكرد المعتبرين, وهذا حديث ذو شجون, لا نود الاسترسال فيه.
فكرة الملحمة (الثيمة)
تدور أحداث الرواية في هذا المصدر عن قصة حب عارمة تجمع بين الملك الفارسي خسرو, والملكة الأرمنية الفاتنة شيرين, وفيما بعد العاشق الولهان فرهاد, عبر ملحمة شعرية ضخمة وفخمة تناهز ستة آلاف بيت شعري, كتبها الشاعر نظام كنجوي قبل أكثر من سبعة قرون, لكن المترجم فاضل الكرمنشاهي, يترجمها سرديًا بتصرف, بما يلائم الثقافة والذوق الثقافي العربي إن جاز التعبير. وهناك ثيمات ثانوية أخرى, لعل أبرزها الجانب الأخلاقي النبيل للملكة الفاتنة شيرين, عبر محافظتها على عفتها وشرفها بوجه الإغراءات العديدة التي قدمها خسرو؛ لينال جسدها بالحرام, لكن من دون جدوى, ليتبين لنا أن عاقبة العفة والصبر, الخير والفلاح والظفر دائمًا, كذلك تبرز خصلة الوفاء, وجزاء الإحسان بالإحسان من خلال إقامة جنازة ملكية تليق بعاشقها النبيل فرهاد, الذي ضحى بحياته من أجلها, رغم أنها لم تبادله العشق في هذه الرواية.
زمان ومكان الأحداث في الملحمة
نستطيع أن نخمّن الزمن الذي حصلت فيه أحداث الرواية من خلال متابعتنا حياة الشخصية الرئيسة فيها, الملك الفارسي الأخير خسرو الذي حكم بلاد فارس للفترة من 591 ولغاية 628 ميلادية. قبل الاجتياح الاسلامي لها.تدور أحداث الملحمة العشقية في مناطق كردستان العراق, وايران, وتركيا, وأرمينيا, وإيطاليا أيام حكم الرومان لها. وهناك آثار شاخصة تتعلق بالملحمة, يؤمّها السواح والزوار في منطقة قصر شيرين الحدودية بين ايران والعراق القريبة من منطقة خانقين الكردية؛ ما يعزز رأينا فيما ذهبنا إليه, بأن الملحمة كردية خالصة, بطلاها– فرهاد وشيرين- كرديان, ناهيك عن الأسماء الواردة فيها, المشتركة بين الثقافتين الفارسية والكردية.
البناء الروائي
الشخوص في الرواية, بسيطة واضحة المعالم. والزمن في الملحمة, متصاعد. والأحداث منتظمة, تسير نحو العقدة النهائية بشكل سلس, غير أننا لا نعدم المتعة في متابعتنا لسير الأحداث الدرامية الشائقة, بالذات المفاجآت غير المتوقعة لبعض الأحداث المصيرية التي تعصف بأبطال الملحمة الشعرية الكبرى, والنهايات غير السعيدة, والموت الذي توزع بعدالة على جميع أبطالها الرئيسيين, شأنها شأن جميع الملاحم الشعرية الكلاسيكية الكبرى, كالإلياذة, والأوديسة.
الشخصيات الواردة فيها
الشخصيات الرئيسة
1- الملك الفارسي خسرو برويز: تقدّمه الملحمة الشعرية بشكل مثالي منذ ولادته المرتقبة من قبل والده, الملك الساساني هرمز, الذي يأمل بولادة من يخلفه في المُلك الكبير؛ فيقدم الذبائح والقرابين, ويدعو الله أن يرزقه بمولود يرث عرشه وعرش أجداده الكرام.
ولد المخلوق المبارك, استقبله والده بفرح غامر, أسماه خسرو, وجلب له أفضل المربيات؛ للإشراف على تربيته. اتصف المولود منذ صغره بالذكاء, والحكمة, والشجاعة, وجمال خارق يضاهي جمال النبي يوسف عليه السلام, بحسب الملحمة.
تُظهر الرواية جانبًا آخرَ في شخصيته خلال المراهقة, هو العبث, والمجون, وارتكاب الأخطاء أحيانًا؛ ما يدعو والده إلى معاقبته, وسحب بعض الأشياء الثمينة منه, لكن سرعان ما تعود المياه إلى مجاريها؛ بتدخل الوسطاء, والحكماء, فيعفو عنه, ويمنحه الفرصة من جديد.
يعيش لياليَ هانئة سعيدة في ملك أبيه, فجأة تنقلب حياته رأسًا على عقب, خلال حديثه مع صديقه, ونديمه المخلص, الرحال والرسام شابور؛ عندما يصف له جمال وفتنة شيرين, أحدى أميرات أرمينيا في المناطق الجبلية الشرقية من البلاد؛ فيصيبه العشق حتى من دون أن يراها, ويرافقه الكدر والسهر والأرق.. لكن عندما يلتقيها لاحقًا, بعد انقضاء أحداث طويلة عصفت بحياته, ورغم أن شيرين تبادله العشق العارم, وتأمل أن يتكلل هذا الحب بزواج ملكي لائق, يصرّ خسرو بغرور, أن يتملّكها من دون زواج شرعي, وأن ينال جسدها الفاتن البضّ, كأنها أحدى محظياته, ليست إلا!
لن ينجح خسرو في الإيقاع بها, وتظل عصيّة عليه؛ فيمران بفصول من الزعل والكدر, بسبب هذه المشكلة.
الملحمة تكشف جانبًا مظلمًا آخرَ في شخصية خسرو, عندما يبرز على ساحة الأحداث, العاشق الولهان فرهاد, أحد المنافسين الكبار في حب شيرين؛ ما يجعله يتآمر مع معاونيه في المملكة, لقتل فرهاد, وينجحون بالفعل في مسعاهم الشرير.
في النهاية بعد مرور أحداث كبيرة مجددًا, يستسلم الملك خسرو لإرادة الملكة الجبلية شيرين, ويتزوجها بشكل شرعي لائق وليس كما أراد. يظلان معًا سنين طويلة, ينعمان بالحب والحبور, حتى يقُتل خسرو على يد ابنه البكر شيرويه من زوجته الرومية الراحلة مريم؛ طمعًا في العرش.
2- الملكة الأرمنية شيرين: أميرة أرمنية وفيما بعد ملكة, فائقة الحسن والجمال, تصفها الملحمة على لسان ِشابور: ((أميرة لها قامة فارعة مع قد رشيق, وصدر نافر كاعب, وأنف رفيع دقيق, وفم مدور صغير تحفه شفاه ممتلئة بحلاوة الرطب والتفاح, وأسنان ببياض اللؤلؤ, وعيون تضاهي عيون الغزال, وملامح تبهج الناظرين, وتسحر كل من يراها فيعشقها من فوره..)).
إضافة إلى هذا الجمال الخَلقي, فإن جمالها الخُلقي لا يقل شأنًا, وهي التي تمنعت عن منح جسدها لعشيقها الملك خسرو, رغم محاولاته العديدة, مستذكرة بذلك نصيحة عمتها مهين بانو ملكة أرمينيا.
عشقت خسرو, بمجرد أن لمحت ملامحه في صورة, رسمها شابور على المنديل الذي وضعه في طريقها.
كانت صبورة جدًا رغم معاناتها من سلوك حبيبها, الملك المغرور بملكه, الذي يريد اصطياد جسدها, كأنها جارية من جواريه اللاتي ناهز عددهن الثلاث آلاف, إلا أنها لا تيأس حتى تنال مرادها في النهاية, فيستسلم خسرو للأمر الواقع, ويمنحها شرف الزواج الملكي اللائق بعد مرور سنين طويلة, حينها فقط؛ تمنحه جسدها عن طيب خاطر بعد أن سلمته قلبها من قبل.
كذلك تبرز خصلة الوفاء والاحترام لشخصية فرهاد, الفنان المهندس الذي عشقها بجنون, وحفر الجبل الصلد من أجلها؛ فأقامت له مراسيم دفن وعزاء ملكي فخم, يليق بما بذله من حب وتفانٍ في سبيلها, لكنها وعلى الرغم من احترامها الكبير, إلا أنها لم تبادله العشق, وظلت وفية لحبيبها الأولي خسرو, رغم جحوده وظلمه.
في نهاية الملحمة, بعد مقتل زوجها الملك خسرو على يد ابنه البكر؛ تقوم بقتل نفسها, رافضة عرض الزواج المغري من الملك الجديد.
3- الفنان والعاشق الولهان فرهاد: فنان ومهندس في حفر الجبال, تعلم النحت على الحجر في الصين, وتجاوزهم في ذلك. كلّفه صديقه شابور, أن يحفر طريقًا جبليًا من أجل أن يجلب الرعاة حليب الأغنام طازجًا إلى سيدة القصر شيرين؛ لأنها لا تتناول غير حليب الأغنام تلك الفترة.
كان يتمتع بطول فارع, وجمال وافر, يملك جسدًا رياضيًا ضخمًا, كأنه الجبل الشامخ. عندما لمح شيرين وهي تخرج من خلف الستارة, كالملاك الجميل؛ اضطرب قلبه وابتهج, وصار يخبط رأسه بالأرض, كأنه حية مجروحة تدور حول نفسها, حسب وصف الملحمة لحاله. وصل خبر عشقه لشيرين مسامع الملك؛ فأرسل في طلبه, وخلال محاورة شعرية طويلة, علم خسرو أن حب شيرين استحوذ تمامًا على قلب فرهاد, ولا فكاك من هذا العشق, إلا بموته.
في البداية طلب الملك منه أمرًا تعجيزيًا, وهو شق جبل بيستون الصلد العملاق من المنتصف, وفتح طريق خلاله, من أجل أن يصل ماء البحيرة إلى الجانب الآخر من الجبل, مقابل وعد كاذب, بتمكينه الزواج من الأميرة شيرين. قبل بالمهمة المستحيلة؛ حبًا بشيرين, وأنهمك بالحفر بكل بسالة.
عندما وجد خسرو, تقدم فرهاد في عمله رغم صعوبة المهمة؛ قرر أن يقتله بحيلة خسيسة, وهو ايصال خبر كاذب له يفيد بموت الأميرة شيرين فجأة. بالفعل تنطلي الحيلة على فرهاد؛ فيقوم بقتل نفسه, فالدنيا من دون شيرين, لا تستحق العيش فيها! وبذلك يُسدل الستار على حياة العاشق النبيل.
عندما علمت الأميرة شيرين بانتحار عاشقها من أجلها, أعلنت الحداد, وأقامت مراسيم العزاء له, كأنه أحد الملوك, وشيّدت مرقدًا مناسبًا يليق به حيث أصبح مزارًا, ومعلمًا يقصده العشاق من جميع الجهات؛ كونه أصبح رمزًا للعشق الأبدي.
الشخصيات الثانوية في الملحمة
هناك مجموعة من الشخصيات الثانوية المهمة في ثنايا الملحمة الشعرية, لعل من أبرزها:
شابور, نديم خسرو, وصديقه المخلص الذي تسبب في معرفته بشيرين, وحلقة الوصل بينهما. وشاءت الأقدار أن يكون له دور مماثل في تعريف صديقه الاخر فرهاد؛ بمعشوقته شيرين.
مهين بانو, ملكة أرمينيا, وعمة شيرين التي نصحتها باتخاذ طريق العفة مع خسرو حتى تنال زواجها الملكي المستحق, وكان لها ذلك.
هرمز, الملك الساساني, والد خسرو الذي أمل في ولده بوراثة عرش بلاد فارس الكبير, وقام بإعداده لأجل هذا الغرض.
مريم, ابنة ملك الروم الذي أعان خسرو, ولبى طلبه في استرداد ملك ابيه, وجهّزه بجيش جرار لهذا الغرض, وزوجه من ابنته مريم.
شيروية, ابن خسرو من زوجته الملكة الرومية مريم, الذي قام بقتل ابيه الملك, وعرض الزواج على زوجته شيرين.
بهرام جوبين, القائد المتمرد الذي استحوذ على ملك فارس, مستغلًا غياب خسرو في بحثه عن شيرين.
مؤاخذة
نعيد التذكير بأننا نبحث في أحداث الرواية الواردة في المصدر الذي نحن بصدده, وليس عن مصدر آخر؛ لفك الالتباس الذي قد يقع فيه المتلقي لبحثنا, وما يحمله من فهم سابق للحكاية. هذا الالتباس الذي وقع فيه المترجم ذاته, عندما قدّم شخصيات الرواية في مطلع كتابه, الصفحة (6) معرّفًا فرهاد: ((بطل الكرد ومحب لشيرين)) بينما لم تذكر أحداث الرواية الواردة في متن الكتاب شيئًا عن قومية فرهاد؛ ما يوحي بأنه مواطن فارسي فيها!
أرجو من الأستاذ فاضل, تصويب تقديمه لشخصية فرهاد في الحكاية, وفق المصدر الفارسي الذي قام بترجمته, والتنويه في المقدمة عن وجود قراءة كوردية خالصة, تختلف جذريًا عما موجود في المصدر المترجم؛ للإحاطة التامة, والفهم الكامل للأحداث التي ترجمها.
الخاتمة
ختامًا أقول, يجب أن نحظى بمدونتنا الأدبية الكُردية الخالصة– شعرًا أم نثرًا- لهذه القصة التي تحتل موقعًا مهمًا في وجداننا, وثقافتنا الكُردية عبر التاريخ. ليس من باب الأنانية والتعنصر– لا سمح الله- بقدر تصحيح القراءات, خاصة إذا علمنا أن هناك تحقيقات تاريخية حديثة, جنحت بعيدًا, وسلخت القصة من واقعها الكردي بالكامل, وقدمت وقائع وتصورات بعيدة عن الحقيقة, منها على سبيل المثال لا الحصر, دراسة الأستاذة اميرة عيدان في جامعة بغداد, وهي تتكلم عن شيرين, جاءت فيها: ((وقد اتفق المؤرخون جميعهم على انها آرامية مسيحية. أما بالنسبة لأصل موطنها، فهنالك أقلية من المؤرخين قالوا بأصلها الأحوازي، بينما الأغلبية اتفقوا على أصلها العراقي وأنها من منطقة (ميشان) أي (ميسان)...)).
وهناك بعض القراءات الدخيلة في منصات التواصل الاجتماعي, تثير السخرية بالفعل؛ عندما حوّرت كلمة فرهاد إلى اسم فرحات المصرية, ليعبر عن الحكاية بعنوان: ((فرحات وشيرين))!![1]