ماجد حسن علي*
هذا المقال هو جزء من دراسة علمية ميدانية تركز على بعض النقاط التي تمت ملاحظته اثناء الزيارة الأخيرة الى جورجيا من خلال المشاركة في مراسيم احياء طواف “أيزي”، والاطلاع على أوضاع الايزيديين هناك ونمط حياتهم لأغراض بحثية علمية، حيث تم ملاحظة الكثير من الأمور التي لا يعرف عنها الايزيديين خارج جورجيا، ففي الوقت الذي يمكن التأمل بشكل كبير على الجهود الحثيثة التي يبذلها المجلس الاستشاري الروحاني للوقوف بوجه تحديات البقاء اوالانصهار التي يواجها المجتمع الايزيدي هناك، لكن في نفس الوقت هناك قلق كبير بشان فقدان الشعب الايزيدي لهويته في جورجيا الذي بدا يتجه نحو الاندثار والانصهار في بوتقة الهوية المسيحية الرسمية في جورجيا وملامح هذا الخطر ظهر بشكل جلي منذ بداية حقبة تسعينات من القرن العشرين لاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وجاء هذا الخطر ليس لان الحكومة او الكنائس تجبرهم على اعتناق المسيحية وانما هناك أسباب أخرى سوف نأتي الى ذكرها لاحقا والتي تتعلق بالخيارات الذاتية للفرد الايزيدي الذي اخضع للنمط الثقافي السائد في البلد لأسباب تاريخية.
يقطن الغالبية العظمة من ايزيدي جورجيا في العاصمة تبليسي. وفي الإحصاءات الرسمية المسجلة عند الحكومة الجورجية فقد بلغ عدد الايزيديين في إحصاء عام 2002 نحو (18،329)، ألف نسمة سجل من ضمنهم نحو (2514) فقط ككرد ايزيديين من الناحية الاثني-قومية. وفي إحصاء عام 2014 تناقص النسبة السكانية حيث بلغ عدد المسجلين بشكل اثني-قومي ايزيدي نحو (12،174)، ألف نسمة، ومن بينهم ممن سجل رسميا بأنهم ايزيديين كدين فقط بلغ نحو (8،600)، ألف نسمة. تجدر الإشارة الى ان عدد الايزيديين سجل رسميا بموجب إحصاء عام 1989، التي اجراه الاتحاد السوفيتي وبلغ نحو (33,331)، ألف نسمة (باسم الايزيديين كدين وكرد من الناحية القومية). التناقص التدريجي واضح بموجب هذه الإحصاءات، ولم يبقى سوى بضعة الاف، وغالبيهم يواجهون خطر الانصهار التدريجي وفقدان الهوية الذاتية، سوى باعتناق الأديان الأخرى او الهجرة الى روسيا والتشتت بين الدول الغربية.
تجدر الإشارة الى انه أسس الايزيديون في جورجيا جمعية حملت اسم الايزيدية كقومية مبنية على أسس اثنو-دينية في عام 1919، وفي عهد ستالين تم اعتبار الايزيديين ضمن القومية الكردية في إطار النظرية الاشتراكية للفهموم القومي، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي اعيد اعتبار الايزيدية قومية اثنو-دينية مستقلة لدى الحكومة الجورجية، وكذلك حتى في أرمينيا يسجل الايزيدية حتى اليوم كعرق قومي مستقل مبني على أسس اثنو-دينية. وهناك نهضة جديدة تؤمن بهذه النظرية في الأوساط الايزيدية المنتشرة في العالم وتتعبر الايزيدية هي هوية مبنية على الأسس الاثنو-دينية.
الانقسامات المجتمعية للأقلية الايزيدية في جورجية:
كما وضحنا بان العدد المتبقي والمسجل رسميا بلغ نحو (12،174) ألف نسمة بموجب إحصاء عام 2014، والمجتمع الايزيدي ضمن هذا العدد منقسم على عدة مجموعات نذكر منها ثلاثة مجموعات، اما بقية المجموعات المتداخلة سوف يتم البحث فيه ضمن البحث الموسع المزمع إنجازه لاحقا.
الأولى هي مجموعة تدعي بالانتماء الى الايزيدية من ناحية الهوية الاثنية، لكنها لا تتبع قواعد وضوابط وخصوصيات الدين الايزيدي لا سيما قاعدة ال(الحد والسد) الصارم في رابطة الدم الذي ثبت عليه الدين الايزيدي منذ نحو ألف عام. وهذه المجموعة انصهرت بالزواج خارج المجتمع الايزيدي لكنهم يدعون بأنهم ايزيديين من ناحية انتماء الهوية الاثنية، وسجلوا رسميا بأنهم من الاثنية الايزيدية، لكنهم غير ملتزمون بالقواعد الدينية. وهذه المجموعة هي الأكبر من الناحية العددية.
المجموعة الثانية وهي الأهم والأكثر تأثيرا، وتأتي بالمرتبة الثانية من الناحية العددية، يمكن تقديرهم بنحو ما بين (3000 و4000) ألف نسمة ورغم ان العدد غير رسمي لكنه تقديري وفقا للذين حضروا مراسيم “طواف ايزي” ما بين (800 الى 1000) زائر وإذا كان لكل زائر عائلة وأطفال فانه يمكن الوصل الى رقم تقديري لهذا العدد. هذه المجموعة هي خليط من الايزيديين من الذين حافظوا على التقاليد الدينية والالتزام بضوابط “الحد والسد” من ناحية الزواج ورابطة الدم. وتنقسم هذه المجموعة أيضا الى عدة اقسام من بينها قسم غالبيةُ العظمى من طبقة الپير والشيخ، واقام هذا القسم على عاتقه مهمة القيام بثورة تجديد هوياتية على الأسس الدينية الايزيدية الاصيلة بقيادة ال(پير ديمتري پيرباري “پير ديما”). وهناك اقسام اخرى ضمن هذه المجموعة ممن يحتفظون ببعض التقاليد البسيطة والالتزام ببعض الضوابط الأساسية، لكنهم لا يهتمون بالقضايا الدينية البحتة او ممارسة الطقوس التي تجددت وبدأ للتو في الثلاث السنوات الأخيرة في معبد أيزي بتبليسي.
المجموعة الثالثة هم خليط مشكل من الايزيديين ممن تزوجوا خارج المجتمع الايزيدي، ويدعون بانهم ايزيديون من ناحية الاسم بدون الالتزام بالطقوس والضوابط الدينية لكنهم يؤمنون بالانتماء الى هوية قومية كردية، وعددهم قليل جدا غالبيتهم من الشريحة المتعلمة وتعتبر نفسها شريحة مثقفة فهم من وقعوا تحت تأثير الحركات الكردية القومية منذ أواخر العهد السوفيتي، وتحاول هذه المجموعة ان تجد لها مكانة اجتماعية، مؤثرة وقامت بتشكيل رابطة كردية خاصة بها، لكن يبدو انهم لم ينجحوا في التوغل الى داخل المجتمع الايزيدي ومنافسة المجموعات الأخرى من الذين يؤمنون بالهوية الايزيدية الاثنية. وهم بذلك أصبحوا اقلية صغيرة جدا بعد ان فقدوا مكانتهم الاجتماعية وسط المجموعات الايزيدية الأخرى وحتى وسط الجورجيين أنفسهم. والسبب ان “الشعور القومي” الكردي كان ضعيفا بين ايزيدي القفقاس بشكل عام نتيجة الذاكرة الجماعية التي يحملونها بشكل متوارث حول مشاركة الكرد مع الدولة العثمانية في الفرمانات والاضطهاد الديني والتي تسببت في هروبهم وتهجيرهم الاجباري.
المثير للانتباه من ضمن المجوعة الأولى والثالثة هناك قسم مهم جدا و”هجين” قد يصل عددهم نحو (2000) الفين نسمة ممن اعتنقوا المذهب الأرثوذكسي، وهم يدعون بالانتماء الى الايزيدية ويخفون خروجهم عن الايزيدية لكنهم في الواقع اعتنقوا الأرثوذكسية والكثير منهم يقول بأنهم “ايزيديين مسيحيين”، وهذه المجموعة من الناحية العملية تشكل خطر حقيقيا على المجموعات الأخرى! لأنهم يحاولون اقناع الاخرين بالدخول الى الارثوذكسية على نمطهم الخاص من خلال الادعاء بالإبقاء على الايزيدية لكنهم ارثوذكس من الناحية العملية، لكنهم فعلا ذات أصول ايزيدية من الناحية الاثنية خرجوا عن الضوابط الدينية الأساسية. اما الذين اعتنقوا رسميا بالمذاهب المسيحية التبشيرية النشطة كالإنجيليين وشهود يهوا، فهم يعترفون بانهم تخلوا وابتعدوا عن الدين الايزيدي، لكنهم يدعون بانهم ايزيديين من الناحية الاثنية فقط. وهذا الفريق لا يشكل خطرا على البقية لأنهم خرجوا رسميا عن الدين ولا يخفون اعتناقهم لتلك المذاهب لكنهم يحتفظون بالانتماء الاثني.
أسباب الانقسامات المجتمعية:
أسباب هذه الانقسامات ترجع الى القضايا التاريخية حيث هاجر وهرب هؤلاء الايزيديين في مرحلتين مرحلة تبدا من بداية القرن التاسع عشر من أراضي تقع داخل تركيا الحالية في عهد الدولة العثمانية بسبب سياسة البطش وإعلان الفرمانات وتنفيذها من قبل الاكراد والاجبار على اعتناق الإسلام، لذلك غالبية من الذين نجوا وهربوا الى بلاد القفقاس هم من مناطق وان وسرحت وبايزيد القريبة من حدود ايران وروسيا القيصرية، اما الموجة الثانية فقد هاجرت اثناء الحرب العالمية الأولى، واستوطن الكثير منهم في ارمينا وقسم اخر استوطن في تبلسي بجورجيا، والقسم الأخير بمرور الزمن اكتسبوا مظاهر التمدن في تبليسي، حيث ان ما يقارب ال(200) عام -منذ القرن التاسع عشر- من البقاء في ظل غياب ممارسة الطقوس الدينية والقطيعة في زيارة معبد لالش او زيارة القواليين والطاووس، وقلة عدد رجال الدين، والفقر المدقع قد افقدهم بشكل تدريجي الشعور بالانتماء الى الدين بسبب عامل الفترة الزمنية الطويلة، وكذلك بعض التأثيرات الإيجابية والسلبية في ظل نظام حكم الاتحاد السوفيتي الذي كان قد وقف في الضد للنشاطات الدينية الصارمة وطباعة الكتب الدينية، لمدة نحو 80 عام الامر الذي انعكس بشكل كبير على الايزيدية باعتبارها ديانة فقدت الهيكلية التنظيمية، عكس الأديان الأخرى التي احتفظت بهياكلها التنظيمية الدينية، لكن من إيجابيات هذا العهد انه كان لطبقة الپير والشيخ دور كبير في الحفاظ على التقاليد الاجتماعية ذات الطابع الديني وذلك باستمرارهم في ممارسة طقوس دفن الاموات وتقديم النذور والقاء الادعية الدينية.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي دخل ايزيدي جورجيا الى مرحلة تحولات جديدة للأسباب المذكورة، فقد تقلص دور وتأثير طبقة الپير والشيخ على المجتمع من الناحية الروحية بسبب موجة الفقر الشديدة التي دفعت بالكثير منهم بالتحول الى تجار والتخلي عن دورهم الروحي، وبقي الكثير من أبناء هذه الطبقات يجهلون التعاليم الدينية واكتفوا فقط بممارسة مراسيم الدفن للأموات وخلقوا نمط خاص مقابل هذه الممارسة وذلك بفرض الأموال على أصحاب الأموات مقابل خدماتهم. ومن جهة ثانية فقد بدأت موجة الزواج خارج ضوابط الديانة الايزيدية لاسيما عند فئة الشباب على شكل ظاهرة بعدما كانت على شكل حالات في العهود السابقة، وغالبية هؤلاء هم الان ضمن المجموعتين، الأولى التي تعترف بأنهم ايزيديين من ناحية الاثنية والثانية التي تؤمن بانهم كرد من الناحية القومية، والمجموعتان تريدان ان تكون الايزيدية على طريقتهم الخاصة التي كونتها الظروف التاريخية خارج نطاق ضوابط “الحد والسد”، ويطالبون باعتبارهم كايزيديين دون الحاجة الى فرض الطقوس الدينية البحتة التي يمارسها الايزيديين على غرار ايزيدي العراق من أعياد ومناسبات دينية رصينة، فهم يعتقدون بانه ليس هناك حاجة الى الارتباط بالمرجعية الدينية والمجلس الروحاني الأعلى باعتبارها المركز الرئيسي التي يحتضن معبد لالش والمجلس الروحاني، ويكتفون بالعادات السابقة من خلال زيارة المقابر وتقديم النذور على أرواح الأموات.
الثورة الروحية وإعادة احياء الشعائر الدينية:
كما أسلفنا حتى قبل (4) سنوات كانت الطقوس الاجتماعية المتبقية ذات الطابع الديني عند ايزيدي جورجيا تقتصر زيارة المزارات الدينية وتقديم النذور والقاء بعض النصوص الدينية، حيث لم يكن هناك مزار او معبد ديني قد يعوض لهم الاشباع الروحاني الديني، الكثير منهم يذهب الى الكنائس لهذا الغرض ويخلط بين الايزيدية والرموز المسيحية، حيث يحمل الكثير من النساء صورة السيدة مريم اعتقادا منهن على انها “خاتونا فخرا” الايزيدية.
وفي محاولة لإعادة الايزيدية الى التقاليد الدينية وطقوسها الرصينة، وبروح ثوروية فقد بدأت حركة تجديد وسط المجموعة الثانية انبثقت عنها تأسيس المجلس الاستشاري الروحاني في تبليسي في 2011 وسجل بشكل رسمي كمجلس للديانة الايزيدية لدى الحكومة الجورجية. حاول الاخير مراراً وبشتى الطرق للارتباط بالمجلس الروحاني الأعلى والمرجعية الدينية في العراق، لكن لحد الان لم يتم الاستجابة بالإيجاب لهذا المطلب من قبل المجلس الروحاني والأمير تحسين بگ، لأسباب غير معروفة. يمكن الاعتقاد ان محاولات المجلس الاستشاري للقيام بهذا الارتباط الهيكلي مع المجلس الروحاني الأعلى له أسبابه التي تعود الى حنكة أعضاء هذا المجلس لإضفاء الشرعية الدينية في عملهم، حيث دون هذه الشرعية يصعب إعادة احياء الطقوس الدينية التي تستمد شرعيتها من خلال شرعية المجلس الروحاني الأعلى التي تشكل نقطة قوة على غرار بعض الأديان الأخرى التي تتمتع بهيكلياتها المركزية الرصينة مثل النظام الهرمي البابوي وغيرها من الأنظمة والمرجعيات الدينية في العالم.
المجلس الاستشاري الروحاني في تبليسي هيئة ذات هيكلية إدارية منظمة يتميز بطابع ديني مستقل وبعيد عن تأثير جميع التيارات والأحزاب القومية والسياسية. يتألف المجلس من (20) عضو من مختلف الطبقات الدينية. وللمجلس نظام ودستور داخلي يقيد كل من يرغب بالإنظام الى المجلس ان يكون مؤمنا بمبادئه واهمها ان يتميز العضو الالتزام بالدين واصوله وتقاليده الاصيلة، بموجبه تجري انتخابات دورية كل خمس سنوات، وفيها تتوزع الأدوار، حيث يتم اختيار أعضاء المجلس الاستشاري التي تتألف من (7) أعضاء يمثلون طابع روحاني، ترأسهُ في الفترة ما بين 2011-2014 الشيخ نادر علويان، ومنذ 2014 يرأس المجلس ال پير ديما (ديمتري پيرباري)، حيث انيطت المسائل الدينية الى الشيخ والپير كما يتم اختيار أعضاء من طبقة المريد للأمور الإدارية والمالية. وهناك عدة لجان تابعة لهيكلية المجلس منها لجان ثقافية وعلمية واجتماعية والشباب والمراة وغيرها. ومن اهم ما انجزه المجلس الاستشاري وبعد جهود حثيثة من قبلهم، تم الإقرار ببناء اول معبد ايزيدي في جورجيا باسم معبد (زيارتا ايزي او مزار سلطان ايزيد)، بعد ان تبرعت الحكومة الجورجية بقطعة ارض وتم المباشرة ببنائه في عام 2012 وافتتح في 16 حزيران 2015، بعد حضور مير تحسين بگ واختيار المرگه بابا-شيخ، حيث جمع التبرعات من بعض الخيرين ورجال الاعمال الايزيديين من روسيا. المعبد يتميز ببناء من الطراز الحديث مع اتباع الهندسة المعمارية للمعابد والمزارات الايزيدية في العراق لاسيما القبب المخروطية. في المعبد هناك باحة واسعة للمراسيم والطقوس الدينية، وكذلك هناك بجانب المعبد بناية خصص كمركز ثقافي التي تحتوي على عدد من الغرف والقاعات للمحاضرات والدروس الدينية والنشاطات الثقافية وايضا مكتبة ارشيفية غنية بالمصادر والكتب، تفيد الأفلام الوثائقية للتعرف على الايزيدية في جورجيا. في المعبد يتم احياء مراسيم “طواف ايزي” في الشهر السادس من كل عام، وهناك حضور مميز للشخصيات الرسمية والدينية المعتبرة.
ومع وجود دعم معنوي كبير من مختلف الجهات الرسمية للحكومة الجورجية والدينية من بعض الكنائس المسيحية المختلفة، وكذلك من بعض المثقفين ورجال الاعمال الايزيديين في روسيا، لكن الدعم المادي يكاد ان يكون معدوم الى حد كبير، المعبد بحاجة الى تمويل دائمي ودعم مادي ثابت من اجل دفع فواتير المياه والكهرباء ورواتب العاملين والخدم وسدنة المعبد، لان الخيرات اثناء الزيارات قليلة جدا لا تلبي مطاليب خدمة المعبد، والمجلس الاستشاري الروحاني يعمل بشكل طوعي منذ تأسيسه حتى الان، معظم الأعضاء متطوعون متدينون يقضون معظم اوقاتهم في خدمة المعبد، لكن نمط الحياة ورمق العيش صعب جدا في جورجيا بشكل عام فهم أيضا بحاجة الى عمل ووظائف لتلبية حاجات عوائلهم.
وفيما يتعلق بأداء الواجبات الدينية في المعبد لقد انبهرت من التنظيم الدقيق لأجراء المراسيم والطقوس مع التراتيل والادعية الدينية، لكن اهم ما تم ملاحظته اثناء مراسيم الطواف حضر عدد قليل قد لا يتجاوز الالف نسمة رغم وجود ما يقارب (8،600) يزيدي مسجل رسميا بانتمائهم الديني للايزيدية كما اسلفنا سابقاً، كما ان الذين شاركوا في تلك المراسيم معظمهم كانوا من المجموعة الثانية المصنفة في هذا المقال، لكن في الأيام العادية تزور المعبد الكثير من العوائل ، قد يكون سبب عدم الحضور هو ان احياء المراسيم والطقوس هو شيء جديد لهم حيث لم يسبق لهم ان وجدوا مثل هكذا طقوس.
خيارات البقاء ومخاطر الانصهار:
كما هو مبين فان المجلس الاستشاري وإدارة المعبد بحاجة الى دعم دائمي وتمويل ثابت، لان التبرعات التي تأتي للمزار من خيرات الزائرين الايزيديين لا يلبي تكاليف واحتياجات المجلس والمعبد، بينما المجلس الروحاني الأعلى يمول نفسه من خيرات معبد لالش لكثرة الزائرين والمتبرعين للخيرات، اما المجلس الاستشاري والمعبد امام صعوبات جدية، وهناك خيارين للاستمرار او الانصهار وهذان الخياران هما:
الخيار الأول: ان يتم تخصيص مخصصات ثابتة لإدارة ونشاطات المعبد بمقدار (20) ألف دولار سنويا على اقل تقدير، وهذه المخصصات يمكن يلبيها طرفين اثنين، الطرف الأول هو المجلس الروحاني الأعلى في العراق من إيرادات وخيرات معبد لالش باعتبار المجلس الاستشاري الروحاني في تبليسي هيئة دينية مهمة قد يشكل فرع مرتبط هيكليا بالمجلس الروحاني الأعلى على غرار الأديان المجاورة، لكن امير الايزيدية في العراق و”العالم” والمجلس الروحاني، لم يقدموا استجابة لأي طلب من مطالب المجلس الاستشاري بشكل ملموس ولم يعترفوا او حاولوا اقامة علاقات او ارتباط رسمي معهم دون أسباب معروفة، في الوقت الذي يطمح المجلس الاستشاري الارتباط الرسمي والروحي معهم والتواصل مع جميع ايزيدي العالم. اما الطرف الثاني التي يمكن ان يلبي المخصصات المطلوبة هو ان يتم جمع التبرعات من رجال الاعمال الايزيديين في كل من روسيا وألمانيا والعراق بشكل منظم وموثق، تجدر الإشارة الى انه تم مفاتحة الكثير رجال الاعمال بهذا الخصوص أكثر من مرة لكن لم يفلح الامر لحد الان.
الخيار الثاني: وهو يشكل مجازفة كبيرة بمصير الشعب الايزيدي في جورجيا حيث في نهاية المطاف اذا لم يتم الاستجابة فيما جاء في الخيار الأول؛ فان المجلس الاستشاري الروحاني سيضطر بسبب قضية التمويل وتحت الضغوطات للمجموعات الايزيدية الأخرى: اما ان يعلن الاستقلال التام من المجلس الروحاني الأعلى والمرجعية الدينية والخروج من سلطة الامير، أي فك الارتباط “المعنوي” الموجود حاليا، وبالتالي الخضوع التام لشروط المجموعات الايزيدية الأخرى خاصة المجموعة الأولى، والقبول بتوجهات تلك المجموعات لاسيما في قضية عدم الالتزام بالأساسيات والضوابط الدينية والخروج عن قانون “الحد والسد” للديانة الايزيدية وقبول بإعادة جميع ممن خرقوا وخرجوا عن ذلك القانون وتزوجوا من خارج المجتمع، وبالتالي فان هذا الاجراء سيشكل تحول جذري كبير في مجتمع الديانة الايزيدية في جورجيا التي لا تعرف عواقبها وقد تتحمل مخاطر كبيرة لاسيما الإسراع في عملية الانصهار وبالتالي الزوال النهائي بسبب غياب الطقوس والعقيدة الدينية وإبقاء الايزيدية بالاسم فقط كهوية فارغة من الروح المعنوية بالمفهوم الثيولوجي اللاهوتي.
الخاتمة:
المجتمع الايزيدي في جورجيا يشكل رقما مهما قياسا بالشعب الايزيدي الذي يقدر مابين ال(800 الى 900) الف نسمة في العالم، لكنه يواجه تقسيمات مجتمعية في جورجيا، التي خلفته الظروف التاريخية والاقتصادية وكانت غير ظاهرة للعيان، غير ان حركة التجديد الدينية التي يقودها المجلس الاستشاري الروحاني تحت قيادة الپير-ديما، قد ابرزت تلك التقسيمات الى العلن، الامر الذي دفع بالكثير من المجموعات المختلفة بالنظر الى شخص ال پير-ديما والمجلس الاستشاري الروحاني بأنهما من عوامل التقسم للمجتمع الايزيدي، لانهم ببساطة يحاولون احياء الدين من جديد ولان هذا الامر يخالف توجهات المجموعات الأخرى غير الملتزمة بالطقوس والضوابط الدينية، وهذه المجموعات الرافضة لا يرغبون بالعودة الى تلك الالتزامات او تغيير توجهاتهم.
وأصبح من المعروف ان المجلس الاستشاري ورئاسته يتميز بالمؤهلات القيادية المجتمعية الكبيرة حيث لهم علاقات دبلوماسية على الصعيد الحكومي الرسمي في جورجيا ومع الكنائس الداخلية والعالمية والباباوية في الڤاتيكان والكثير من الشخصيات المؤثرة. ويتميز مجلسهم بنظام مؤسساتي رصين ومنظم، يمكن تطبيقه على بقية الجاليات الايزيدية في العالم، والذي يستند على الدين باعتباره الركيزة الأساسية للهوية الاثنو-دينية للشعب الايزيدي وبالتالي قد يشكل ذلك منطلقا للوقوف بوجه مخاطر فقدان الهوية الايزيدية في المستقبل.
ورغم التفاؤل لهذه الطفرة النوعية في الحركة التجديد للديانة الايزيدية في جورجيا، لكن بسبب ما ذكر في المتن فانه هناك تشاؤم في نفس الوقت قد تحمل تلك الحركة مخاطر الفشل اذا لم يتم مساندتها من قبل المتمكنين الايزيديين من المجلس الروحاني الأعلى ورجال الاعمال الايزيديين، وعليه فانه اذا حصل أي تطور اضطراري سلبي للمجلس الاستشاري في تبليسي، فان المجلس الروحاني الأعلى والأمير الايزيدي مير تحسين بگ والمرجعية الدينية، هم من يتحملون المسؤولية التاريخية امام فشل هذه التجربة الرائدة التي يمكن ان يعول عليها في الحفاظ على الهوية الايزيدية هناك وتطبيق تجربتهم على بقية الايزيدية في العالم في تنظيم هيكلة المجتمع.
ملاحظة:
الأرقام والإحصاءات الواردة في النص هي موثقة وبحوزة كاتب المقال.[1]
Majid Hassan Ali, Ph.D. Email: majidhassan.ali@gmail.com*