أحمد شيخو القاهرة
تتخذ مراكز القوى في نظام الحداثة الرأسمالية العالمي، من صراعات الهيمنة والنهب وتقاسم النفوذ من الشرق الأوسط أساساً لأهميتها، فارضين حروباً دموية وإبادات جماعية لتأمين الطرق وفتح الممرات بين جنوب وشرق آسيا وأوروبا في ظل الحرب العالمية الثالثة.
في السنوات الأخيرة ومع مؤشرات التغير في المشهد الإقليمي وإعادة ترتيبه من قبل منظومة الهيمنة الرأسمالية العالمية ليتناسب مع المعطيات والظروف المستجدة لاستمرار دورة النهب والسيطرة، نلاحظ محاولة تحجيم أو إبعاد بعض الأدوات في الشرق الأوسط عن التحالفات الإقليمية أو الدولية التي سيكون لها الدور الأساسي في رسم ملامح النظام الإقليمي.
تحالفات المشهد الإقليمي والعالمي هو ترتيب جديد للمنطقة
في ظل الحرب العالمية الثالثة الحالية، تحظى التحالفات الاقتصادية ومنها تحالفات الطاقة والغاز والتحالفات العسكرية الموضعية وتحالفات تأمين الطرق والمضائق ومصادر الطاقة ووصولها إلى المستهلك من أحد المعطيات والثوابت التي نعتقد أنها ستكون اساسية في ترتيب القوى الإقليمية والمحلية وربما تغيير بعض الحكومات والرؤساء وصولاً للحالة المرادة.
لكن إلى جانب هذه المؤشرات التحالفية، تبقى الحياة الثقافية والفكرية وفلسفة العمل والعقلية السائدة والذهنية الموجهة للسلوك الاجتماعي، من أهم الجوانب التي ستأمن للنظام المهيمن سيادته وتحقيق مشاريعه دون تحديات وصعوبات كبيرة، وهذا ربما يتم توفيره عبر نظم التعليم الدولتية والإعلام والحياة الافتراضية التي تعيشها مجتمعاتنا وأجيالنا عبر حالة الاستعباد الحاصلة والتوجيه المرسوم لوسائل الأنترنت والمواقع والمنصات التابعة للشركات العالمية التي تعتبر من أدوات النظام العالمي رغم بعض جوانبها الإيجابية.
تتصارع مراكز القوى ضمن النظام العالمي الواحد، كما هي حال أمريكا وأوروبا والناتو وروسيا والصين وإيران وتركيا وإسرائيل والسعودية والإمارات وقطر ودول أخرى، لزيادة حصتها من الهيمنة والنهب والنفوذ على المستوى العالمي وخاصة في ساحة الشرق الأوسط لما لها من الأهمية في رفد المسيطر عليها بأوراق تجعله ينافس القوى الأخرى بشكل متفوق ومؤثر.
الصراع والتنافس الدولي على طرق الطاقة والغاز
حاولت وتحاول روسيا والصين ومعهم تركيا فتح طريق الغاز والطاقة عبر أوكرانيا إلى أوروبا ولكنهم فشلوا، لأن الناتو وأمريكا وبريطانيا، كانوا غير موافقين وأمامهم بالمرصاد، ولا يمكنهم السماح بذلك، لأن ذلك سيغير من المعادلات في أوروبا وآسيا مما سيعطي نفوذاً للصين وروسيا على حساب أمريكا وبريطانيا. وبعدها تمت المحاولة مرة أخرى عبر فتح طريق أذربيجان تركيا عبر ممر زنغزور وتصفية الأرمن في أرتساخ (ناكورني كرباخ) لكن إيران وإسرائيل لم يقبلوا بذلك، بسبب التداعيات والتفاعلات التي ستكون في غير صالحهم، ونتيجة بعض مصالحهم المشتركة وافقوا إلى مستوى معين.
ومع قمة العشرين في الهند والإعلان عن الممر الذي يربط بين الهند وأوروبا عبر دول الخليج وإسرائيل وقبرص واليونان كتحدي لطريق الحرير الصيني الذي يضمن تركيا وإيران ضمنها، سارعت تركيا وروسيا وإيران إلى تخريب هذا الطريق، وطبعاً من يريد فتح هذا الطريق يريد التخلص من حماس وهنا تقاطعت مصالح الجانبين واحد يريد فتح الطريق والتخلص من حماس وأخر يريد التخريب ومنع الطريق عبر افتعال حرب وخلق حالة عدم استقرار على الطريق عبر حماس.
أمريكا وإسرائيل كانتا تريدان حرب حماس كما هي تركيا وإيران
إن حرب حماس التي اندلعت بمساندة أردوغان وإيران كانت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تنتظرانها وتريدانها أن تحدث بشدة، ثم هاجمت إسرائيل على غزة ودمرتها بشكل وحشي، ويقولون إن أكثر من 22 ألف مدني قتلوا، وفي بعض الأحيان يطلقون مبادرات وقف إطلاق النار، ولا يولون أي اهتمام وأي معنى لمقتل 20 ألف شخص مقابل إطلاق سراح 50 شخصاً، وهناك من يقيّم ويظهر بأن هذه الأحداث مؤشر للنجاح والنصر، لا يوجد شيء من هذا القبيل، ومن يقول ذلك يخدع نفسه، وهنا لا بد من أن نستذكر بكل احترام الضحايا المدنيين لهذه الحرب الطاحنة من الجانبين.
والغرض الأساسي من هذه الحرب هو فتح طريق الطاقة والغاز، وكلا الجانبين يقاتلان من أجل هذا الطريق، ولهذا السبب بدأت هذه الحرب، فماذا ستكون نتيجة هذه الحرب؟
تركيا لها دور سلبي كبير في حرب غزة رغم أن ذلك غير ظاهر أو البعض لا يريد أن يراه، ويتم شن الحرب بما فيه الكفاية من قبل وسائل الإعلام التركية على إسرائيل، وغرضهم بات واضحاً في الميدان، يقولون إننا سوف نحبط المخطط الرامي إلى فتح هذا الطريق طالما لا يمر من تركيا وتركيا ليست عضواً فيها، وقد سبق أن قالت السلطات التركية بأنهم عقدوا اجتماعات مع العراق وحكومة السوداني وبمساندة عائلة مسعود البرزاني الحاكمة في هولير (أربيل) لبناء طريق بديل معاً يمتد من ميناء البصرة إلى أوروبا عبر تركيا، ولكن هل سيسمح نظام رأس المال العالمي أو نظام الهيمنة العالمية بذلك؟ لا نتعقد، واليهود هم القوة المهيمنة في رأس المال العالمي، فهل سيقبلون بذلك لإسرائيل؟ ولكن وفي السياق نفسه، استعانوا بأردوغان، وهنا يمكننا أن نفهم ونرى لماذا بقي أردوغان في السلطة مرة أخرى في انتخابات أيار، لأنه باستثناء أردوغان لا أحد يستطيع جر حماس إلى شن مثل هذا الهجوم على إسرائيل، على سبيل المثال عندما كانت عصابات داعش متجهة إلى دمشق قادهم أردوغان إلى كوباني ومعاداة الكرد، إن علاقة أردوغان بمثل هذه التنظيمات تقوم على هذا الأساس، ويستخدم نظام رأس المال العالمي هذا أيضاً في إطار مصالحه، وبعبارة أخرى فإنهم في الواقع يستخدمون أردوغان، ولهذا السبب يحافظون على وجوده المستفز، بمعنى آخر يبقونه على عرشه دون أن يدرك ذلك، لكنهم يستخدمونه وفقاً لمصالحهم، كما يتم استخدام كل حركات وأفرع الإخوان الإرهابيين الذين يصفقون لخليفتهم المزعومة أردوغان في كل تحرك له.
ستتوسع حرب غزة إلى سوريا ولبنان وقبرص
ماذا ستكون النتيجة الآن؟ يدّعي أردوغان وحماس أنهما سيهزمان إسرائيل، يقولون إنهم يخلقون صراعاً بين دولة إسرائيل والولايات المتحدة ويروجون لذلك ضد تركيا، لا علاقة له بالواقع، فتماماً كما فرضت الولايات المتحدة سيطرتها على منطقة الخليج أثناء حرب الخليج في عام 1990 بإرسال قوات إلى المملكة العربية السعودية والخليج، فقد أسست تحالف الازدهار أو الرخاء في خليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر، وأيضاً جلبت الآن سفنها وغواصاتها الحربية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط وأحكمت سيطرتها على الطريق، إنهم يحاولون إنهاء حماس، هذا هو هدفهم، يفعلون ذلك كوسيلة لإخلاء الطريق وتأمينه، وبعد ذلك سيفعلون ذلك في لبنان وسوريا وقبرص، أي أن الحرب ستتوسع ولها جولات في هذه الدول، والملاحظ أن إيران وتركيا يدركون ذلك ولذلك يحاولون إبقاء الحرب في فلسطين حتى لو أبيد وقتل كل الفلسطينيين ويبدو أن الصين تتصرف على النحو المتفق عليه وليس على أساس الصراع والتنافس الحاد، عندما لم يكن الطريق إلى أوكرانيا موجوداً، كان الأمر كما لو أن الصين قالت نعم للولايات المتحدة من أجل هذا الطريق من الهند عبر الخليج وإسرائيل وقبرص واليونان إلى أوربا، وحالياً في حرب غزة وقبلها في أوكرانيا موقف الصين لا يزعج أحداً وخاصة الغرب والناتو.
الشرق الأوسط عقدة مواصلات
الواضح أن القوى الإقليمية في الشرق الأوسط تريد أن تجعل نفسها دون المتنافسين الآخرين عقدة الوصل والاتصال بين الهند وأوروبا أو بين الصين وأوروبا، ولعل هذه هي إحدى نقاط القوى للشرق الأوسط كجغرافية أو أحد الأسباب التي تجعل القوى المركزية في النظام العالمي تركز عليها هي وهذه الخاصية العقدية للمواصلات والمضايق والخلجان والطرق بين جنوب وشرق آسيا وأوروبا وأمريكا وبريطانيا.
إن حروب الهيمنة والسيطرة والنهب في الطرق والمنابع والمضايق والخلجان يلعب فيها رأس المال العالمي دوراً كبير فيه بالإضافة إلى اليهود الذين يشكلون أحد أعمدة رأس المال العالمي والنظام العالمي، ولذلك نعتقد أن هذه الصراعات ستستمر طالما هناك مراكز قوى تتنافس على الهيمنة والنهب، وطالما إسرائيل تشعر بالتهديد والخوف في المنطقة وهي النواة الإقليمية للنظام العالمي.
لمجتمعات وشعوب المنطقة مخاطر الإبادة وإمكانات الاستفادة من صراعات مراكز القوى
لكن ماذا عن المجتمعات والشعوب التي تعيش في الشرق الأوسط وعلى طرق المواصلات والممرات الاقتصادية والغازية هذه، هل هذا الصراع في صالحهم أو ضدهم، أو كيف يمكن للشعوب والمجتمعات أن تستفيد من هذه الأوضاع وتتجاوز التحديات الظاهرة، وكيف يمكن للشعوب من فرض أجندتها على هذه الترتيبات والتقاسمات الدولية والإقليمية الجديدة، التي تركز على طرق الاقتصاد والطاقة والغاز، ونحن نشاهد حالة التمدد والتوسع الذي تريد كل قوى تحقيقه في الشرق الأوسط وعبر كافة الطرق الاقتصادية والسياسية والأمنية والدينية، وحتى عبر استعمال كل الوسائل بما فيها التدمير والحروب والقتل والإبادات كما الحاصل في غزة وشمالي سوريا وشمالي العراق، حيث إن شمال سوريا أيضاً كانت مرشحة لتكون إحدى الطرق وعقد المواصلات من الهند إلى الخليج العربي إلى البحر الأبيض المتوسط، ولكن تركيا وروسيا وإيران لم يوافقوا ودفعوا تركيا لتخريب ذلك واحتلال قسم مهم منها كإدلب وعفرين والباب وجرابلس و(كري سبي) تل أبيض و(سري كانيه) رأس العين.
نعتقد أن صراعات مراكز القوى ومحاولات ترتيب المشهد الإقليمي، تتضمن مخاطر القتل والإبادة والتهجير القسري في ظل صمت دولي وإقليمي متواطئ، وأيضاً تتضمن إمكانات الاستفادة والعمل لما هو لخير الشعوب والأمم، إن تم فهم وإدراك الواقع والحلقات المحلية والإقليمية والدولية للأحداث والصراعات، وعدم الانخراط والقبول بالعمل كأداة أو مستخدم أو موظف أو مرتزق لدى بعض الجهات الإقليمية والدولية.
لا بد من فتح مفهوم الهوية لتكون متعددة والأمة الديمقراطية خير استعداد وحل لمواجهة الحرب العالمية الثالثة
وكما أن بناء قدرات الإصلاح والتغير والتحول الديمقراطي بما فيها الذهنية التشاركية والسلوكيات التكاملية بين مختلف الشعوب والتكوينات الاجتماعية المختلفة وإيجاد قدرات الدفاع الذاتي لكل مجتمع وشعب ضمن جملة الصراعات والتناقضات الدولية، تشكل أحد مرتكزات العمل الناجح وبعد النظر والرؤية الثاقبة، ربما لانستطيع تغيير كل الأمور ولكننا نستطيع أن نكون قوة متعددة الجوانب بحيث لايستطيع الآخرين وبما فيهم القوى الدولية من تجاوزنا في كثير من الأمور، وبذلك نكون على الطريق الصحيح لتحقيق الحرية والديمقراطية لشعوبنا ومجتمعاتنا في دول المنطقة وبالاعتماد على قوتنا الذاتية كمجتمعات وشعوب تسعى للحرية وضمان مصالحها. ولو نظرنا لمئتين السنة الأخيرة سنجد أن قوى الهيمنة الراسمالية وراس المال العالمي تمكنا من تطويع الشعوب وفرض سياسة القطيع عليهم عبر الفكر والميل والاتجاهات القومية والدينية الوظيفية التي حاولت وبنجاح التلاعب بمشاعر وعواطف الناس، باسم الشعارات القومية والأمجاد الغابرة وفرض التجانس الأحادي بالقوة والقتل وخلق الثنائيات المتحاربة في كل مكان، حيث أن الفكر القومي الأحادي والديني المتشدد والذكوري السلطوي لايقبل بالتشارك أو الاحترام المتبادل أو الاعترف بالأخر.
وعليه تناحرت وتقاتلت الدول وتباعدت الشعوب خدمة لبعض الطبقات السلطوية الفاسدة والسلطات القومية. وهنا لا بد من تجاوز الأبعاد الضيقة والأحادية في الهوية، ولا بد من فتح مفهوم الهوية لتكون متنوعة وفيها تعدد الهويات تحت مظلة وطنية جامعة تستوعب الجميع وتأمن وتصون جميع الهويات الذاتية لأي مجتمع أو خصوصية عبر بناء مجتمع ديمقراطي وحر تكون المرأة فيها حرة ورائدة وقائدة للحياة وجهود التحرر والتحول الديمقراطي كما هو مشروع الأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية التي طرحها المفكر والقائد عبدالله أوجلان، لنكون مستعدين لتداعيات الحرب العالمية الثالثة التي تجري على شعوبنا ومناطقتنا وثقافاتنا الذاتية، ونكون من المنتصرين عبر إدراك الواقع وفهمه وعبر تنظيم مجتمعاتنا وشعوبنا لنكون فاعلين وليس مفعولين كما يريده البعض.[1]