=KTML_Bold=الشرق الأوسط بحاجة إلى ثورة نسائية ثانية=KTML_End=
إنَّ تقييمَ القضايا التي تَحياها #المرأةُ الكردية# أولاً في المجتمعِ ضمن أبعادِها التاريخيةِ – الاجتماعيةِ يتحلى بالأهمية. فقضيةُ المرأةِ هي منبعُ كافةِ القضايا. إذ نُلاحِظُ أنَّ هرميةً رجوليةً (النظام الأبوي) مسيطرةً وصارمةً قد تمأسسَت على المرأة، حتى قبلَ العبورِ إلى المجتمعِ الطبقيِّ الدولتيّ. وتم اللجوءُ إلى الكثيرِ من الصياغاتِ الميثولوجيةِ والدينيةِ كذريعةٍ لحاكميةِ الرجل. ومَلحَمَةُ إينانا، إلهةُ أوروك، هي انعكاسٌ لهذه المرحلة. حيث تَشعُرُ بالحنينِ العارِمِ إلى الطبيعةِ والإلهةِ الأُمِّ المقدسةِ القديمة، وتَئِنُّ من حِيَلِ ومَكرِ وجُورِ الرجولةِ الحاكمةِ ضمن نظامِ الهرميةِ والدولةِ البطرياركيّ الذي أُقحِمَت فيه. والواقعُ المُعاشُ في هذه الوجهةِ أكثرُ وضوحاً ولفتاً للأنظارِ في مَلحَمةِ بابل (النزاعاتُ بين ماردوخ، إله بابل القدير، وديامات، الإلهة الأنثى). هذا ويُذكَرُ في الميثولوجيا السومريةِ أنَّ المرأةَ خُلِقَت من ضلعِ الرَّجُلِ الأعوج. إنه تَعبيرٌ رمزيّ. ويستمرُّ هذا التعاطي في الأديانِ التوحيديةِ أيضاً. فالمرأةُ التي دخَلَت الزقوراتِ السومريةَ كإلهة، قد خَرَجَت منها كفاحشةِ المعبد. حيث يُفتَحُ أولُ بيتِ دعارة في المدائنِ السومرية، وتُرَفَّعُ المرأةُ من مرتبةِ فاحشةِ المعبدِ إلى جاريةِ القصر. كما أنها أداةٌ وعبدٌ لا غنى عنه في الأسواقِ التجارية. بينما باتت عبدةَ شؤونِ المنزلِ فحسب في المدنيةِ الإغريقيةِ – الرومانية، ولا مكانَ لها في السياسة. أما في المدنيةِ الأوروبية، فهي أداةٌ جنسيّةٌ تابعةٌ للرجلِ بالتعاقد. وفي المدنيةِ الرأسماليةِ هي عاهرةٌ كونيةٌ عمومية. هكذا اكتسَبَ التاريخُ بُنيةً ومعنىً جنسوياً بكلِّ معنى الكلمة من خلالِ الرجلِ الحاكم، ليسيرَ بعدَها رَجُلاً.
ينعكس تأنيثُ المرأة (أي عبوديتَها) كما هو تسلسلياً على المواضيعِ والوسائلِ الرجوليةِ في المجتمعِ المُستَغَلِّ والمُعَرَّضِ للقمعِ والاضطهاد. فبينما تنتقلُ الزمرةُ الفوقيةُ السياسيةُ والعسكريةُ والرهبانُ في المجتمعِ إلى مرتبةِ الجنسويةِ الحاكمة، فإنّ الشرائحَ التحتيةَ المحكومةَ تُستَأنَثُ تدريجياً. يُدَرَّبُ الرجلُ في المجتمعِ الإغريقيِّ – الرومانيِّ بسلوكياتٍ جنسويةٍ تعصبيةٍ كثيفةٍ بدءاً من عمرِ الشباب. هكذا تَستَفحِلُ الانحرافاتُ الجنسيةُ بنطاقٍ واسعٍ على مرِّ عصورِ المدنيةِ حصيلةَ التعامُلِ الجنسويِّ إزاءَ المرأة. بالتالي، وبقدرِ ما تَغدو المرأةُ عَبدة، فالرجلُ العبدُ أيضاً يصبحُ بالمِثلِ أنثى أو زوجةً خانعةً.
ولدى إضافةِ القضايا الناجمةِ عن أجهزةِ القمعِ والاستغلالِ الرأسماليِّ الراهنِ أيضاً إلى تلك القضايا ذاتِ الجذورِ التاريخية، يغدو لا مَهرَبَ للمرأةِ من عيشِ حياةٍ يَسودُها الكابوسُ المُرعِبُ حقاً في المجتمعِ الشرقِ أوسطيّ. فأنْ تَكُونَ امرأةً ربما يعني أنْ تَكُونَ إنساناً في أحلَكِ الظروفِ وأَعسَرِها. ذلك أنَّ أَشَدَّ درجاتِ القمعِ والاستغلالِ الفظِّ الذي يعانيه المجتمع، يتم تطبيقُها على جسدِ وكدحِ المرأة. أما كونُ المرأةِ أيضاً إنساناً، فيتم إدراكُه حديثاً. لقد حانَ وقتُ تَخَلّي التعامُلِ الجنسويِّ المتصلبِ الذليلِ عن مكانه للحاجةِ إلى البحثِ عن صديقٍ ورفيق. أو يَدُورُ جدالُ ذلك على الأقل. ينبغي المعرفةَ أنه يستحيلُ عيشُ حياةٍ ثمينةٍ ذاتِ معنى، ما لَم يتحققْ عيشٌ سليمٌ مع المرأةِ ضمن المجتمع. علينا صياغةَ أقوالنا وتطويرَ ممارساتنا بالإدراكِ بأنّ الحياةَ الأثمنَ والأجملَ يمكنُ تحقيقُها مع المرأةِ الحرةِ المتمتعةِ تماماً بكرامتِها وعِزَّتِها.
إن القول بأن واقع المرأة يحدِّد الواقع الاجتماعي بنسبة كبرى، هو اقتراح صائب. تُشكِّل الذكورة المفرطة والأنوثة المفرطة ثنائية (قريناً) جدلية في المجتمع الشرق أوسطي. وما يرجع إلى الرجل من هذا النمط من العلاقات، ليس سوى خصائص مضادة تتمثل في الرجولة المهيمنة الجوفاء. حيث يعكس الرجل الهيمنة التي تطبقها السلطة عليه، على المرأة، لتعكسها هي بدورها على الأطفال. بالتالي، تكتمل فاعلية الهيمنة من الأعلى نحو الأسفل. يسفر مستوى عبودية المرأة في هذه الآلية عن أكثر الظروف سلبية وسوءاً. أي أنه يطِّور على الدوام من مستوى عبودية المجتمع. هكذا يصبح بإمكان حزام السلطة الأعلى توجيه المجتمع الأنثوي المتولد، بكل سهولة. أما المرأة، ورغم الظلم القاسي المفروض عليها رغماً عن إرادتها؛ فقد تحولت إلى وسيلة لتطبيق الظلم الأكبر على المجتمع أيضاً. جلي كل الجلاء مدى الصعوبة التي يلاقيها الشرق الأوسط من الداخل، بسبب العلاقات المفروضة على المرأة، بقدر الصعوبات الناجمة عن العلاقات الخارجية المفروضة عليه، والمقحِمة إياه في الاستسلام والخنوع. انطلاقاً من هذه البواعث، فإن فرصة أي حركة في بلوغ المجتمع الجوهري والحر الراسخ، تكون محدودة ما لم تعتمد على عملية حرية المرأة. وعجز التوجهات المنادية ببلوغ السلطة والاشتراكية والتحرر الوطني وغيرها أولاً، عن الوفاء بوعودها وتحقيق المراد؛ إنما يَمُتّ بِصِلة بهذه الحقيقة. يشكل نضال حرية المرأة مضمون المساواة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان العامة، والتي تتجاوز إلى حد كبير إطار المساواة الجنسية.
تتمثل الخطوة الأولى الواجب خطوها على درب حرية المرأة في إيصالها إلى حالة قوة عملياتية جوهرية، والابتعاد عن المواقف التملكية المفروضة عليها. فمواقف العشق الدارجة كالموضة، والمشحونة بعواطف المُلكية، تحمل بين ثناياها العديد من المخاطر والمهالك. العشق في المجتمع الذي تشيع فيه التقاليد الهرمية والدولتية، هو عبارة عن أفظع المغالطات والمخادعات. وهو العامل المؤثر في مواراة الذنوب المقتَرفة. يمر تقدير المرأة واحترامها، ومؤازرة حريتها أولاً من الاعتراف بالواقع المعاش، ومن إبداء الصدق والأمانة الحقيقيين في تجاوزه لصالح الحرية. حيث لا يمكن لرجل أن يتمتع بقيم الحرية السليمة، ما دام يُحُيي رجولته المهيمنة أياً كان اسمها في المرأة. ولربما كان تأمين تعزيز المرأة وتقويتها من الناحية الجسدية والروحية والذهنية، هو أثمن المحاولات والمساعي الثورية. أما إيصال المرأة إلى قوة إعطاء القرار وتحديد الاختيار باستقلالية وحرية على خلفية القيم الاجتماعية المتطورة، ومساهمتها في ذلك؛ فيتطلب بسالة حقيقية في الحرية، ضمن ثقافة الشرق الأوسط التي كانت نواة قوة الإلهة الأم في وقت من الأوقات.
لقد أضاعَ النظامُ منذ زمنٍ بعيدٍ فرصةَ تقويمِ نفسِه بالإصلاح. فما يَلزَمُ هو ثورةٌ نسائيةٌ ستُسَيَّرُ في كافةِ الحقولِ الاجتماعية. وكيفما أنّ عبوديةَ المرأةِ هي أعمقُ العبوديات، فثورةُ المرأةِ أيضاً ينبغي أنْ تَكُونَ أعمقَ ثوراتِ الحريةِ والمساواة، حيث تتطلبُ الانطلاقاتِ الأكثرَ جذريةً نظرياً وعملياً على السواء. يجب أولاً خوض صراعٍ متعاقبٍ ومتواصلٍ في وجهِ الأيديولوجيةِ الجنسانية. وثورةُ المرأةِ تقتضي تجذيرَ الحربِ أخلاقياً وسياسياً تجاه عقليةِ الاغتصابِ السائرةِ على مدارِ الساعة. كما وتستَوجبُ رفضَ وتنديدَ ظاهرةِ إنجابِ الأطفالِ بهدفِ السلطةِ والاستغلال، وتركَ موضوعِ إنجابِ الأطفالِ تماماً لإرادةِ المرأةِ المتحررة. إنها تتطلبُ الثورةَ في أيديولوجيةِ السلالةِ والأسرة. ويَبدو فيما يَبدو أنّ الأهمَّ من كلِّ ذلك أنها تقتضي تجاوُز فلسفةِ – أو بالأصحِّ لافلسفةِ – الحياةِ الحاليةِ مع المرأة. إذ ينبغي عدمَ تقييمِ قوةِ العيشِ مع المرأةِ ارتباطاً بمفهومِ امتلاكِ الأطفالِ وتغطيةِ الشهوةِ الجنسية، بل النظر إلى أنها تَكمنُ في إثمارِ الجمالِ والإخلاصِ والسِّلمِ والنُّبل، وفي وتشاطُرِ ذلك بِعَدلٍ وحرية، باعتبارِها أمتَنَ أواصرِ الصداقةِ والرفاقيةِ والمجتمعية.
ما من شكٍّ في أنّ التشاطُرَ العادِلَ والحرَّ للحياةِ مع المرأة، يقتضي المعرفةَ المتبادَلةَ للحقيقةِ الاجتماعيةِ ذاتِ المسارِ الصحيحِ بالتأكيد. فالعشقُ الحقيقيُّ لا يُعاشُ، إلا ضمن توازنِ قوى الحقيقةِ الاجتماعيةِ بمنوالٍ متبادَل. لذا، لا يُمكِنُ تَحَقُّق العشقِ إطلاقاً في الشخصياتِ المُلَوَّثةِ بالعبوديةِ والاغتصابِ والسلطة. والتجاربُ الفاشلةُ المتواصلةُ والمُعاشةُ مِراراً، وحالاتُ إفلاسِ الأسرةِ تؤكِّدُ مصداقيةَ هذه الحقيقة. ففي حالِ تَحَلّي المرأةِ أيضاً بالقوةِ والمعرفةِ الاجتماعيتَين بقدرِ الرجلِّ على أقلِّ تقدير، سيَكُونُ بالإمكان عيش الحبِّ والجمالِ بإنتاجِهما وتَشاطُرِهما بلا سلطة، وضمن أجواءٍ تَسودُها المساواةُ والحريةُ والسلام. وراهنُنا، أي القرن الحادي والعشرون، يَشتَرِطُ إيلاءَ الأولويةِ لثورةِ المرأةِ بالتأكيد. وشعارُ إما الحياةُ أو البربرية يَفرضُ إنجازَ هذه الثورة.
ومثلما لمجتمعِ الشرقِ الأوسطِ حاجةٌ بثورةٍ زراعيةٍ – قرويةٍ ثانية، فهو بحاجةٍ إلى ثورةٍ نسائيةٍ ثانيةٍ أيضاً. النظامُ الأموميُّ هو ثورةُ العصرِ النيوليتيِّ النسائية. أو بالأحرى، الثورةُ النيوليتيةُ الرائعةُ كانت ثورةً نسائية. وهي ثورةٌ لا تزالُ البشريةُ تَقتاتُ على إرثِها. في حين أنّ النظامَ الأبويَّ هو ثورةُ المدنيةِ والحداثةِ المضادةُ المبنيةُ على انحسارِ المجتمعِ الطبيعيّ، والمُوَلِّدِ لأعمقِ درجاتِ عبوديةِ المرأةِ واستغلالِها، والمُوَسِّعِ إياها في كافةِ صفوفِ المجتمع. لكنّ هذه الثورةَ المضادةَ الكبرى تَشهَدُ في يومِنا أزمتَها الممنهجةَ وحالةَ الفوضى في جميعِ الميادين الاجتماعية، وتُعاني الانحلالَ والانهيار. يُفهَمُ من ذلك أنّ ما فُرِضَ على المرأةِ هو خيانةُ الحياة. من هنا، ولَئِنْ يُرادُ حياةً قَيِّمةً بالفعل، فيجب أولاً إعادة إنتاج مشاعرِ الجمالِ والجَلال، والنجاح في تشاطُرِها ضمن توازنِ القوى بالمعرفةِ المتبادلةِ مع المرأة. ويجب إنشاء هذا الواقعِ وبلوغ حقيقتِه. كما وينبغي في هذا المضمار أنْ يتمَّ عيشُ الواحديةِ والكونية، أي عيشُ الحالةِ العَينِيّةِ للمرأةِ والرجلِ والحالةِ المجردةِ المُثلى للذكورةِ والأنوثةِ معاً وبالتداخل. ولأجلِ عيشِ ذلك، يتوجب تكوين وعيِه وإرادتِه. في حين يجب التخلي عن بعضِهما جذرياً من زاويةِ المُلكيةِ والتَّمَلُّك. كما ويجب جعل جاذبيةِ الجمالِ والشخصيةِ الأصيلةِ ساريةً بدلاً من مفهومِ الشرفِ التقليديّ.
تحريرُ الحياةِ مستحيل، ما لَم تُعَشْ ثورةٌ نسائيةٌ جذرية، وبالتالي، ما لَم يَتَحَقَّقْ التغيرُ الجذريُّ في عقليةِ وحياةِ الرجل. ذلك أنّ الحياةَ بِحَدِّ ذاتِها ستتحولُ إلى سَراب، ما لَم تتحررْ المرأةُ بصفتِها قمةَ الحياة. كما ستظَلُّ السعادةُ خيالاً أجوفاً، ما لَم تَتَحَقَّقْ مسالمةُ الرجلِ مع الحياة، والحياةِ مع المرأة. لا حدود للحقائقِ الاجتماعيةِ بشأنِ المرأةِ والحياةِ الحرة. لكنّ المجتمعَ والمرأةَ الشرقَ أوسطيَّين أُسقِطا بما فيه الكفاية، وأُخرِجا من كَينونتِهما، وصُيِّرا بمثابةِ موضوعٍ شيئيٍّ على يَدِ المدنيةِ التي عاشاها، والحداثةِ التي تَعَرَّضا لِغَزوِها. من هنا، فتحليلُ القضية الاجتماعيةِ عبر المرأة، والتوجُّهُ صوبَ حلِّها أيضاً عن طريقِ الظاهرةِ عينِها؛ إنما هو أسلوبٌ صحيح. ولا يُمكِنُ بلوغ الحقيقةِ بِخُطى سديدةٍ فيما يتعلقُ بِأُمِّ القضايا، إلا بفرضِ ثورةِ المرأة، التي هي أُمُّ الحلول.
تتميزُ العصرانيةُ الديمقراطيةُ بالإصرارِ والنموذجيةِ والعملياتيةِ في سياقِ قضيةِ المرأةِ وثورتِها. فالمشاريعُ التي تشتَمِلُ عليها عناصرُ العصرانيةِ الديمقراطية، لا تُخَطَّطُ أو تُنَفَّذُ من دون المرأة. وبالعكس، إنها مشاريعٌ بمثابةِ ثوراتٍ سوف تتحققُ في كلِّ خطوةٍ من خُطاها بمشاطَرةِ الحِكمةِ والممارسةِ العمليةِ مع المرأة. فكيفما تَحَقَّقَ بناءُ المجتمعِ الاقتصاديِّ بريادةِ المرأة، فإعادةُ بنائِه أيضاً تقتضي القوةَ الكوموناليةَ للمرأة. ذلك أنّ الاقتصادَ مِهنةُ المرأةِ الاجتماعيةُ وممارستُها الذاتية. أما الأيكولوجيا، فهي علمٌ لا يُمكِنُ تحقيق التقائِه مع المجتمع، إلا بِنَباهةِ المرأةِ ويَقَظَتِها. فالمرأةُ بيئويةٌ على صعيدِ الهوية. كما أنّ المجتمعَ الديمقراطيَّ مجتمعٌ يتطلبُ ذهنَ المرأةِ وإرادتَها الحرة. وبمنتهى الصراحة، فالعصرانيةُ الديمقراطيةُ هي عصرُ ثورةِ المرأةِ وحضارتِها.[1]