وحدة الدراسات التركية
أصبح التحالف المستتر منذ عقد تقريباً بين حزب الدعوة الحرة- هدى بار (المنبثق عن حزب الله التركي) والرئيس رجب طيب أردوغان، رسمياً، بفعل التراجع الكبير في شعبية الأخير وشعوره بخطر الإقصاء عن السلطة، ما اضطره إلى ترشيح أربع شخصيات من حزب الله على لوائح حزب العدالة والتنمية الحاكم في الانتخابات النيابية، مقابل النسبة الضئيلة جداً لأصوات حزب الدعوة الحرة، وهو الاسم الذي اختاره الحزب لنفسه بعد إدراج “حزب الله” في قائمة المنظّمات الإرهابية في عملية أشبه بتحوّل جبهة النصرة في سوريا إلى هيئة تحرير الشام.
أعاد هذا التحالف العلني اسم “حزب الله” إلى التداول مجدداً، وتسليط الضوء عليه، لكن قلة قليلة من وسائل الإعلام الغربية تطرقت إلى ماضيه الدموي وخلفيّات تأسيسه وتحالفه مع الأجهزة الاستخباراتية والدولة العميقة في تركيا، وهو ما سنستعرضه في هذه الورقة التي ستتطرق إلى ظروف نشأة الحزب وأسسه الإيديولوجية وأبرز حوادث العنف، وصولاً إلى تحوّله إلى حزب سياسي يحاول الحصول على جزء من أصوات الكرد المحافظين في انتخابات الشهر المقبل.
نشأة التنظيم
من المعروف أن حزب الدعوة الحرّة (HUDA Par)، الذي أعلن دعمه لأردوغان في الانتخابات، هو النسخة المحدّثة لحزب الله التركي، الذي يعتبر منظمة إرهابية في تركيا وعدد من الدول الغربية.
تأسس حزب الله التركي عام 1979 في ولاية باطمان، من قبل حسين ولي أوغلو، خريج كلية العلوم السياسية في جامعة أنقرة، قسم المالية. بدأ مؤسسو المنظّمة بعقد اجتماعاتهم في مكتبة الوحدة (Vahdet) في آمد بين 1979-1980. افتتح ولي أوغلو لاحقاً مكتبة العلم عام 1982.
على الرغم من اتّهام المنظمة، التي أعلنت معارضتها للنظام الجمهوري التركي، بالسعي لإقامة دولة إسلامية قائمة على مبادئ الشريعة من خلال الإطاحة بالنظام الدستوري القائم، إلا أن الكثير من الباحثين والأكاديميين الأتراك يؤكدون أن الهدف من تأسيس الحزب في الأساس كان ضرب الحركة القومية الكردية، استناداً على عدد من الحقائق التاريخية أهمها:
ركّز حزب الله عملياته في المناطق ذات الغالبية الكردية فقط في البلاد، على الرغم من أن أهداف قلب النظام الجمهوري وإحلال الخلافة كانت لتستوجب العمل في العاصمة والميتروبولات الكبرى ومناطق الجذب السياسي بل وحتى الدبلوماسي، بعيداً عن الولايات والمدن الكردية النائية، التي لا تعرف من النظام الجمهوري التركي سوى الوالي والبيروقراطية الحكومية.
استهدف الحزب طوال سنوات تبنيه العنف المسلح العصاباتي، الشخصيات الاقتصادية والأكاديمية والفكرية والنشطاء الكرد فقط، خاصة من المنتمين للتيارات السياسية والفكرية التحررية، والذين يناهضون أيضاً مشروع الجمهورية الذي أسسه مصطفى كمال متجاهلاً حقوقهم السياسية والثقافية لتقوم الحكومات المتلاحقة على مدى عقود بممارسة كافة أنواع السلب الثقافي والاقتصادي على سكّان تلك المناطق في محاولة لإفقارهم وحضّهم على الهجرة.
حصل حزب الله على دعم مادي ولوجستي من قبل مؤسسات الجمهورية التي يفترض معاداته لها كما سنبين في سياق هذه الدراسة، خاصة من قبل المؤسسة العسكرية التركية، التي كان الحفاظ على النظام العلماني والجمهوري لتركيا من أبرز أهدافها المعلنة، وشكّلت أساس التحركات الانقلابية العسكرية التي قامت بها على مدى العقود الماضية.
تعرّف الرأي العام في تركيا على اسم حزب الله في مطلع التسعينيات. بالتزامن مع إعلان حزب العمال الكردستاني الكفاح المسلّح من أجل حقوق الشعب الكردي، نفّذت جماعة حزب الله سلسلة من أعمال العنف المروعة خاصة في شمال كردستان.
نشاط التنظيم
أعلن التنظيم النشاط المسلح ضد الحركات السياسية الكردية، خاصة حزب العمال الكردستاني، بداعي أن حزب العمال منظمة ماركسية، ليمتد عنف من باطمان وآمد إلى باغلار وسيلفان، ومن ثم ماردين وأورفا. وبدأ جرائمه التي بقيت تحت مسمى «مجهولة الفاعل» بخطف أشخاص وصفهم ب«أنصار حزب العمال الكردستاني» في باطمان. ومنذ عام 1992، كان الناس يتعرضون للخطف في المدينة بشكل يومي، خاصة في ساعات المساء. جزء كبير من أولئك الذين اختطفوا واختفوا في باطمان بين 1992-1995 كانوا من رجال الدين الرافضين لمنهج حزب الله العنيف. بعد فترة، بدأ حزب العمال الكردستاني بالرد على هذه الجرائم منفّذاً عمليات ضد عناصر حزب الله ومقرّاته.
في آمد، قتلت المنظّمة 23 شخصاً برصاص من الخلف بمسدس من طراز تاكاروف. في عام 1994، اغتالت نائب حزب العمل الشعبي (HEP) محمد سنجار، كما اغتالت خالد غونجن، مراسل آمد عن «2000 دوغرو»، التي نشرت قبل يومين من الجريمة مقالاً حول تلقّي مسلحي المنظّمة الإرهابية لتدريبات عسكرية داخل مركز قوات مكافحة الشغب التابع للشرطة التركية.
كما استهدفت المنظّمة بشكل مركز كتاب وصحافيي «أوزغور غوندم» والصحف والمجلات المتبنّية لذات الفكر. في عام 1992، قتل حزب الله مراسل «يني أولكه» جنكيز ألتون ومراسلي «أوزغور غوندم» حافظ أكدمير ويحيى أورهان وجتين أبيباي. كما قتل حزب الله الكتاب الإسلاميين الذين انتقدوا عمليات التنظيم العنيفة.
غالباً ما اختار مسلّحو التنظيم الاختطاف أولاً، بدلاً من شن هجمات مسلّحة على هدفهم. قاموا ببناء الملاجئ الترابية تحت المنازل في القرى ومراكز المدن في باطمان والولايات الأخرى ونقل المختطفين إليها وتقييدهم بسلاسل مجهّزة خصيصاً لذلك الهدف. كان المخطوفون يحصلون على الخبز فقط لمرة واحدة يومياً بهدف إبقائهم على قيد الحياة أثناء التحقيقات التي كان يتم تصويرها عبر أشرطة صوتية وفي بعض الأحيان مرئية، وتحويلها إلى الأعلى وفقاً للتسلسل الهرمي التنظيمي، ليتم إقرار مصيرهم من قبل المسؤولين في المراتب العليا. مات معظم الأشخاص الذين تم استجوابهم نتيجة التعذيب الشديد، إذ تم دفنهم في الحدائق وأقبية الأبنية التي كانت تستخدم كمراكز احتجاز.
أما العلامة الفارقة التي ميّزت التنظيم في وحشيّته فهي جرائم القتل باستخدام طريقة تعذيب تسمى «ربطة الخنازير»، إذ يتم تثبيت الشخص على وجهه، وثني قدميه من الردفين ورفعها، وربط قدميه بالحبل وربط الطرف الآخر من الحبل برقبة الشخص. ومع تدفق الدم المتراكم في الأرجل المثنية للشخص نحو الأمام بشدة، تعجز العضلات عن إيقافه فتبدأ الساق في الانفتاح تدريجياً ليؤدي إلى خنق الشخص لنفسه بشكل لا إرادي. تعرّض المخطوفون من قبل هذا الحزب للتقييد بطريقة ربطة الخنازير، وتم تسجيل تلك المشاهد بالكاميرا. من بين هؤلاء الكاتبة الإسلامية كونجا كوريش التي اختطفت عام 1998 وعثر على جثّتها، بعد تعرّضها للتعذيب لمدة 38 يوماً، مدفونة في قبو منزل في قونيا بعد 555 يوماً، بسبب انتقادها نهج التنظيم وجرائمه.
حتى منتصف تسعينات القرن الماضي، قدّر عدد الجرائم التي ارتكبها التنظيم بنحو 700 دخلت تاريخ تركيا تحت اسم «الجرائم مجهولة الفاعل» ولم يتم الإفصاح عنها حتى اليوم، إلا من قبل بعض الأصوات التي بدأت مؤخراً في التكلّم والكشف عن أسرار تلك الحقبة المظلمة.
علاقة التنظيم بالدولة التركية
أدلى فكري ساغلار، السياسي التركي والبرلماني العضو في لجنة التحقيق في فضيحة «سوسورلوك» المشكّلة من قبل البرلمان التركي بتصريحات ل«DW Turkish» حول علاقة تنظيم حزب الله بالدولة التركية قال فيها: «يُقال إن حزب الله تأسس بدعم من الدولة لمحاربة حزب العمال الكردستاني في ذلك الوقت، وهذه المعلومة وردت في كل من تقارير لجنة التحقيق في جرائم القتل مجهولة الفاعل التي لم يتم حلها وتقرير لجنة سوسورلوك في البرلمان». كما كشفت التقارير عن تأسيس قوّة مؤلفة من 800 مسلح في باطمان في عهد الرئيس سليمان ديميريل، الذي اتّبع سياسة «عدو عدوي صديقي».
اعترف جيم إرسيفر، أحد مؤسسي «JİTEM» (قيادة استخبارات الدرك) في مقابلة بأن قوات الأمن التركية كانت تحمي وتدعم حزب الله. كما اعترف العقيد المتقاعد عارف دوغان، أحد مؤسسي JİTEM ، في مقابلة مع الإعلامي المخضرم محمد علي بيراند في برنامج «32 غون» بأنه هو من أسس حزب الله قائلاً خلال اللقاء «أنا أيضاً أسست حزب الكونترا (في إشارة إلى حزب الله)».
وكشف أحد العملاء السابقين داخل صفوف الحزب في مقابلة مع موقع «دي هابر» التركي عن علاقة الحزب ب«جيتم». كما اعترف العميل الذي لم يكشف الموقع عن اسمه عن مخطط لاغتيال حزب الله للمفكّر الكردي موسى عنتر قائلاً إن «خطأ حدث في اللحظة الأخيرة أدى إلى فشل الحزب في اغتياله فقام بالمهمّة عوضاً عنه أفراد من جيتم».
تصفية حزب الله
بدأت تصفية حزب الله التركي بعد تعاظم نتائج فضيحة «سوسورلوك»، التي ظهرت بعد حادثة تحطم سيارة في 3 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1996، بالقرب من بلدة سوسورلوك بمحافظة باليكيسير، حيث توفي نائب قائد شرطة إسطنبول وبرلماني متزعم لقبيلة كردية قوية، وزعيم تنظيم الذئاب الرمادية وقاتل مأجور مطلوب للشرطة الدولية.
تؤكد معظم الأبحاث والدراسات والكتب التي صدرت حول هذه القضية بأن تصفية التنظيم تزامن مع إلغاء «جيتيم». نفّذت قوات الأمن التركية عمليّتها الأولى ضد حزب الله في قرية يولاش في سيلفان التي كانت تعتبر أحد أبرز بؤر التنظيم، واعتقلت ما يقرب من ألف شخص في عمليات نفّذت أيضاً في آمد وباطمان وماردين بين عامي 1996 و1999، عثرت خلالها على ترسانات بأسلحة مختلفة، والأهم من ذلك، على ملاجئ ومقابر للمخطوفين ومجهولي المصير.
بحلول عام 2000، كانت الشرطة اعتقلت ما يقرب من ألفي شخص. وتم في ضوء المعلومات التي قدّموها حل 75 جريمة قتل، فيما اكتسبت عمليات ملاحقة التنظيم من قبل السلطات زخماً مع تعيين الضابط جعفر أوكان قائداً لشرطة آمد.
في عملية المداهمة التي تمت في 17 يناير/كانون الثاني 2000 في اسطنبول، اندلع اشتباك قُتل خلاله مؤسس التنظيم حسين ولي أوغلو ، وتم القبض على اثنين من رفاقه أحياء: أديب غوموش وجمال توتار. أدى القبض على هؤلاء وقتل حسين ولي أوغلو إلى تصفية حزب الله.
وفي 24 يناير/كانون الثاني 2001، تعرّضت سيارة أوكان لهجوم بقنبلة يدوية ثم وابل من الرصاص من قبل 18-19 شخصاً ما أودى بحياته وخمسة ضباط شرطة آخرين. وأحدثت الواقعة هزّة في الرأي العام التركي. وبعد الحادثة، اعتقل 26 مسلّحاً من مقاتلي حزب الله، وخضعوا لمحاكمات طويلة انتهت بالإفراج عن معظمهم إما لانقضاء مهل أحاكمهم، والكثير منهم بمراسيم عفو متتالية.
حركة «المستضعفين» النسخة المعدّلة من حزب الله
بعد اغتيال الضابط جعفر أوكان، لم يعد اسم حزب الله قابلاً للاستخدام، ما دفع بالحزب إلى الإعلان عن إيقاف أنشطته المسلحة في 2002. ومع عودة المعتقلين والهاربين خارج الحدود إلى المحافظات الكردية مثل آمد وباطمان، أنشأ الحزب جمعية تحولت لاحقاً إلى حركة بإسم «المستضعفين»، لكن تم إغلاق الجمعية في 2010 بسبب ارتباطها بحزب الله. بحلول عام 2012، دخل حزب الله إلى الساحة السياسية بتأسيس حزب الدعوة الحرّة. غيّر الحزب، الذي رفض النظام الجمهوري التركي في الأيام الأولى لظهوره، موقفه لاحقاً، وشهد تحوّلاً في آرائه السياسية بعد التأسيس.
كانت إحدى نقاط التحول في تاريخ حزب الله التركي- الكردي، مصادرة وثائق سرية تخصه، إذ تم ضبط حوالى 20 ألف صفحة من الوثائق السرية في العمليات التي نفذت في آمد وماردين وباطمان عام 1999، وعملية بيكوز في اسطنبول عام 2000 والتي أودت بحياة زعيم التنظيم. أدّى الأرشيف الذي تم الاستيلاء عليه خلال هذه العمليات إلى شلل تحرّكات التنظيم وفك رموزه. حاول التنظيم الرّد على ذلك من خلال إصدار الكتب والمجلات وتصميم المواقع الالكترونية، لكنه لم ينجح.
أسس التنظيم حركة «المستضعفين» لنقل أنشطته إلى الساحة المدنية، من خلال التعريف عن نفسه هذه المرّة كمنظمة مدنية وقانونية منفتحة، لا منظّمة سرية وإجرامية. ولفتت الحركة الانتباه بفعاليات المولد النبوي التي نظمتها في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية. كما كان الاحتجاج الذي أقيم في آمد بمشاركة ما يقرب من 130 ألف شخص بعد نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة بحق النبي محمد في الدنمارك، أبرز نشاطات الحركة.
في 2008، واجهت الحركة دعوى قضائية في المحكمة الإبتدائية المدنية الثانية في آمد. وجاء في لائحة الاتهام التي أعدتها النيابة العامة في آمد لإغلاق الحركة أن مؤسسي الحركة جميعهم من أعضاء حزب الله الذين خرجوا من سجن آمد، بوثائق تؤكد قيام الجمعية بأعمال تتماشى مع أهداف حزب الله المعلنة (إسقاط النظام الجمهوري وإعادة الخلافة). واختتمت القضية بتاريخ 9 فبراير/شباط بقرار حل «المستضعفين»، مع إبقاء باب الاستئناف مفتوحاً، إلى حين إقرار المحكمة العليا الإغلاق بقرار غير قابل للطعن عام 2012.
بعد قرار الإغلاق هذا، دعت الجمعية إلى تجمع «عهد الوفاء» في آمد بمشاركة قرابة 30 ألف شخص. خلال التجّمع الذي انعقد في 28 مايو/أيار 2012، صرّح رئيس الجمعية المغلقة حسين يلماز، بنيّته تشكيل تنظيم سياسي جديد، وأنه سيواصل أنشطته كحركة للمستضعفين. يمكن اعتبار هذه التصريحات على أنها أول علامة على تأسيس حزب الدعوة الحرّة في المستقبل.
تأسيس حزب الدعوة الحرة
في 2011، أطلقت محكمة النقض لأول مرة سراح 34 عضوا في المنظمة استناداً على عدم جواز طول فترة المحاكمة، ليتجاوز هذا الرقم فيما بعد المئة. بعد إطلاق سراحهم، هرب العديد من الشخصيات البارزة، كقادة في الحزب مثل أديب غوموش، زعيم التنظيم، وجمال توتار، المسؤول عن الجناح العسكري، إلى الخارج، وبقوا مطلوبين على قوائم الإرهاب الصادرة عن وزارة الداخلية التركية.
بالتزامن، عمل حزب الله بشكل منظم على تشكيل قاعدة شعبية له قبل تشكيل الحزب السياسي. في هذا السياق، يمكن اعتبار جهود عبد القادر توران، وسلسلة مقالاته المعنونة «أن تكون بديلاً في السياسة» بشأن ضرورة المأسسة، والتي نُشرت في مواقع إخبارية وصحف أسبوعية معروفة بقربها من حزب الله، تصب في مسار محاولة إقناع الجمهور الكردي المحافظ في البلاد بحدوث تحوّل في ذهنية الحزب مع التركيز على الأيديولوجيا الإسلامية.
وفي عام 2012 تم الإعلان عن تأسيس حزب الدعوة الحرة، مركّزاً على العمل عبر اتجاهين: مواصلة سياساته التي تخدم إيديولوجيّته الإسلامية من جهة، وتوليد خطاب ينفي علاقته مع حزب الله والإيحاء بوجود تقاطعات بين الفئات المستهدفة فقط.
تناوبت على زعامة حزب الدعوة الحرة أسماء كان لها باع طويل في العمل مع صفوف حزب الله، كما الحال بالنسبة للرئيس السابق للحزب، إسحاق ساغلام، الذي تولّى الدفاع عن معتقلي حزب الله. وفي مقابلة العام الماضي، رفض زعيم حزب الدعوة الحرة الحالي زكريا يابيجي أوغلو تسمية حزب الله بالمنظمة الإرهابية، ما شكّل صدمة لدى جمهور كبير من مؤيدي الحزب الذين كانوا يقاتلون من أجل إبعاد توصيف «الجناح السياسي لحزب الله» عن حزبهم.
ويشار إلى أن من بين المحكومين في دعاوى حزب الله: النائب السابق لرئيس الحزب محمد بهاء الدين تيميل، وأعضاء من القيادات: سعيد شاهين، عبد الصمد يالتشين، والمرشح النيابي السابق عن اسطنبول فكرت غولتكين، والرئيس السابق لفرع آمد وعضو مجلس الإدارة العامة شيخموس تانريكولو، ورئيس فرع باطمان داوود شاهين، وعضو الإدارة العامة عبد محمود إرتيم مصطفى دورغون، ورئيس مجلس شورى الحزب وأعضاء المجلس الاستشاري أحمد سييتوغلو وفوزي غولتكين ومحمد فاتح أونال، وأعضاء اللجنة التأديبية المركزية فضل عاني وناظم إبريم وعبد الرحمن إكينجي وإنور كليتشارسلان ومصطفى دورغون والكثيرين غيرهم، بالإضافة إلى مرشحين نيابيين مثل محمد علي دويار ومحمد سعيد رزقر وصالح برلاك وغيرهم. كما يشار أيضاً إلى أن عبد القدوس يالتشين، عضو اتحاد العلماء الذي شكّله مدانون سابقون في حزب الله، يبث برامج دينية مباشرة على قناة «تي آر تي» الحكومية الناطقة باللغة الكردية.
مع اندلاع التوترات بين حزب الله وحزب العمال الكردستاني في آمد عام 2015، والتي أدت إلى مقتل رئيس «جمعية الإحياء» التابعة لحزب الله أيتاج باران، خرج رئيس فرع حزب الدعوة الحرة شيخموس تانريكولو، المعتقل سابقاً بتهمة العضوية لحزب الله، ببيان لافت قال فيه: «إذا وجّه حزب الشعوب الديمقراطي نداء إلى العمال الكردستاني بترك السلاح، سنوجّه نحن أيضاً ذات النداء لحزب الله. لكن مع وجود السلاح (لدى حزب العمال الكردستاني)، وكل الاحتمالات، لا يمكن لأحد أن يطالبنا بالاكتفاء برؤية قتل المسلمين كأضاحي وعدم الدفاع عن أنفسنا. لقد مضت تلك الفترة. على الجميع أن يدرك هذه الحقيقة».
الشراكة الاستراتيجية بين حزب الله وحكومة أردوغان
على الرغم من نفي حزب الدعوة الحرة تلقّيه دعماً من الدولة، إلا أن التعاون والشراكة الاستراتيجية بينه وحكومة حزب العدالة والتنمية كان واضحاً في دعم الحزب لقوائم الحكومة في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2015. وأصبح التحالف أكثر أهمية بالنسبة إلى أردوغان عندما فقد حزب العدالة والتنمية الأغلبية في انتخابات يونيو/حزيران 2015 لأول مرة منذ حكمه البالغ 13 عاماً. ولدعم حزب أردوغان، لم يقدّم حزب الله مرشّحين في الانتخابات في الولايات الكردية، داعماً مرشّحي حزب العدالة والتنمية مقابل إطلاق سراح المزيد من مقاتلي حزب الله من السجون وحصول بعض أعضائه على مناصب رئيسية في الدوائر الحكومية، خاصة لملء الفراغ في البيروقراطية بعد عملية التطهير الكبيرة لأتباع تنظيم الداعية الإسلامي فتح الله غولن. على سبيل المثال، تم اعتقال القاضي دوندار اورسديمير، القاضي الرئيسي للمحكمة الجنائية الحادية عشرة في أنقرة التي نظرت في دعوى حزب الله عام 2009، إذ تم اعتقاله مع القاضيين هاكان أوروج وقدرية جاتال من نفس اللجنة. وبالمثل، فإن ثلاثة قضاة وهم: بايرام ديميري وأيليا بولا يالس يالجين وإرفان يلدز- من قضاة دعوى حزب الله في عام 2008 في محكمة أدرنة السادسة – تم اعتقالهم بتهمة الانتماء إلى تنظيم غولن.
كما أن قاعدة حزب الله شكّلت الكتلة الرئيسية التي نزلت إلى الشوارع في المحافظات الجنوبية الشرقية في المسيرات الداعمة للحكومة والمناهضة للانقلاب وبعد محاولة الانقلاب في 2016، ليتحوّل “حزب الله، الذي عُرف بالقاتل المأجور لصالح الدولة العميقة في التسعينيات، إلى شريك استراتيجي للحكومة عبر قناة حزب الدعوة بعد عام 2010.
في استفتاء على الدستور في 2017، اشترط حزب الدعوة الحرة على الحكومة التركية إطلاق سراح عناصر حزب الله من السجن مقابل دعمه التعديل الدستوري الذي أقر تحوّل نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي كأحد مطالب أردوغان.
وبناء على هذا الاتّفاق، تم إطلاق سراح مئات المحكومين بتهمة الانتماء إلى تنظيم حزب الله من السجون التركية منذ عام 2017 وعلى مدار الأعوام التالية، استناداً على حجج مختلفة منها تبييض السجون خلال فترة وباء كورونا وإطالة فترة المحاكمات، وهي أسباب قانونية تم تطبيقها على أفراد الحزب فقط من دون أن تشمل شخصيات بتهم أخرى، أو حتى بالتهم ذاتها مع الانتساب إلى تنظيمات أخرى، كما هو الحال بالنسبة إلى أفراد حزب العمال الكردستاني الذين تم رفض جميع الطلبات المقدّمة من قبل محاميهم ليتم معاملتهم أسوة بمسلحي حزب الله.
في الانتخابات المقرر إجراؤها في 14 مايو/أيار المقبل، تقدّم حزب الرئيس أردوغان إلى المجلس الأعلى للانتخابات بلوائح تضم أربعة مرشّحين عن حزب الدعوة تم ترشيحهم من الولايات التي يتمتع فيها حزب العدالة والتنمية بدعم قوي، ما يعني ترجيح نجاحهم في دخول البرلمان. هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تمثيل حزب الله كجبهة سياسية في البرلمان التركي، وذلك كجزء من صفقة بين أردوغان وقيادة الحزب مقابل دعم رئاسة أردوغان.
لحزب الله حضور ضئيل بين الكرد. رغم ذلك، بهذه الصفقة، يأمل أردوغان في الحصول على دعم من الناخبين الكرد ضد حزب الشعوب الديمقراطي الذي يتنافس في الانتخابات تحت راية حزب اليسار الأخضر (YSP).
استغل حزب الله حاجة أردوغان إلى كل صوت للفوز في الانتخابات الرئاسية ضد المرشح المشترك لكتلة المعارضة كمال كليجدار أوغلو الذي يتفوق عليه بفارق ضئيل بحسب بيانات معظم استطلاع الرأي خلال الأشهر الأخيرة.
سياسيو حزب الله الأربعة الذين سيترشّحون على بطاقات حزب العدالة والتنمية هم زكريا يابجي أوغلو، رئيس حزب الدعوة الحرة عن الدائرة الانتخابية الثالثة في اسطنبول، وشاه زاده دمير، الأمين العام للحزب عن دائرة عنتاب، وسيركان رامانلي المتحدث باسم الحزب عن باطمان، وفاروق دينك، عضو المجلس التنفيذي للحزب عن مرسين.
من حيث الجماهيرية، فإن حزب الدعوة الحرة ليس حزباً شعبياً. في انتخابات 2018، حصل على 155.539 صوتاً فقط، أي 0.31 في المئة من إجمالي الأصوات، لكن، قد يساعد في ترجيح كفّة الميزان لصالح حزب العدالة والتنمية في الدوائر التي تشهد عادة منافسة حادة بينه وبين حزب الشعوب الديمقراطي، حيث يحمل كل صوت أهمية حاسمة.
بالإضافة إلى ذلك فإن التحالف مع حزب الدعوة سيساعد أردوغان على ترسيخ روايته الدينية بين الكرد المحافظين، والتي يبدو أنها تشكل دعامة حملته الانتخابية لهذا العام، إذ نصَب نفسه كحام للمسلمين ومدافع عن الإسلام ضد الغرب. وبمقدور حزب الله جذب نسبة من الكرد المحافظين بشكل أكبر من خلال استخدام مواضيع دينية مثل حوادث حرق القرآن في أوروبا والقضية الفلسطينية وغيرها.
من منظور أردوغان، فإن ما يعارضه حزب الدعوة الحرة يعتبر أكثر أهمية مما يمثّله جماهيرياً أو كثقل انتخابي. السمة الأكثر تميزاً لحزب الدعوة الحرة مناهضته العلمانية واعتباره جميع الأنظمة والإدارات التي لا يهيمن عليها الإسلام ولا تقبل بالقرآن كمصدر للشرعية بأنها «طاغوتية». بروز الواجهة الدينية للحزب، على حساب انتمائه القومي أو حتى الشعبوي الكردي، جعل منه سابقاً مؤيّداً للتصويت لحزب الحركة القومية التركي اليميني المتطرف على حساب التصويت لحزب الشعوب الديمقراطي «العلماني»، لأن المعيار البارز لدعم حزب الشعوب هو العلمانية، وهو الاتجاه الغالب، ليس بالنسبة إلى حزب الشعوب الديمقراطي فقط، بل لمعظم الأحزاب الكردية الأخرى، وإن كان بدرجة أقل، باستثناء «الدعوة الحرة»، وهو ما يحاول الرئيس التركي استغلاله.
من هنا، فإن الأولوية الواضحة لحزب الدعوة الحرة ليست القضية الكردية وحل المشكلات التي تسببت بها هذه القضية، بل الدين، فالحزب لا يتطرق إلى مناقشات من قبيل الإدارة الذاتية أو الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو أي نموذج مماثل، مكتفياً بالتعبير عن هويّته الكردية فقط من خلال ممارسة أنشطته السياسية وحتى صلوات أفراده باللغة الكردية.
تبنّى حزب الدعوة الحرة سياسة إسلامية تبرز أكثر من الهوية الكردية، وهو ما دفع بالكرد القوميين إلى الابتعاد عنه. كان الاعتقاد السائد من قبل حزب العدالة والتنمية هو إمكانية تأثير حزب الدعوة على الناخبين المحافظين في المناطق الكردية وكسب الأصوات التي لم يتمكّن حزب العدالة والتنمية من الحصول عليها بالسياسات الإسلامية، من خلال تركيز حزب الدعوة على الهوية الكردية بالإضافة إلى القيم الإسلامية. لكن نتائج الانتخابات المتتالية تشير إلى سقوط ذلك الاحتمال وتقلّص أي أمل في قدرة حزب الدعوة على إحداث تغيير في التوازنات السياسية في المنطقة.
في الأعوام الأخيرة، أطلقت حكومة حزب العدالة والتنمية حملة دعائية لإعادة تصور آمد كمدينة إسلامية وليست كردية، وعقدت ندوات ومؤتمرات تسلط الضوء على دورها في التاريخ الإسلامي المبكر والعدد الكبير من صحابة النبي محمد المدفونين في المدينة. ولكن، على الرغم من ذلك، غدا حزب الدعوة الحرة الحزب الثالث في انتخابات 2014 المحلية في آمد، حيث يفترض أنّه يتمتع فيها بقاعدة اجتماعية أقوى من الولايات الأخرى، فحصل على 4.6 في المئة من مجموع الأصوات. وفي عموم تركيا، حصل على 0.20 في المئة من مجموع الأصوات. لم ينجح الحزب في الحصول على المركز الأول في أي دائرة انتخابية في عموم البلاد. كما جاء أيضاً في المرتبة الثالثة في باطمان والرابعة في موش وبينغول. فشل الحزب أيضاً في إيصال أي نائب إلى البرلمان في انتخابات عام 2015. وفي الانتخابات العامة لعام 2018 حصل زعيم الحزب زكريا يابجي أوغلو على 4.43 في المئة (37.753) من الأصوات في آمد، ونائبه أيدين جوك على 5.46 في المئة من الأصوات (15.998) في باطمان متذيلين لوائح النتائج الانتخابية.
بالإضافة إلى هدف جذب الكرد المحافظين ومنع حزب الشعوب الديمقراطي من الحصول على أصواتهم، يهدف أردوغان من خلال تجنيد حزب الله كحليف له إلى إرسال إشارة إيجابية إلى إيران التي تدعم الحزب أيضاً. يكشف تقرير لمكتب تعقّب التمويل في شرطة آمد في 9 مايو/أيار 2012 حصول حزب الله على 100000 دولار شهرياً من إيران بالإضافة إلى مدفوعات مقطوعة مخصصة لنشاطات مختلفة مستقلة، فضلاً عن بعض الرواتب التي تدفع بشكل مباشر إلى قيادات الحزب. كما كشف التقرير أن إيران أنشأت وحدة خاصة في حزب الله للتجسس والمراقبة في تركيا لمراقبة الأنشطة العسكرية لحلف الناتو، حيث قامت إحدى وحدات المراقبة هذه بالتقاط صور وجمع معلومات لقاعدة رادار الحلف في ولاية ملاطيا.
بات لحزب الله اليوم واجهة سياسية متمثلة بحزب الدعوة الحرة ومؤسسات ووسائل إعلامية ومجموعات وجمعيات ومنظمات خيرية وشبكات اعمال خيرية آخذة بالتوسّع بشكل سريع في تركيا، خاصة في الولايات الكردية، وكذلك في مجموعة من الدول الأوروبية.
حزب الله وسيناريوهات الانتخابات
في البرنامج الانتخابي الذي أعلن عنه الحزب بعنوان «وثيقة رؤية عام 2023»، يلاحَظ التطابق الكبير في الوعود التي قدمها الحزب مع خطاب حزب العدالة والتنمية في العديد من المجالات. على سبيل المثل، يرى الحزب «ضرورة اتّخاذ الاجراءات القانونية اللازمة لمنع إهمال النساء لأسرهن أثناء عملهن»، في رؤية مشابهة للأصوات التي بدأت تتصاعد في «العدالة والتنمية» تطالب بأن تكون العائلة والمنزل أولوية النساء بدلاً من العمل. بالإضافة إلى ذلك، يتضمن برنامج «الدعوة الحرة» أهدافاً مثل «إدخال المدارس الدينية في برنامج التعليم الإلزامي»، وهي بنود جذبت ردود أفعال عنيفة من قبل المعارضة التركية، التي أعلنت بأنها «لن نسمح أبداً بالممارسات التمييزية والاستقطابية التي تحد من حق المرأة في الحياة وتهدف إلى منع الفتيات من الذهاب إلى المدرسة ودفع النساء إلى ترك ساحة العمل».
يُعتقد أن هناك حاليا أكثر من 20 منظمة غير حكومية مؤيدة لحزب الله تنشط في آمد وحدها. ولكن، على الرغم من ذلك، يتزايد الاعتقاد لدى شريحة واسعة من الأكاديميين والمحللين والصحافيين الأتراك بعدم قدرة حزب الدعوة الحرة على إحداث خرق عن الصورة المعتادة لوزنه الانتخابي في أي من الولايات ذات الغالبية الكردية، بسبب محدودية قدرته على مخاطبة المجتمع الكردي في تركيا، في ظل إمكانية جذبه للناخب المتشدد فقط، مقابل مؤشّرات على توجّه كتلة كبيرة من الناخبين الكرد المحافظين، وهي الكتلة التي يفترض على حزب الدعوة الحرة الحصول على أصواتها، للتصويت لحزب الشعوب الديمقراطي، الذي تبنّى خطاباً هادئاً لجهة القضايا الدينية حتى الآن، شرط عدم مغالاة الأخير في دعم قضايا جدلية بالنسبة إلى المحافظين.
من جهة أخرى، تتجه معظم التحليلات إلى التأكيد أن السبب وراء مشاركة حزب الحركة القومية اليميني المتطرف في الانتخابات بلوائح مستقلة، هو تحالف شريكه في حزب العدالة والتنمية مع «الحزب الكردي»، وهو ما اعتبره زعيم الحزب دولت باهتشيلي بأنه سيضر بكتلة ناخبيه أكثر من الفائدة المرجوة في جذب أصوات اضافية.
بالمقابل، فإن دخول نواب من «الحزب الكردي» إلى البرلمان، سيمنح الرئيس التركي، في حال فوزه في الانتخابات، قدرة أكبر على المناورة في مسألة حل القضية الكردية، عبر إشراك لاعبين سياسيين كرد جدد في الملف، وهذه المرّة من المعادين لحزب الشعوب الديمقراطي، الذي يعتبر الممثل الوحيد للكرد في تركيا داخل البرلمان التركي حتى اليوم.
ليس أردوغان وحده من يعوّل على إظهار البعد القومي الكردي للحزب، إذ تلقّى رئيس حزب الدعوة الحرة زكريا يابيجي أوغلو مكالمة هاتفية الأسبوع الماضي من الرئيس السابق لحكومة إقليم كردستان العراق وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، تلا ذلك لقاء بينهما في أربيل، ما يمكن اعتباره محاولة من قبل الزعيم الكردي لتصدير الهوية القومية للحزب إلى جانب هويّته الدينية الأساسية، وسط تركيز كبير من قبل وسائل الإعلام التابعة للإقليم على هذا التقاطع المريب بالنسبة للأوساط المؤيدة لحزب الشعوب والحركة القومية في شمال كردستان.[1]