خورشيد دلي
مرت العلاقات التركية – الكردية بمراحل مختلفة، وتحددت طبيعة هذه العلاقة تبعاً لظروف كل مرحلة، وفقاً لقوة كل طرف عسكرياً وإدارياً واجتماعياً ومالياً، حيث كانت السمة الغالبة لهذه العلاقة قبل قيام الدولة العثمانية هي احترام حكم الولايات التي كانت تتمتع باستقلالية كبيرة، وقد بقيت هذه السمة سائدة في العهود العباسية والسلجوقية والمملوكية والأيوبية إلى أن ظهرت الدولة العثمانية ومعها أحلام السلاطين بالتوسع والهيمنة، ولعل من سوء حظ الكرد أن جغرافيتهم كانت مقسمة بين إمبراطوريتين كبريين هما العثمانية والصفوية، وأصبحوا مع الزمن ضحايا الصراع بينهما من أجل السيطرة على مناطق ولايات كردستان والمنطقة ولاسيما العراق وبلاد الشام، وقد تجلى هذا الأمر بشكل جلي في معركة جالديران عام 1514، عندما نجح السلطان العثماني سليم الأول في استمالة قادة الولايات الكردية من شيوخ وأمراء في هذه المعركة حيث كان لهم الدور الأساسي في إلحاق الدولة العثمانية أول هزيمة مدوية بالدولة الصفوية بقيادة إسماعيل شاه، وقد انخرط الكرد في هذه المعركة بعد ضمانات من السلطان باحتفاظ الولايات الكردية باستقلاليتها المحلية في ظل الدولة العثمانية على أساس عاملين أساسيين، هما الولاء التام للسلطان ودفع الضرائب. ومع أن السلطنة العثمانية أقرت في مرحلة ما بعد جالديران بالاستقلالية المحلية للولايات الكردية التي شهدت تطوراً كبيراً إلا أن هذه المرحلة شكلت البداية الحقيقية لسياسة الإنكار العثمانية – التركية للقضية الكردية والبدء بعملية صهر الكرد في الدولة العثمانية لصالح السلطان وحروبه قبل أن تتحول هذه العملية إلى عملية قومية تركية بامتياز وذلك من خلال العوامل التالية :
1 – إن السلطات العثمانية ورغم إقرارها بالاستقلالية المحلية للولايات الكردية إلا أنها منعت هذه الولايات من الوحدة، بل وعملت بشكل مستمر إلى زرع الفتن والخلافات بينها، وصلت إلى حد إدخالها في حروب داخلية ضد بعضها البعض، بلغ عدد ضحاياها الآلاف.
2 – ضرب كل حكم اتسم بسياسة قومية كردية وذلك من خلال تغيير الولاة والحكام باستمرار وقمع كل حركة هدفت إلى الاستقلال الحقيقي للولايات الكردية والتقارب والوحدة فيما بينها.
3- مع رسم الحدود مع الدولة الصفوية عقب معركة جالديران وتحسين العلاقات بينهما، عملت السلطات العثمانية والصفوية على التنسيق المشترك ضد الولايات الكردية ومنعها من التوحد أو حتى مساندة البعض على جانبي الحدود.
4- عملت السلطات العثمانية على إنشاء طبقة عليا من الكرد مرتبطة بسياسة السلطان، وتعمل لتنفيذ أجندته في الداخل والخارج، وكان معظم هؤلاء من أبناء الأمراء والآغوات والشيوخ، وتم إدخالهم في الكليات والمدارس الحربية العثمانية والتي كانت معظمها في إسطنبول، وهو ما أدى عمليا إلى سلخ الطبقة الكردية الفاعلة من بنيتها القومية لصالح طبقة تدير المناطق الكردية وفقاً للتوجيهات العليا لسياسة السلاطين العثمانيين، حيث بات حكم السلطان يأخذ صفة المقدس في المناطق الكردية وكل مخالفة لسياسته تستوجب أشد العقوبات.
في الواقع، هذه السياسة استمرت حتى انهيار الدولة العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى، ليدخل الكرد بعد ذلك في علاقة معقدة مع الدولة التركية، بين من وقف إلى جانب حكم السلطنة المنهارة في إسطنبول حيث الأمل بالحصول على حق إقامة دولة كردية مستقلة في ظل دعم العديد من الدول الأوروبية ولاسيما بريطانيا وفرنسا وإيطاليا لهذا المسار، وبين من وقف إلى جانب مصطفى كمال أتاتورك الذي اتخذ من الأناضول ساحة لإعادة تأسيس الجيش التركي من جديد، وإطلاق الميثاق الملي خلال مؤتمري أرضروم وسيواس حيث اصطف إلى جانبه العديد من القادة والآغوات الكرد بعد أن وعدهم أتاتورك بتحقيق الحقوق القومية للكرد، وقد انتهت هذه المرحلة بانتصار حكومة أتاتورك في أنقرة وهزيمة حكومة فريد باشا والسلطان وحيد الدين في إسطنبول، لتبدأ بعد ذلك أشد المراحل قسوة وعنفاً ضد الكرد، إذ انقلب أتاتورك على وعوده للكرد، وبدأ عمليا بحرب إبادة وإقصاء وصهر قومي كامل لهم، إذ بدأت عمليات ترحيل جماعي للكرد في عام 1927، حيث تقول التقارير إنه تم تهجير /700/ ألف كردي من مناطقهم إلى الداخل التركي، وكثيرون ماتوا بسبب الظروف القاسية، كما قمعت السلطات التركية كل انتفاضة أو ثورة كردية ضد حكم أتاتورك بدءاً من ثورة الشيخ سعيد عام 1925، وصولاً إلى ثورة الشيخ سيد رضا في ديرسيم عام 1937 – 1939 والتي قمعتها السلطات التركية بقسوة شديدة وصلت إلى حد ارتكاب المجازر، لتبدأ بعد ذلك مرحلة الإنكار التام للقضية الكردية، وللكرد كشعب وهوية ووجود، فبات يطلق على الكرد أتراك الجبال، وكلمة كردستان باتت ممنوعة، وكذلك تعرضت الثقافة الكردية من لغة وموسيقا وعادات إلى حملة محو على شكل إبادة ثقافية، خاصة وأن السلطات التركية أحرقت او أخفت الكتب التي تتعلق بتاريخ الكرد وكردستان وبدأت بحملة تزوير لهويته وتاريخة ووجوده حتى باتت كلمة كردي وكأنها مذلة أو منقصة فيما كل الفخر والفرص لمن يقول إنه تركي. وهكذا تعرض الكرد لأكبر عملية إبادة ثقافية واجتماعية وقومية، ولعل سياسة الصهر القومي هذه هي التي دفعت بالزعيم الهندي التاريخي جواهر لال نهرو إلى القول الأتراك الذين لم يمض إلا وقت قصير على كفاحهم من أجل حريتهم عمدوا إلى سحق الكرد الذين سعوا بدورهم إلى نيل حريتهم، ومن الغريب كيف تنقلب القومية المدافعة إلى قومية معتدية، وينقلب الكفاح من أجل الحرية إلى كفاح من أجل التحكم بالأخرين، وهي السياسة نفسها التي دفعت بالزعيم والمناضل الأفريقي والأممي نيلسون مانديلا إلى رفض استلام جائزة أتاتورك، قائلاً في رد على سؤال عن سبب رفضه (حاول أن تكون كردياً لساعة واحدة ثم أخبرني عن شعورك، وستعلم لماذا رفضت جائزة أتاتورك).
في الواقع،هذه السياسة الفاشية والعنصرية تشكل جوهر عقلية النخب السياسية التركية الحاكمة تجاه الكرد، سواء أكانت هذه النخب من القوميين أو الإسلاميين أو (العلمانيين)، فالجميع يتفق على هذه الرؤية عندما تكون القضية المطروحة هي القضية الكردية، ليس في الداخل التركي فقط وإنما أينما كانت، ومن يدقق في موقف تركيا من قضايا الكرد اليوم في إيران وسوريا والعراق بل وحتى في بلدان الشتات بأوروبا وغيرها، يدرك حقيقة الحقد والعنصرية التركية تجاه الكرد، إلى درجة أن كلمة الكرد باتت مرادفة للفوبيا في العقل السياسي التركي، هذا العقل الذي لم يفكر يوماً بإيجاد حل سياسي للقضية الكردية، وحقيقة هذه القضية كأرض وهوية وشعب، بل ظل يفكر بسياسة الإنكار والإقصاء والإبادة والخيار العسكري، فأي كردي يطالب بالحقوق القومية الكردية يكون مصيره إما القتل أو السجن، إذ ليس في قاموس العقل السياسي التركي أي مكان للحل السياسي حتى الآن، وكل ما يصدر عن هذا الزعيم الحزبي أو السياسي بهذا الخصوص له دوافع انتخابية وسلطوية بالدرجة الأولى، والأخطر هنا، أن أردوغان بات يجمع بين عقلية السلاطين في ضرب الكرد بعضهم بالبعض إلى جانب التجويع وعقلية أتاتورك في استخدام القوة والصهر القومي ولو تحت شعارات إسلامية.
الثابت هنا، هو أنه رغم كل سياسة الصهر والإبادة التي مارستها الدولة العثمانية ومن ثم الحكومات المتتالية في عهد الجمهورية التركية، فإن القضية الكردية ظلت القضية الأولى على أجندة تركيا وأولوياتها السياسية الداخلية والخارجية، وهو ما يؤكد حقيقة عقم الأساليب التركية الفاشية في حل هذه القضية من خلال نهج القوة وضرورة البحث عن نهج سلمي لحلها، وأولى خطوات هذا الحل، هو الاعتراف بوجود هذه القضية وحقيقتها، ومن دون ذلك فان فصل الدم سيبقى مستمراً إلى عقود وربما قرون أخرى.[1]