سليم بركات
رواية بركات الجديدة «سبايا سنجار» هي على قياس عنوانها الواسع الذي يشمل نكبة شديدة الوحشية، ظننَّا أنها من تقاليد الحروب في التاريخ القديم. فإذا كان العنوان يبدو محصورا في الضحايا من الفتيات الأيزيديات في جبل سنجار في العراق، إلاَّ أن الوقائع تنتشر على امتداد الجغرافيا بين العراق وسوريا، حيث ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» (لا تشير الرواية إلى التنظيم باسم داعش، بل باسمه الكامل)، وتواجُدِه، وأفعاله وعوامل نشوئه. يترافق ذلك بنقد لاذع للأنظمة، وباستعراض لفهم الجهاديين لمشروعهم الديني.
تقع الرواية في تركيبها على مستويات عديدة. فهي وإن كانت في أساسها عن رسام سوري كردي في السويد، يفكر طوال الوقت بوضع لوحة يستوحيها من عملية السبي المتوحشة، إلاَّ أنها تمضي مباشرة إلى حوار متشعب مع شخصيات ربما يفكر الرسام أن يجعل منها نماذج للرسم، وهي خمس فتيات أيزيديات تتفاوت أعمارهن بين 11 و17 سنة، يلتقيهن في الدرب بين غابة قريبة من بيته، وعلى ضفة بحيرة في منطقته جنوب العاصمة السويدية.
إنهن متخيَّلات أو شخصيات موثقة من أخبار الوقائع منذ غزو تنظيم «الدولة الإسلامية» لسنجار سنة 2014. وهن يعرفن أن الرسام يفكر بهن لتصميم لوحته، فيما الرسام ينكر أنه اتخذ قرارا بالرسم بعدُ، وأن الأمر مجرد خاطر خطر له، لأنه لم يعثر على مدخل إلى تصوُّر لشكل جبل حزين، وكيف يكون جبل ما حزينا من هيئة صخوره. تلك هي حيرته: «لا أظن أن واقعية جبل سنجار هي الملحة على خيالي في تفصيل جبل اسمه سنجار، بمقصات اللون، بعد نكبة الأيزيديين. حزنُ أرضٍ صخرٍ مرتفعة عن المُنْبَسط من حولها بدفعٍ من يديِّ الجوف المصهور لكوكبنا هو الذي يهمني توثيقه، بلا اهتداء إلى آلةٍ لتوثيق الحزن ظاهرا على صخور الجبل». لقد طلى الرسام قماشا باللون الأبيض لكنه لا يعرف كيف يبدأ. وهو يحاور ذلك البياضَ ويحاوره البياض للوصول إلى مخرج لحيرته، فيهتدي إلى حلٍّ بسيط: «سنجار جبل حزين».
في كل فصل تظهر على الرسام شخصية من الفتيات السبايا، هكذا يعرف من كل واحدة منهن سيرتها: إنهن من قرية واحدة، وقد قُتِلن بعد السبي في عرض سرديٍّ بليغ البناء وشديد التفصيل، ومن خلال حوارات ووصف واسع. وفي خلفية كل سيرة من حكايات هؤلاء الفتيات السبايا عرض لمفاصل من المعتقدات الأيزيدية، بشكل روحاني. فهم مثل غيرهم من أمم الشرق مزيج من خلاصات الأديان القديمة، والمنابع الأسطورية لفهم الخلق والأعمال، مع اتصال بالدين الإسلامي بسبب وجودهم في محيط إسلامي أكثري من سُنة وشيعة معا. وهذا العرض المقسم على فصول خمسة مترافق مع ظهور الفتيات على الرسام، كثير التركيز، يعطي امتدادا للشخصيات الضحايا في العصور الأقرب والأبعد.
الرسام «سارات»، الذي تأتي الحكاية مروية على لسانه، هو أيضا شخصية موغلة في عصور المرارة. إنه متوحِّد قليل الاختلاط بالناس، مقيم في بيت منعزل على مقربة من بحيرة. سوري مثخن بالجراح مما يجري في بلده: «منذ أنجز المهندسون، بأيدي صُنَّاعهم اللهبيين، تشييد الجحيم كاتدرائياتٍ من نَسَب العمارة المذهلة في سوريا بلدي، أدركتُ أنَّ لي قلوبا كُثرا على عدد الموت حين يستقرُّ الموت بمبشِّريه، وبمعابده، وبمراكز إعاناته الطافحة بالمؤن، على أرض كأرضِ بلدي». وتتفرع من مرارته على سوريا كميات هائلة من الغضب على الأنظمة، من إيران إلى تركيا، إلى النظام في بلده طبعا، وكذلك على الأمريكي، والروسي، وأصدقاء سوريا «المخذولين الخاذلين»، وعلى التقاعس اللاأخلاقي في كل مكان. لهذا السبب ولغيره قدرُه العزلة مع رسومه: «أنا محاط بخلْقٍ كثير، لكل واحد منهم عزلته، على الأرجح، في رسومي. الجبل في عزلة. السحاب في عزلة. النهر في عزلة. كثرةٌ مدهشة من العزلات في عزلتي».
في مقابل عزلة الرسام ومرارته وإحباطه، وفي مقابل الفصول الخمسة المخصصة للفتيات السبايا، هناك خمسة فصول أخرى أيضا لشخصيات تظهر على الرسام من تنظيم الدولة الإسلامية كي تقترح عليه كيف يرسمها حين يبدأ لوحته. وهي نماذج موزعة بين مقاتل، وانتحاري وداعية.. الخ. كل فصل من فصول الفتيات يعقبه فصل من فصول جنود الدولة الإسلامية. ونرى في الخطوط كيف تتصل المصائر. فهؤلاء الرجال هم من اشتروا هؤلاء الفتيات. ولكل واحد حكايته التي تُعرض بالتفاصيل الأكثر إيحاء في مفاصلها، عبر حوارات بسيطة لكنها شديدة العمق تعكس الكثير جدا من فهم هذا التنظيم لدوره وعلاقاته وسلوكه، وإيمانه بطرق جهاده العنيفة ونظرته إلى المجتمعات، مع مشاهد مستوحاة من أخبار المجازر والإعدامات الوحشية، وتربية الأطفال على منهج القتل بتركيز واختصار قادريْنِ على رسم صورة كبيرة لما جرى للمنطقة من نكبة هي الأكبر في التاريخ الحديث.
كل الشخصيات التي من تنظيم «الدولة الإسلامية» قتلى (عراقي. سوري. شيشاني. ليبي. أفريقي لا يصرح بموطنه) لأسباب يتصل بعضها بالطرافات الدموية داخل مجتمع دولة التنظيم: الأخطاء، والهفوات والفكاهات قد تقود إلى الإعدام. وفي هذه الفصول الخمسة المخصصة لشخصيات من التنظيم توسُّع كبير لشرح الأفكار واختيار المَشاهد، كأنها توثيق بعين خاصة من لغة بركات الثرية الغزيرة.
لكن في جانب آخر تبدو «سبايا سنجار» استعراضا بارعا وبليغا لمعرفة الكاتب بفن الرسم. (بركات رسام أيضا يفضِّل الإنكار). ففي كل فصل من الفصول العشرة تظهر على جلد الرسام لوحة من لوحات الرسم العالمية مثل وشم. لديه مجلد ضخم قرب سريره. يتصفحه قبل النوم، واللوحة التي تكون أكثر قساوة وكابوسية وعنفا في تاريخ الرسم، تظهر على جلد صدره في الصباح التالي. وتظل ملتصقة بالجلد منطبعة عليه حتى المساء فتتلاشى. وقد اختار بركات عشر لوحات يصفها وصفا تفصيليا قويّا. كأنما يحاول الإيحاء بوجود علاقة بينها وبين الواقع الدموي المجنون المتوحش في بلدان المجازر.
كل تفصيل في «سبايا سنجار» مدروس بعناية المهندس،في اختيار وقائع بعينها وفي وضع الحوارات الدالة. أما نهايتها فهي اختصار رمزي مثير جدا وكثيف الإيحاء:
على مرِّ الفصول الخاصة برجال تنظيم «الدولة الإسلامية» هناك واحد منهم يتجول ومعه كلاب. إنه موقف ربما يستوحيه المؤلف من قيام بعض الفتيان والفتيات بالتجول مع كلاب لا يجد أصحابها الوقت الكافي لذلك فيدفعون لهم نقودا، هنا في السويد وربما في أمكنة أخرى.
هنالك تعليقات تتم عبر الفصول على طريقة كسب هذا الشاب الذي من التنظيم لمعاشه، من خلال العمل متجولا بالكلاب. في الفصل الختام يلتقي هو ورفاقه بالرسام ومعهم كلاب غريبة جدا كأنها من أساطير الجحيم اليونانية والرومانية. يظهر شخص جديد نصف ملثم واضح أنه على موعد معهم لعمل عاجل. يطلب منهم إفلات الكلاب والمغادرة معه.
كلب من تلك الكلاب يتبع الرسام إلى بيته بطريقة مخيفة (ينبغي قراءة النص والوصف). يهاجم نافذة المشغل الذي يستخدمه الرسام للعمل فيقتحمها ويحطمها. يهشم كل شيء فيه، ثم يقفز من النافذة مغادرا كما دخلها، ويركض إلى البحيرة فيغوص في الماء.
يعمد الرسام بعد الحادثة إلى رشْق جدران بيته كلها بالدهان من العلب المخزَّقة والمكسورة بفعل عض الكلب لصفيحها. يحوِّل بيته إلى ما يشبه لوحة تجريدية، ثم يغادر البيت ليلا للقاء الفتيات على ضفة البحيرة.
مشهد يستحوذ بقوة على القراءة في دعوتهن له إلى المشي على الماء. نهاية على شكل رمزي يختصر الكثير من المأساة: خيام تُضاء فجأة على سطح البحيرة الشاسعة كبحر صغير: «خيام مضاءة لا تُحصر أو تحصى، على امتداد تعجز العيون عن بلوغ نهايته. مدٌّ من الخيام. سيلٌ من الخيام. غمْرٌ من الخيام».
إنها خيام اللاجئين التي لم يعد يتسع لها سطح الأرض فغطت سطح البحيرة أيضا، وأمام كل خيمة يجلس رسام منهمك في رسم قاطني تلك الخيام. «سبايا سنجار» ستكون علامة فارقة في كل ما سيُكتب عن هذه الفترة المنكوبة من تاريخنا المنكوب دائما. من إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 445 صفحة.