د.#سربست نبي#
بالرغم من أن التجارب تؤكد على أن الحلّ الدستوري قد لا يقود بالضرورة إلى حلّ سياسي وإلى استقرار دائم، وبخاصة في الحالات، التي تتميز بالتعقيد الكثيف، كالحالة السورية أو العراقية مثلاً، إلا أنّه في نهاية المطاف يبدو الشرط الذي لابدّ منه للحلّ، ولتأسيس الشرعية السياسية والقانونية للدولة.
بطبيعة الحال، شكّل عامل عدم تنفيذ الدستور، وتعليق العمل ببنوده، أحد مظاهر الاستبداد السياسي، الذي هيمن على الحياة السورية طوال أكثر من نصف قرن من احتكار السلطة. إلا أن عدم اكتراث الأنظمة الاستبدادية بالدساتير السورية لا يفسّر طبيعة كل هذا الاستبداد وتاريخه وسلوكه. إذ تبرهن القراءة الدقيقة لسيرة معظم الدساتير، التي عرفتها سوريا منذ الاستقلال، أنها تفتقر لأيّ اعتراف بالتعددية السياسية أو التنوع الثقافي والقومي الحقيقيين، ولا تقرّ بهما. وبالمقابل تبرر هيمنة هويّة لغوية وقومية وتكرّس من تفوقها على حساب الهويّات الأخرى.
وهكذا يتطلع الكرد السوريون اليوم إلى وضع سياسي ودستوري يمكّنهم من ممارسة دورهم السياسي مباشرة وعلى قدم المساواة مع الآخرين. وهذا الأمر يشترط امتلاكهم للقدرة الدستورية والسياسية المشروعة، التي بفضلها يمكنهم تقرير مصيرهم بحرية ودون إكراه. ومن هنا ينشدون الضمانات الواقعية (الدستورية، السياسية، الثقافية) التي تحول دون عودة كل أشكال التمييز القائم والمتوارث بحقهم وبحق غيرهم من الأقليات القومية المهمشة.
بداية ينبغي التأكيد على أن الوجود الكردي في غرب كردستان (كردستان سوريا) حقيقة تاريخية وجغرافية راسخة. وحقوق الكرد المترتبة على هذا الوجود والمستحقة ليست بدعة أيديولوجية أو اختراعاً سياسياً. وهذه الحقيقة هي أقدم بكثير من حقيقة وجود الدولة السورية وأكثر شرعية من الناحية التاريخية، بالرغم من أشكال التشويه الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي نال من هذا الوجود طوال عقود. فالتاريخ الكردي هنا غارق في القدم، والكرد لا يتظللون بظلال تاريخ أحد ولا بشرعيته السياسية. وكل حديث عن التعايش أو المواطنة الحقيقية من دون الاعتراف بهذا المبدأ هو مجرد لغو لا معنى له.
إن شرعية حقوق الكرد تنبثق من هنا بالذات، ومن هذا المبدأ المركزي، لا من أيّ مصدر آخر. أي من مبدأ حقهم في تقرير مصيرهم في أن يكونوا سوريين بإرادتهم الحرّة. فهم من يجب أن يقرروا أن يكونوا سوريين بإراداتهم الحرّة، لا مرغمين ومكرهين بوصاية غيرهم وإرادتهم.
ولم يكن التنوع الثقافي والقومي في سوريا أمراً عارضاً أو طارئاً في أيّ وقت من الأوقات، إلا في الحقبة، التي طغت فيها نزعة قومية مركزية قادت إلى الإنكار المطلق للآخر ونفيه، وتدريجياً أدت إلى ممارسات إخضاع وتدجين ممنهج بحق المختلف والمتنوع على المستوى السياسي والدستوري. ومن هنا فشلت الدولة السورية القائمة في أن تخلق هوية وطنية، جامعة ومشتركة وحرّة للسوريين جميعاً0
بوجه عام تنكرت الدساتير السورية، قبل الاستقلال وبعده، لهذا التنوع الثقافي الراسخ في البلاد، نفت بعض الهويّات وألغتها، وبخاصة الهويّة القومية الكردية، ونحت بعضها الآخر، كالسريانية مثلاً. وبالمقابل فرضت هوية أحادية وشمولية، على أساسٍ من المركزية اللغوية والثقافية والأيديولوجية، وقلّصت التنوع التاريخي والتعدديات القومية إلى الحدّ الأدنى قسراً. وبالمثل بررت هذه المركزية الثقافية واللغوية وسوغت بدعوى أن الأغلبية الأثنية/القومية أو اللغوية لها الشرعية التاريخية والأيديولوجية في أن تحتل مكانة مركزية مهيمنة ومتفوقة على الثقافات والجماعات اللغوية الأقل عدداً ومن ثم الأقل أهمية.
ولعل أهم دستور عرفته سوريا والأكثر اعتدالاً كان الدستور الأول المعروف ب”دستور الملك فيصل” عام 1920م، والذي بالرغم من اعتباره هوية الدولة السورية بوصفها “مملكة عربية” ولغتها الرسمية الوحيدة هي العربية، إلا أن هذا الدستور قدّم تصوراً لبناء الدولة قوامه الحكم الذاتي للمقاطعات واللامركزية الداخلية، على نحو أقرب ما يكون إلى الدولة الفيدرالية. كذلك يلاحظ أن الدستور لم يذكر أيّة هويّة دينية أو مذهبية للدولة سوى دين ملكها، الذي يجب أن يكون مسلماً، وبالمقابل فقد ضمن الدستور حرية العبادة والمعتقد.
ومع أوّل دستور عُرِف ب”دستور الاستقلال”، أقرّ عام 1950م، أخذت النزعة العروبية الإقصائية تطغى بوضوح شديد على الدساتير السورية. علاوة على ما سبق، فقد أكد هذا الدستور للمرة الأولى على البعد الإسلامي كهوية دينية وكمصدر أساس للتشريع السوري. وكان دستور عام 1953م، الذي أعقبه أشدّ تطرفاً على صعيد تحديد هويّة الدولة في مرجعية قومية أو دينية، وعلى صعيد تكريس تفوق عنصر قومي وديني على آخر. إذ اختزل هوية الدولة السورية قومياً في العروبة ودينياً في الإسلام، وبات الشعب السوري برمّته، وعلى اختلاف قومياته وأديانه جزءاً من الأمة العربية/الإسلامية. وأصبحت اللغة العربية، لغة القرآن، اللغة الوحيدة السامية التي تستحق أن تكون لغة الدولة الرسمية.
وفي ظلّ الحكومات القومية ذي النزعة العروبية الأشد تطرفاً، التي توالت على سدّة الحكم في سوريا بعد هذا التاريخ، صودر للمرة الأولى اسم الدولة السورية في الدساتير المؤقتة، وتم تعريف الدولة ووصفها ونسبها إلى عنصر عرقي دون غيره، وبخاصة بعد انقلاب البعث في الثامن من آذار عام 1963م.
وبهذا أخذ المنحى الإقصائي والأيديولوجي العروبي يطغى على عمل الدولة السورية ومؤسساتها ويكتسب بعداً منهجياً مقروناً بالممارسات البيروقراطية، طبقاً لنظرية حزب البعث وأفكار القومية، لاسيما بعد أن كرّس هذا الحزب هيمنته السياسية على حياة السوريين دستورياً.
من هذا الموقع نظرت السلطة إلى العنصر العربي في سوريا بصفته العنصر المنتخب، الحامل الاجتماعي لليوتوبيا القومية، مادته التاريخية وكتلته التي ستجسد أهداف السلطة القومية الحاكمة، لهذا يتعين عليه أن يسود ويهيمن على بقية المكونات القومية في المجتمع السوري، وتسود معه ثقافته ولغته بوصفهما الأكثر جدارة وشرعية.
وأقرّ دستور الأسد “الأب” عام 1973م عبر استفتاء شعبي، وكان نسخة معدلة عن دستور 1969م. وقد قدّ هذا الدستور على مقاس فكر البعث، بل أكثر من ذلك يمكن بمعنى ما اعتباره هامشاً على متن مركزي هو نظرية البعث، أو يمكن عدّ مواده مجرد حواشٍ على متنه الأيديولوجي. وعزّز الدستور من تفوق القومية العربية وسيادتها دون غيرها، وطبع هوية الدولة بطابعها الخاص. وبالمقابل تجاهل الدستور الإشارة إلى أيّ مكون أو هوية قومية أخرى غير عربية. وفي الوقت نفسه اختزل مفهوم المواطنة السورية في مطالب الأيديولوجية العروبية.
وفي عام 2012 سعى الأسد “الابن” إلى احتواء الاحتجاجات المتصاعدة، التي عمت سوريا، فعمد إلى إجراء بعض الإصلاحات الظاهرية، التي لا تمس جوهر وطبيعة النظام القائم وتشريعاته. ومن هذا المنطلق أعلن عن دستور جديد. إلا أن هذا الأخير حافظ على غالبية مبادئ ومواد الدستور السابق، وبالمثل حافظ على الروح القومية الإقصائية فيه دون أن يقرّ هذا الدستور أو يعترف بأية هوية ثقافية أو لغوية أخرى في البلاد.
هنالك مجموعة قيم دستورية ومبادئ تتعلق بحقوق ومصالح المجموعات والأفراد ومستقبلهم، تكتسب قيمة استثنائية في جميع الدساتير وتشكّل القواعد أو القيم الأكثر سموّاً من قواعد الدستور الأخرى. وتلجأ الدساتير أحياناً إلى وضعها كي تكون موجهة لعمل الدستور ونصوصه، وكي تضمن عدم الإخلال بأية حقوق ثابتة للجماعات والأفراد، ويحفظ استقرار النظام السياسي. من هذا المنطلق يقتضي الحلّ الدستوري للقضية الكردية في سوريا مجموعة ضمانات “فوق دستورية” لا ينالها التغيير أو التعديل، إلا عبر اللجوء لاستفتاء إرادة الكرد وحدهم، دون غيرهم من السوريين مستقبلاً.
من هنا تنبثق ضرورة تأسيس مبدأ المساواة القومية على قيم فوق دستورية تضمن التعددية وتحمي حقوق الأقلية وتحترم تطلعاتها المشروعة. ذلك أن أيّ نظام سياسي محتمل في مستقبل سوريا يستمد شرعيته من هيمنة أغلبية قومية أو دينية/طائفية سيشكّل تهديداً فعلياً للديمقراطية ويقوّض كل نزوع نحو المساواة بين السوريين. ويتطلع الكرد في غرب كردستان ومعهم الأقليات القومية جميعاً في سوريا إلى وضع دستوري يمكّنهم من ممارسة دورهم السياسي مباشرة وعلى قدم المساواة مع الأغلبية العربية.
إن أوّل وأهم مبدأ ينبغي للدستور السوري المحتمل أن يؤَسَّس عليه، هو ذاك الذي يفضي إلى الإقرار بأن هويّة الدولة السورية ليست عربية فقط، ولا ينبغي أن تكون عروبية بطبيعة الحال، إنما تعددية. وعلى أيّ نظام سياسي محتمل أن يستمدّ شرعيته من المجتمع السوري بتنوعه القومي والثقافي والاجتماعي والتاريخي القائم، لا من مثال أيديولوجي أو أية يوتوبيا سياسية أخرى. ولهذا من العدل تماماً أن ينص الدستور السوري القادم ويحدد بوضوح أن الدولة السورية هي متعددة القوميات، وأن العرب والكرد يعدّان القوميتين الرئيستين، إلى جانب الاعتراف بحقوق الهويّات الثقافية والقومية التاريخية كالسريان وغيرهم.
وثانياً، يتعيّن على أيّ دستور محتمل لسوريا أن ينصّ صراحة على المساواة التامة بين العرب والكرد، في المكانة والدور، في الحقوق والواجبات، كمدخل عادل ورئيس لحل القضية القومية للكرد في سوريا.
إن تحقيق هذه المساواة لا يستهدف بأثارها ونتائجها المستقبل فحسب، إنما عليها أن تتجه نحو الماضي وتتجسد في الموقف من قرارات النظام وممارساته العنصرية المتراكمة طوال أكثر من نصف قرن. إن معضلة الكرد في غرب كردستان هي ليست مع النظام القومي المستبد في سوريا فقط، إنما المعضلة أيضاً هي مع تركة النظام السياسية والاجتماعية التي خلّفها طوال عقود من الاستعباد والتشويه والتعريب بحق الجغرافية والهوية الكرديتين.
ومن الأهمية بمكان أن يؤكد الدستور القادم وينصّ على أن هذه المساواة المنشودة لا تتجه بأثرها نحو مطالب المستقبل فحسب، إنما يتعين أن تتحقق كذلك بأثر رجعي. وذلك عبر إزالة آثار الغبن القومي والاضطهاد الذي تراكم خلال تلك العقود الطويلة من سياسات التبعيث والتعريب.
وثالثاً، إن المساواة المنشودة تستلزم تمكين الكلّ في المشاركة السياسية، دون أية عوائق مادية أو رمزية تنتقص من مكانة هوية أو دورها، في حق السيادة. وعلى أيّ نظام سياسي مستقبلي يتصدى للتغير أن يبرهن على أرض الواقع، وبصورة عملية، على المستوى الثقافي والرمزي، أن هوية سوريا هي كردية بقدر ماهي عربية، وهي عربية بمقدار ما ستكون كردية. وهي لن تكون عربية بمقدار ما لن تكون كردية.
بناءً على ما سبق، ومن منطلق التغلب على حالة اللاتكافؤ الثقافي واللغوي بين المجموعات، وكي تتحرر الدولة من هيمنة لغة واحدة ومن الاستلاب لثقافة قومية وحيدة، ينبغي أن تتمتع كل أقلية قومية بالحقوق الثقافية والرمزية ذاتها، التي تمتع بها الأغلبية. فضلاً عن ذلك يجب الاعتراف بالمساواة التامة بين ثقافة القوميتين الرئيستين في التمثيل السيادي للدولة، ومن الضروري في هذه الحالة أن يقرّ الدستور السوري صراحة المساواة التامة في المكانة بين اللغات التاريخية العربية والكردية والسريانية، وأن ينصّ على اعتبار العربية والكردية لغتين رسميتين للدولة السورية.
رابعاً، بهدف إلغاء التفاوت الثقافي والسياسي بين الأفراد والجماعات داخل الدولة الواحدة، تبرز هنا أهمية التأكيد دستورياً إن المجتمع السوري بتنوعه الثقافي التاريخي القائم وتعددياته القومية، هو الذي يجب أن يكون المرجع المباشر لمفهوم المواطنة السورية، وبالتالي لأيّة هويّة سورية جامعة، عوضاً عن مفهوم الجنسية العرقي، المتخم بالتطلعات الأيديولوجية العنصرية.
خامساً، إن الحلول الحتمي للنظام الديمقراطي وتحقيق المساواة بين السوريين، وبالتالي بين الكرد والعرب يفترض في هذا السياق إطاراً سياسياً للحل قوامه النظام الاتحادي/ الفيدرالي، الذي يعدّ أفضل مصدّ أو دريئة في مواجهة أي استبداد مركزي محتمل، وللتغلب على بقايا التفاوت وأوضاع اللامساواة. وهو الذي يتيح للجميع المشاركة السياسية الحرّة على نحو متكافئ، وتعزز لديهم القدرة على مواجهة جنوح السلطة أو المركز نحو الاستبداد.[1]