الأكاديمي د.أحمد المثنّى أبو شكير ل “شرمولا”: المثقف الحقيقي هو الذي يعيش هموم مجتمعه، ولا يلقي بالاً لحاجاته الخاصة والأنانية والآنية
حاوره/ أحمد اليوسف
يحاولُ المثقف دائماً، مع التجاوز عن تفسير المصطلح وتداعياته، أنْ يُوصلَ فكرته بشفافية وحب وكأنّه يغرد، أو كما قال المعريّ، يسجعُ كالحمامة، يحمل أفكاره ويتبناها، ويحاول إيصالها سلمياً، وبأرقى الطّرق والوسائل التي ترفدُ المجتمع بأشكالٍ كثيرة من الإبداعات التي تُغيّرُ شكل هذا المجتمع، وتخلقُ فرص وجوده وبقائه وازدهارهِ.
وفي هذا الحوار الثّقافيّ سنسعى للوقوفِ عندَ الأدوارِ المنوطة بالمثقّف ضمن الحقل الفكريّ والاجتماعيّ والسّياسيّ، وسيكونُ معنا في هذا الحوار الأكاديمي د.أحمد المثنّى أبو شكير، وهو من المثقفين المقيمين في مدينة منبج، ينحدرُ من مدينة البوكمال، وهو عضو إدارة في اتحاد المثقفين في منبج، وأحد أعضاء اللجنة التحضيريّة المكوّنة لهذا الاتّحاد، كما يشغل مسؤولية الإشراف العلميّ والتّدريب والمناهج الخاصّة بتأهيل المعلمين في منبج، وعضو الهيئة الأكاديميّة العليا في قسم اللغة العربية بجامعة مينسوتا.
نُرحّبُ بكم د.أحمد، ولعلّنا نبدأ بسؤال تقليديّ نلجُ من خلاله إلى ثنايا الفكرةِ التي نسعى إليها من خلال هذا الحوار، ونسألكم هنا عن المثقف، من هو المثقفُ اليوم؟
قد يكون من اليسير اليوم أنْ نقف على آلاف التّعريفات التي تعجُ وتضجُ بها المواقع والمنتديات والكتب حول ماهية المثقف، لكنْ ليس من اليسير أنْ نعمّمَ أيّ تعريفٍ اصطلاحيّ على جميع مفاصل الواقع الذي يعيشه الإنسان، فالمثقف في نهاية المطاف هو فرد في المجتمع يعايش همومه وآلامه فيعتصرُ قلبه لها، ويزهو بأفراحه وأمجاده فيطرب فؤاده بها، وبمقدار ما كان المثقف ملازماً للمجتمع وهمومه وقضاياه بمقدار ما كان أكثر جدارة بهذا الوصف التشريفي والتكليفيّ في الوقتِ ذاته، وكلما كان أكثر قدرة على التّغيير والتحسين كان أصدق قبولاً لدى الناس بصرف النّظر عن الفنونِ والوسائل التي يستخدمها في إنتاجه الفكريّ.
واليوم يعيش مثقفنا تحدياً من نوع مختلف جداً، لأنّه يجد نفسه مضطراً للانخراط في حركية صراع قائم، ممّا يجدرُ به أنْ يكون حذراً وفطناً، وأنْ يكون متحيّزاً لحقوق المستضعفين، ورافداً لهم بقلمه وعمله، ناصحاً مؤدّباً معلماً.
د.أحمد، تحدثتم عن اقتباس المثقف دوره من المجتمع، فأيّ دور ينتظر هذا المثقف؟
لا شكّ أنّ واقع المجتمع اليوم لا يسرّ، إذِ انعكسَتِ الأزمات يشكلٍ جليّ على واقع المجتمع بتفاصيل حياته كافّة، وأضحى المثقف أمام تحديات كبيرة أمام مآسي المجتمع وتشرذمه وتناحره واختلافه، لأنّ الصراعات السياسية والإيديولوجيّة انعكستْ على المجتمع، وأثّرتْ في تركيبته، وعلاقاته، وتماسكه، وأفرزَتْ لنا مجتمعاً متبايناً متناقضاً، ومتصارعاً أيضاً في صور متعدّدة، ممّا حذا بالمثقّف لمحاولة التّصدّي لهذا التناقضات والصّراعات الهدّامة، والبحث عن الوسائل الكفيلة بإعادة تلاحمه ووحدته، فأصبحت مهمة المثقف أكثر تعقيداً، وتوجّب عليه البحث عن وسائل وأدوات جديدة تعينه في مبتغاه، يضاف إلى ذلك حالة التشوّه المجتمعيّ التي سببها بعض المتثقفين تحت غطاء الثقافة عبر انجرافهم خلف الاصطفافات والتحزبات ممّا أفقد المجتمع ثقته بالمثقفين، وجعل هؤلاء يصارعون في مواضع شتى لإعادة كسب ثقة المجتمع، ومدّ جسور التواصل معه، ثمّ البحث عن تنقيته وتنويره مجدّداً.
كلّما كان هنالك حديثٌ عن الثقافةِ والمثقّف، نجدُ الحديثَ عن علاقةِ المثقّفِ بالسياسةِ يطفو على السّطح، فكيفَ ترى هذهِ العلاقة؟
ذكرْنا بأنّ المثقّفَ ابن المجتمع، يتفاعلُ سلباً وإيجاباً مع ميولِهِ واهتماماتهِ كلّها، والحقلُ السّياسيّ على خصوصيّتهِ هو انعكاسٌ للصراعات والعلائق التي يعيشها المجتمع الواحد، أو تلك التي يتجاذبها مع المجتمعات الأُخرِ، والمثقّف منخرطٌ بطبيعة الحال في هذه العلائق والتجاذبات، وهو يبدو فاعلاً في النقاش السياسيّ أكثر من فعاليته في الفعل السياسي، ذلك لأنّ المثقف لا يمكن أن يتعدى دوره تلك الحدود في تعاطيه للشأن السياسي، وهو ملتزم بهذه الخطوط كي يحافظ على خصوصية الشّخصية الثقافية الشفّافة الصادقة البديعة التي لا يمكن أن تكون مغلّفة بأغطية الخبث الدبلوماسيّ، والحنكة السياسية، وهذا ما يجعل المثقّف أكثر الناس اصطداماً مع السلطات والمؤسسات السياسية الحاكمة التي تسعى لأدلجة وتطويع كل شيء وفق منظورها السياسيّ والفكريّ الذي تطرحه، وهذا عادة لا يروق للمثقف الحقيقيّ الذي يرى نفسه رسولاً متجدّداً، ولسان صدق فصيح يعبّر عن آمال وآلام المعذّبين في المجتمع، فأنّى لك أنْ تطوّع هذا اللسان لما تحبُه من النزعات الفكرية أو الأيديولوجية التي تسعى لنشرها وتغليبها؟
من هذا المنطلق نرى أنّ جريَ المثقف خلف العمل السياسي، والاندماج في أروقة السياسة يجعل منه أكثر تقييداً لأداء رسالته، مع التنبيه إلى ضرورة أنْ يكون المُثقّف واعياً في الشأن السياسيّ كفاية كي يمتلك القدرة على قراءة الواقع، وكيلا ينعزل في برجه العاجيّ، وعالمه السرمديّ المنفصل عن الواقع.
ويمكنُ أنْ نرصد مظهرين من مظاهر العلاقة بين المثقّف والسلطة:
المظهرُ الأوّلُ يكون فيه المثقف هو الفكر، وهو طليعة المجتمع والقادر على إثارة الأسئلة الصعبة في الزمن الصعب، وتبيان الحقائق، ويكون في طليعة رمح التغيير، وسيف اجتثاث الفساد، وهو بهذا التصنيف المتواضع، دون الإخلال بأهمية الدور، يكون عرضة – في كثير من الأحيان- لبطش السلطة، ويكون مصيره أحياناً تكسير الأصابع والقلم، أو جزّ اللسان وخنق الميكروفون، أو تهشيم عظام الصدر لإخراج القلب الذي يمكنُ أن ينبض بالحبّ للحقّ.
والمظهر الثاني لثنائية العلاقة بين المثقف والسلطة، يكمن في قدرة المثقف على التأرجح طويلاً فوق الحبال المشدودة، يتأرجح عالياً، بينما هو ينحدر متحولاً لانتهازيٍّ حقيقيّ، وقانص للفرص، في موقف ميكيافيليّ، لا ينتمي للموقف البطولي، أو حتى لفروسية المثقف الطليعيّ.
يقودُنا الحديثُ عن انخراط المثقّفِ في الحقلِ السّياسيّ إلى مناقشةِ ظاهرةٍ واضحة المعالم اليومَ ألا وهي ظاهرة ابتعاد المثقفين عن المشاركة في دعم ورفد الحركة الثقافية في ظل هذه الأزمة القائمة، فما هي التفسيراتُ التي ترونها خلف هذه الظاهرة ؟
ظاهرةُ ابتعاد المثقّفين وعزوفهم عن المشاركة بفاعلية في تنمية ورفد الحركة الثقافية هي ظاهرة قائمة وبوضوح نتيجة أسباب متعدّدة، والأزمات السياسيّة التي تعصف بالمجتمعات هي سبب رئيسيّ في انكفاء المثقفين وابتعادهم بسبب تلازم هذه الأزمات مع إجراءات تصيب المثقفين بالدّرجة الأساسيّة، فمن قوانين الطوارئ إلى قوانين الحجر الإعلاميّ وغيرها من الإجراءات التي تجعل المثقّف ينحو جانباً بحثاً عن السلامة المنشودة في خضم واقع يشوبه الاضطراب السياسيّ، وتغلبُ عليه النّزعات الإقصائية، أضف إلى ذلك تفاعل التّداعيات السياسيّة مع تداعيات مترافقة كالانفلات الأمنيّ، والتناحر العرقيّ والأيديولوجيّ الذي تولّده عادة الأزمات السياسيّة، وهي تداعيات مؤثّرة تستهدف المثقفين، وتسعى لكمِّ أفواههم، أو جذبهم نحو اصطفاف معيّن لا يتناسب مع قناعاتهم وأخلاقهم، ويتنافى مع مصلحة المجتمع وتطلعات الناس، ذلك يبدو سبباً وجيهاً في نظر الكثير من المثقفين للانكفاء والابتعاد بحثاً من بعضهم عن النّجاة، ورفضاً من بعضهم الآخر للأدلجةِ التي تفرزها الأزمات.
وينبغي ألا نغفل عن الجوانب المتعلّقة بالجوانب الذاتية للمثقّف ذاته، حيث يرى بعض المثقفين أنّ الثقافة لا تغنهم عن متطلبات الحياة ومستلزماتها، فنجدهم يهجرون العمل الثقافيّ بحثاً عن لقمة العيش، ولا سيّما في إطار الأوضاع السياسيّة المضطربة التي تترافق عادة مع أوضاع اقتصادية متدهورة تعصف بالمجتمع الذي يُعدّ المثقّف أساساً من أسسه.
هذه التأثيرات السّياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة تُعدُّ الثالوث الأساسيّ الذي يضغطُ على المثقّف، ويدفعُ به إلى ترك واجبه تجاه مجتمعه الذي يتطلعُ إليه كمنقذ له من هذه التّداعيات.
ثمّة من يعتقد أنّ بعض المثقفين عملوا في أدوار تتنافى مع رسالة المثقّف ودوره في المجتمع، كما فقد بعضهم الآخر القدرة على التّأثير، فما هو أنسب توصيف لهؤلاء المثقفين؟
الثقافة هي أعلى أشكال الفعل الإنساني النابض بالقدرة على تقديم الخير للإنسان، ومعولُها هو المثقّف، فإذا انحدر المثقف إلى درك التحول إلى بوق أو آلة أو نكرة فهذا يمثّل كارثة للمجتمع بالدّرجة الأساسيّة، وخاصة عندما يسعى بعض المثقفين لتقديم تبريرات واهية لذلك كلّه، ويسوقُ الذّرائع، حتى تظهر صورته الحقيقيّة، وهي الصّورة الانتهازيّة التي تميل مع الريح أينما مالت. هذا المثقف الانتهازي يستقرُّ في أدنى مرتبة، لأنّه يفتقد لقدرات كثيرة تمتاز بها الثقافة الحقّة، ومنها دلائل الحوار و الإقناع والمنطق والأخلاق في مواجهة معايير القوة والنفوذ والمال، لأنّ المثقف الحقيقيّ هو القادر على إحداث حراك اجتماعيّ، وإقامة علاقة تضامنية مع المجتمع، عندما يكون الهمّ الوطنيّ والإنسانيّ هو المنطلق، وهو يعبر عن وعي المثقف، وقدرته على إحداث التغيير الاجتماعي والفكريّ والسياسيّ والاقتصاديّ بعيداً عن شبهة النفاق والتملق التي تُسقط المثقف من حسابات الفعل المنجز للبعد الإنساني لقدرات الكلمة والرأي الحر إلى إنجاز مشاريع خاصة بالفرد دون المجتمع.
المثقف الحقيقي هو الذي يعيش هموم مجتمعه، ويتحسس نبض الشارع، ولا يلقي بالاً لحاجاته الخاصة والأنانية والآنية، ويستطيع أنْ يقبض على الجمر، ولا يتطلع لأبراج زجاجية شاهقة، ولا يحلم بأحلام فارهة. لأنّه يرى بواسطة عدسة ضميره الكاشفة مقدار معاناة أبناء المجتمع جميعاً.
ما نقرؤهُ بين سطور كلماتك د.أحمد أبو شكير هو ما يرسم صورة للمثقّف الذي يبدو بعيداً منطوياً، فهلْ ثمّة ما يمكن قوله لهذا المثقّف؟
في واقع الأمر، المجتمع كلّه يتطلّع نحو المثقفين بنظرة الأمل والرجاء، إذ يبدو هذا المجتمع مجرّداً من عناصر قوّته كلها أمام هول الأزمات، ولا يمكنه تجاوز هذه الأزمات إلا من خلال تلاحم وتضامن مثقفيه في صفّ واحد لحمايته وتحصينه ضد الانحلال والفساد والفوضى والتشرذم .
المثقّف يقف اليوم أمام مفترق خطير سيكون وقعه التاريخيّ عميقاً، لأنّ التّاريخ لن يرحم عقولاً منهزمة خذلت الناس، وتخلّتْ عنهم في أحلك الظروف، وهذا ما يجعل المسؤولية مضاعفة على جميع المثقفين للمبادرة، والابتعاد عن الانطباعات التسويقية المسبقة، والابتعاد عن التبريرات الواهية، لأنّ مسؤولية حماية المجتمع وإنقاذه أكبر بكثير من أيّة مسوّغات، وأسمى من كلّ ميول فردية زائلة.
وتبقى الكلمة النافذة سلاح المثقّف في التوصيف والتحريض والتغيير، وقلمه هو القوة القادرة على هزّ أركان الظلم، وتثقيف العقول، وتنوير الأفكار، وإحداث الأثر الذي يتطلع الناس إليه بعيون الأمل والرجاء.[1]