شورش درويش
أمست تركيا في حمأة الجهود التي بذلتها حكومة الحرب إبان احتلال #عفرين# عام 2018 أقرب إلى حلبة مصارعة أو كولوسيوم رومانية تعجّ بالهتافات والخطابات الداعية إلى الحرب والموت، في استعادة لأجواء الحروب الغابرة حيث لا صوت يعلو، ولا يجب أن يعلو، فوق صوت المعركة، غير أن داخل سعار تأييد الحرب كان ثمّة أصوات اعتراضية تدفع في خلفية المشهد أكلافاً باهظة لمناهضتها الحرب، ولئن كانت معظم الأصوات تأتي من جهة كرد تركيا ويسارييها ومجتمعها المدني، فإن جمعية أطباء تركيا كان له دورها المجابه والشاجب للحرب عبر بيان اعتبر الحرب “خطراً على الصحّة العامّة”، وهو الأمر الذي وضع الجمعية في مرمى نيران النظام التركي.
بلغ التصعيد في إزاء رفض الجمعية الحرب ومبرراتها غير المقنعة أوجه مع تشهير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالجمعية واصفاً قيادتها بأنهم “عملاء للإمبريالية وحثالة”، والأدهى من ذلك قيام النظام التركي باعتقال 11 عضواً في مجلس إدارة الجمعية، ثم اعتقال 13 عضواً آخرين، بذريعة قيامهم “بالدعاية لمنظّمة إرهابية” وتحريض المواطنين على العنف والكراهية”، ولعل المفارقة التي تحمل كل دلالات السخرية السوداء تتكثّف في هذه التهمة الطريفة والقاسية في آن، حيث الوقوف ضد الحرب هو تحريض على العنف!.
قد يكون تضامن الجمعية التي تضم 80 في المئة من أطباء تركيا (85 ألف طبيب) أوسع تضامناً مع الكرد خارج تركيا، وأكبر تعبير عن تنامي مشاعر المدنيّة المعارضة لمنطق الحرب الضرورية والوقائية، لاسيما تلك الحرب التي تسعى إلى تجريف الوجود الكردي في الجوار، ولتضاف جهود الجمعية إلى جهود الصحفيين والكتّاب والنشطاء الذين وقفوا ضد الحرب على عفرين سواء بسواء، إذ بلغ عددهم 150 معتقلاً خلال الأيام الأربع الأولى لعملية “غصن الزيتون”.
أدرك أردوغان باكراً أن المجتمع المدني هو العدو رقم واحد للحكم التسلّطي، وأن تأديب المنظّمات والاتحادات والنشطاء يقع في رأس سلّم أولياته، ولعل اللحظة الكاشفة للعداء المتبادل جاءت مع احتجاجات غيزي بارك 2013 لتبدأ إثر ذاك عملية “مطاردة الساحرات” والتي تكثّفت في لحظة الحكم على الناشط المدني ورجل الأعمال وداعم حل القضية الكردية الأبرز عثمان كافالا بالسجن مدى الحياة، وبالمثل حُكم على إيرول أوندر أوغلو، ممثّل منظّمة مراسلون بلا حدود في تركيا، لأربعة عشر عاماً لتتمّ تبرئته لاحقاً، أما علّة اعتقاله كانت مشاركته في حملة تضامن مع صحيفة “أوزغور غونديم” التي أُغلقت على خلفية نشر الصحيفة بيانات صادرة عن حزب العمال الكردستاني، وإلى جوار أوغلو اعتقلت السلطات التركية الكاتب أحمد نيسين والمناضلة الحقوقية والطبيبة شبنم كورو فنجانجي، أما هذه الأخيرة التي تشغل اليوم منصب رئيسة الجمعية الطبية التركية؛ فقد جرى اعتقالها الأسبوع الفائت، بعد أن أدلت بتصريح يؤكّد استخدام الجيش التركي الأسلحة المحرّمة دولياً “الأسلحة الكيماوية” ضد مقاتلي “العمال الكردستاني” في كردستان العراق، لترتقي بدورها إلى مصافي العدو المباشر للرئيس التركي الذي وصفها بأنها تقوم بتشويه سمعة الجيش وإهانة بلدها ودعم “منظّمة إرهابيّة”، ولم يشفع لفنجانجي تاريخها الطويل في مقارعتها الفاشية منذ انقلاب 12 سبتمبر/أيلول 1980 وحتى اللحظة، ووقوفها على طول الخط بالضد من عمليات الاستجواب والتعذيب وحالات الخطف والإعدامات خارج نطاق القانون، أو بكلمات أخرى: لم يشفع لها نضالها وزملاءها الحقوقيين في تخليص تركيا من الفاشية التي لو استمرت لما وصل أردوغان للحكم.
ثمّة خيط متين يربط بين كل حالات الاعتقال التعسّفي والمحاكمات الماراثونية التي يتعرّض لها رموز المجتمع المدني والنشطاء وهو الدفاع المرير عن الكرد بوصفهم الجماعة المستضعفة داخل تركيا، وكذا في خارجها، فيما تبدو الحكومة التركية أشد تطرّفاً في محاربة وقمع مجتمعها المدنيّ في الوقت الذي يواصل الرئيس التركي في الوثيقة التي احتفت بمئوية الجمهورية التركية أو “قرن تركيا” بإطلاق الوعود المتصلة بصيانة الحقوق الأساسية والديمقراطية ومنح المجتمع المزيد من الحريات.
وفي مجمل الأحوال يمكن ملاحظة صعوبة ابتلاع النظام التركي منظّمات المجتمع المدني وتطويع قيادتها، ولئن كان التطويع أو الابتلاع صعباً، فإن التضييق على المنظّمات بغية تكسيرها مسألة تتحقّق تباعاً، وهذه المسألة تبقى على درجة من السوء بحيث أنها تساهم في بقاء تركيا في مربّع الدولة القمعية والتسلّطية. وإذا كانت عملية التضييق على المجتمع المدني تلحق الأذى بالحقوق والحريات وبمستويات المشاركة في الشأن العام، فإن أبرز المتضرّرين في هذا السياق سيكون الكرد بوصفهم غير ممثّلين في الدولة، أو لنَقُل بوصفهم حاضرين في الحقل النقابيّ وفي المتن الاجتماعي التركي.
حالة الشراكة والتشبيك وتبادل المنفعة بين الكرد وبين المنظّمات والاتحادات والنقابات تعطي دفقة من الأمل في مسار تحجيم النزوع السلطوي المتنامي في تركيا، لكنه إلى ذلك يرفع من كلفة الضريبة التي يتوجب على قادة المجتمع المدني والسياسيين الكرد دفعها حال استمرار النهج التسلّطي للحكومة التركية، وهي الكلفة التي لا يبدو أن هناك مجال لتفاديها.[1]
المصدر: نورث برس