محمد سيد رصاص
في مغرب يوم انقلاب الإنفصال في 28- 09-1961دخل شخص إلى صالون حلاقة بدمشق وكان يرتدي لباس الخوري التقليدي في كنيسة الروم الأرثودكس ، وطلب بعد أن جلس على كرسي الحلاقة حلق ذقنه وشاربه وقص شعره أمام دهشة الحلاق . كان هذا الشخص هو موريس صليبي وهو محامي من حمص ، وكان قد عاش حالة تخفي منذ يوم اعتقالات الشيوعيين من قبل مباحث دولة الوحدة السورية- المصرية في رأس سنة 1959، وكان عضواً في اللجنة القيادية لل#حزب الشيوعي السوري# التي كانت مكلفة بقيادة الحزب في الداخل السوري إثر خروج خالد بكداش من سوريا في الأسبوع الأخير من عام 1958بعد أن تم تهريبه إلى لبنان عبر نهر الكبير الجنوبي عقب أن ألقى الرئيس جمال عبد الناصر خطاباً في مدينة بورسعيد هاجم به الشيوعيين.هذه اللجنة القيادية هي التي أتى فرج الله الحلو لتولي رئاستها في يوم اعتقاله وتصفيته بيوم25-06-1959، وكانت تضم مع موريس كلاً من دانيال نعمة(من مشتى الحلو) ومحمد منير مسوتي(أبوماهر) من حلب،وكان يعاونها أشخاص يقيمون في بيروت مثل يوسف فيصل،وكانت منشورات الحزب الشيوعي اللبناني (باعتبار أن هناك قيادة مركزية بين الحزبين منذ المؤتمر الثاني عام1944 وهو ماظل مستمراً حتى انفصال الحزبين عام 1964)،أي “الأخبار”و”النداء”،هي الرئة والناطق الاعلامي باسم الشيوعيين السوريين.
كانت اعتقالات 1959قد طالت آلاف الشيوعيين،ولكن من خلال أوراق الانسحاب من الحزب التي كانت تطلب من المعتقلين مقابل اطلاق سراحهم فإن من بقي من سجناء الحزب الشيوعي الأخيرون والمتبقون كان واحداً وسبعون شخصاً رفضوا كتابة ورقة الانسحاب من الحزب وهؤلاء هم الذين أطلق سراحهم من سجن المزة بعد انقلاب الانفصال . كانت غالبية قيادة الحزب قد توجهت للخارج،وأولهم الأمين العام خالد بكداش،وقد فر للبنان ومن هناك للاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية الآلاف من الشيوعيين ومعظمهم درسوا وتخرجوا من الجامعات هناك.
إذا عدنا لصدام الشيوعيين مع عبدالناصر ، فهذا لم يكن مقتصراً على دمشق بل شمل القاهرة وبغداد ثم امتد إلى موسكو بربيع 1959، والكثيرون يعزوه إلى رفض الحزب الشيوعي السوري حل نفسه إسوة بباقي الأحزاب التي حلت نفسها استجابة لشرط عبدالناصر من أجل قبوله بالوحدة السورية – المصرية ، ولكن ،من يراقب ويدقق، يلاحظ بأن هذا الصدام لم يحصل ويتجه للتصادم بين قطاري العروبيين والشيوعيين سوى بعد يوم14تموز\يوليو1958عندما قاد تحالف عروبي- شيوعي إلى اسقاط الحكم الملكي في العراق ، ثم تصادم العروبيون والشيوعيون بعد أن تحالف الأخيرون مع عبدالكريم قاسم لمنع انضمام العراق إلى الوحدة السورية – المصرية وهو ماقاد إلى تصفيات دموية للعروبيين هناك ، ففي المفاوضات التي أجراها مبعوث الرئيس عبدالناصر إلى دمشق كمال الدين رفعت في أيار\مايو مع عضو اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي أحمد محفل لم يشترط أكثر من تغيير اسم الحزب مع تلميح بأن زواج عبد الناصر مع البعثيين (وكان منهم نائب رئيس دولة الوحدة أكرم الحوراني)لن يدوم طويلاً، في إشارة إلى استعداد للتعاون من عبد الناصر مع الشيوعيين.هنا،عندما حصل التغيير في العراق وبانت كفة الشيوعيين هي الراجحة تشجع#خالد بكداش# في آب\أغسطس لتقديم (البنود ال13)كشرط لقبول الشيوعيين بدولة الوحدة ، وهي شروط تهدم ماتم بنائه قبل ستة أشهر بين القاهرة ودمشق، وهو عندما عاد لسوريا في أيلول وحصل على موافقة القيادة الشيوعية على البنود ال13فإن هذا كان يعني صداماً شيوعياً مع عبدالناصر يستتبع ويترافق مع الصدام الشيوعي- العروبي بالعراق ، والأرجح أن بكداش كان يأخذ ضوءاً اخضر من قيادات في الحزب الشيوعي السوفياتي كانت مستاءة من تقارب عبدالناصر مع واشنطن في مرحلة مابعد التغيير العراقي وهو ماأنتج صفقة أميركية- مصرية أتت بفؤاد شهاب رئيساً للبنان في أيلول\سبتمبر1958، وكانت – أي تلك القيادات السوفياتية- تراهن على وضعية سوفياتية قوية في الشرق الأوسط من خلال المنصة البغدادية الجديدة التي فيها سيطرة شيوعية كانت بالنتيجة تجعلها ليست كثيرة الحرج من أن تضغط على عبدالناصر في دمشق إضافة لبغداد، وليس صدفة أن يعتبر خروتشوف في آذار\مارس ،وبعد أسبوع من تصفية الشيوعيين الدموية للعروبيين في الموصل بعد فشل حركة العقيد عبد الوهاب الشواف ،أن النظام في العراق “أكثر تقدماً” من نظام عبد الناصر(“البرافدا”،17-031959،نقلاً عن حنا بطاطو:”العراق:الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار”،الكتاب الثالث،مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت1992، ص176).
خلال سنوات الوحدة وبالذات منذ الاعتقالات كانت سياسة الحزب الشيوعي السوري تتركز على معاداة عبدالناصر بل كان الخطاب الاعلامي يصل إلى أن “الوحدة كانت مؤامرة أوحت بها واشنطن لضرب القوى اليسارية المتعاظمة في سورية”(1)وفي موضوع تأميمات تموز\يوليو1961للمصانع والبنوك اعتبرت جريدة “النداء”(22-9-1961)أن التأميم”تضليلي”وأن هناك “تحكم مصري” وتحدثت بعد يومين عن “التحكم المصري وأن الشعب السوري الناقم والمتحفز يناضل لانهاء حكم السيطرة المصرية ولإعادة النظر في الوحدة من الأساس \ودعت\إلى إقامة جبهة وطنية ضد الحكم الناصري”(2).
كان هذا قبل أربعة أيام من انقلاب الانفصال،لذلك كان طبيعياً أن يؤيد الحزب الشيوعي السوري الانفصال ،ومن يراقب سياسة الحزب في فترة الانفصال التي انتهت مع انقلاب08-03-1963يلاحظ أن هناك عودة إلى سياسة الحزب في المؤتمر الثاني عام1944عندما جرى التركيز على مهمات ديمقراطية وطنية وعلى تجنب سياسة يسارية طبقية كماجرى في كراس1951، مع اتجاه إلى التحالف أوعدم مصادمة الأحزاب البرجوازية التي عادت لتصدر المشهد بفترة الانفصال،مثل حزبي (الشعب)و(الوطني)،ومع نغمة عداء شيوعية للعروبيين كانت محصلة لصدام 1959-1961.
في عام1962حاول خالد بكداش العودة لدمشق ولكنه منع من النزول من الطائرة ولم تطأ قدماه دمشق سوى بعد حركة 23-02-1966.في فترة مابعد 28-09-1961كانت قيادة الحزب الشيوعي السوري وحتى عودة بكداش لدمشق مؤلفة من الرباعي:(يوسف فيصل- دانيال نعمة- موريس صليبي- ظهير عبد الصمد).تم تجميد عضوية أحمد محفل بعد خروجه من السجن وكانت تهمته التساهل في المفاوضات مع كمال الدين رفعت، وتسريب كلام مبعوث عبد الناصر عن البعثيين وأكرم الحوراني لهما . أرسل الكثير من الكوادر الحزبية التي خرجت من السجن للدراسة في الاتحاد السوفياتي (مثل رياض الترك ) أوللدراسة في معهد كارل ماركس ببرلين الشرقية (منذر الشمعة) . كان هناك الكثير من سجناء المزة الذين كان لهم دور كبير في إعادة بناء منظمات الحزب مثل بدر الغزي(الطويل)في اللاذقية أوعمر قشاش وعمر السباعي وخالد حمامي في حلب أوصبحي أنطون في منطقة الجزيرة أوميشيل عيسى في طرطوس وعبد الكريم أبازيد في درعا أوعبد العزيز حربا في إدلب أومراد القوتلي وعبد الوهاب رشواني في دمشق ومراد يوسف ونبيه جلاحج وفايز جلاحج في القنيطرة أوعبدالجليل بحبوح وقوزما كسيري في ريف دمشق وبرهان دراق السباعي ووصفي البني وسميح الجمالي في حمص.
عند وقوع انقلاب 08-03-1963،وهو تحالف بين البعثيين والناصريون ثم تم ابعاد الأخيرين بعد فشل محاولة انقلاب العقبد جاسم علوان في 18-07-1963المدعومة من عبدالناصر، كان العداء الشيوعي للحكم الجديد محكوماً بالعداء الشيوعي- العروبي الذي أصبح عمره أربع سنوات وأكثر ومحكوماً بالمجزرة الدموية التي قام بها البعثيون العراقيون ضد الشيوعيين بعد انقلاب8-02-1963، وفي صيف 1963جرت اعتقالات لشيوعيين سوريين شملت كوادر في اللاذقية (أحمد فاضل) وحمص(مشهور غريبة)وقتل أحد الشيوعيين تحت التعذيب في حمص هو عبد القادر الإخوان.
كان انقلاب 08-02- 1963في بغداد وسقوط حكم عبدالكريم قاسم ،وهناك علامات ومؤشرات كثيرة على تعاون مصري- أميركي فيه لاسقاط حكم يلعب فيه الشيوعيون دوراً رئيسياً (3) ، محطة ضرب فيه الجهد السوفياتي لإقامة نفوذ شيوعي مباشر، ولو من وراء ستارة حاكم عسكري فرد، بالحائط في منطقة الشرق الأوسط . بعده بأشهر بدأت تظهر أطروحات سوفياتية جديدة عن “أنظمة ديمقراطية وطنية”،لوصف أنظمة مثل النظام المصري والنظام الجزائري بقيادة أحمد بن بيلا،ثم أتبعت بوصف جديد هو “أنظمة ديمقراطية ثورية”في خريف 1963. كان صاحب هذا التنظير الجديد هو (أوليانوفسكي)،نائب رئيس القسم الدولي في الحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان يرأسه بوريس بوناماريوف ،وأوليانوفسكي كان هو المختص السوفياتي الرئيسي في الشؤون الآسيوية- الافريقية. في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي بيوم 14-02-1964قدم ميخائيل سوسلوف بتقريره الفكري – السياسي مقولة جديدة هي “التطور اللارأسمالي” جاء فيه:”المهمة الرئيسية بالنسبة للمستعمرات السابقة ..هي توطيد الاستقلال الذي انتزعته، واستئصال جذور الاستعمار في اقتصادها ، وتطوير اقتصادها القومي بوتائر سريعة ، والحصول على الاستقلال الاقتصادي ، والسير في طريق التقدم الاجتماعي والاقتصادي…وفي عدد من البلدان ، تنشأ منذ البداية، خلال حل هذه المهام،المقدمات من أجل التطور في طريق غير رأسمالي، في طريق الاشتراكية ” (4)،وفي نصوص لاحقة قدمها السوفيات يؤكدون على أن “التطور اللارأسمالي” يمكن أن يكون ممكن التحقيق في بلدان يحكمها “الديمقراطيون الثوريون” ويتعاون معهم الشيوعيون المحليون فيماتقوم (الكتلة الاشتراكية) بدعم البلد المعني.
كانت عين موسكو على نيودلهي والقاهرة. ففي ظرف الخلاف السوفياتي- الصيني منذ عام1960،وبعد النكسة التي عاناها خروتشوف أمام جون كينيدي عندما أجبر عام1962على سحب الصواريخ السوفياتية من كوبا عام1962،كان السوفيات في حالة تلهف لمكاسب خارجية ، وقد رأوا في الهند حليفاً ممكناً بعد الحرب الصينية – الهندية عام1962، لذلك ضغطوا على الحزب الشيوعي الهندي للتعاون مع حزب المؤتمر الحاكم . في الوقت نفسه كان نشوء وتدشين التعاون الاستراتيجي الأميركي- الاسرائيلي بعد زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد ليفي أشكول لواشنطن في شباط\فبراير1964كسراً لتعاون أقامه عبدالناصر مع رئيسين أميركيين سابقين هما دوايت أيزنهاور وجون كينيدي(اغتيل في 22-11-1963) منذ صيف1958، وقد وجد الرئيس الأميركي الجديد ليندون جونسون في رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد نموذجاً مختلفاً عن سلفه دافيد بن غوريون الذي كان يثق أكثر في “القارة العجوز”بلندن وباريس وهو ماقام بتطبيقه عملياً في حرب 1956التي وقف أيزنهاور ضدها.
من هنا كانت تنظيرات اوليانوفسكي وسوسلوف وقوداً لمركب السياسة السوفياتية الخارجية ، وكان المطلوب من الأحزاب الشيوعية في آسيا وافريقيا الانسجام مع هذه التوجهات . في تشرين الثاني\نوفمبر1964انشق الحزب الشيوعي الهندي إلى حزبين :(الحزب الشيوعي الهندي\الماركسي)،وهو موال للصين ورافض للتعاون مع حزب المؤتمر، وهو مازال حتى الآن هو الحزب الشيوعي الأقوى وقد حكم ولايات مثل البنغال الغربية وكيرالا، و(الحزب الشيوعي الهندي)الموالي لموسكو والذي تعاون مع حزب المؤتمر في زمن أنديرا غاندي(1966-1977،ثم 1980-1984). كانت زيارة خروتشوف لمصر في أيار\مايو1964فرصة لتطبيق مترتبات التنظيرات السوفياتية الجديدة عبر نظرة جديدة سوفياتية إلى عبدالناصر مع الضغط على الشيوعيين المصريين ،الذين أخرجوا من السجن بالتزامن مع زيارة خروتشوف ، من أجل حل الحزب الشيوعي والدخول فرادى في (الاتحاد الاشتراكي). في العراق كاد الشيوعيون العراقيون باجتماع لجنتهم المركزية أن يفعلوا مافعله الشيوعيون المصريون عبر (وثيقة خط آب1964)تجاه نظام عبدالسلام عارف حليف عبدالناصر قبل أن يتراجعوا تحت ضغط القاعدة الحزبية .
عارض خالد بكداش التوجه السوفياتي الجديد حول “التطور اللارأسمالي” وظل لنهاية حياته عام1995يعارض هذا التوجه،وكانت هذه هي المرة الوحيدة منذ أن اصبح أميناً عاماً للحزب عام1937 التي يختلف فيها مع السوفيات،هذا من دون حساب معارضته للبيريسترويكا عند غورباتشوف منذ عام1987،كما عارض مصطلح “الديمقراطية الثورية”،وقد أبرز معارضته في الذكرى الخمسين لثورة أوكتوبر بندوة عقدت بموسكو عام1967 بمرة جديدة غير ماأبداه من معارضة في عام1964، وهو ماعاد للتأكيد عليه في كلمته التي ألقاها في المجلس الوطني للحزب المنعقد في تشرين الثاني\نوفمبر1971(ضمن كتاب “قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري”،دار ابن خلدون، بيروت1972،ص ص 205-206).
لم يمنع هذا خالد بكداش من أن ينسجم مع التوجهات السوفياتية الجديدة ولكن سياسياً من دون الجانب الفكري المتعلق بتلك المقولتين ، وعندما قامت القيادة القومية لحزب البعث بحل القيادة القطرية في الشهر الأخير من عام1965أعطيت تعليمات لعضو القيادة الداخلية للحزب دانيال نعمة بأن يتفاوض مع الجناحين البعثيين المتخاصمين وأن يجتمع مع كل منهما على انفراد وأن يسمعهما الكلام نفسه بانتظار ساعة صلحهما أوحسم أحدهما للصراع ، وهو ماحصل في صبيحة 23-02-1966عندما حسم القطريون بزعامة اللواء صلاح جديد الصراع عبر القوة العسكرية ، وهو ماأعقبه دخول شيوعي هو سميح عطية إلى وزارة الدكتور يوسف زعين ولكن بصفته الشخصية وليس الحزبية، وهو ماتكرر عام1969مع دخول واصل فيصل للوزارة التي ترأسها رئيس الدولة نور الدين الأتاسي وأيضاً وزيراً للمواصلات، ورغم هذا فإن جواً جديداً قد نشأ بين الشيوعيين وحزب البعث الحاكم،هو جو من التعاون ولولم يرتقي إلى مستوى التحالف.
في هذه الأجواء عاد خلد بكداش إلى دمشق في آذار1966.
تقارب نظام 23شباط مع موسكو والقاهرة ، وكان له توجهات يسارية راديكالية تكاد تقترب من الماركسية. تمتع الحزب الشيوعي بجو من الحرية النسبية،وساهم الكثير من أعضائه ،من مهندسين وتقنيين، في بناء سد الفرات، وبرز شيوعيون في مجالات الحياة الأكاديمية والأدبية والفنية وفي الصحافة ووسائل الاعلام.
كان نمو الحزب بطيئاً ، ولكنه تسارع بعد هزيمة حرب حزيران1967حيث برز اتجاه اجتماعي قوي نحو الماركسية واليسار،وقد عاش الحزب الشيوعي السوري فترة نمو كبرى في العضوية، وبحيث أن الحزب كان يضم عشرة آلاف عضو وألفا مرشح للعضوية(الترشيح ستة أشهر من تاريخ تقديم طلب الانتساب للحزب) عند انعقاد المؤتمر الثالث للحزب في حزيران1969. كان وضع خالد بكداش صعباً في المؤتمر حيث اضطر لتقديم نقد ذاتي غير مسبوق في حياته الحزبية،وكان النقد الذاتي الأكبر في القضايا التنظيمية في التقرير الذي قدمه كأمين عام للحزب أمام المؤتمر:”الأسباب التي حالت في أن يكون حزبنا أقوى وأمتن..منها .عدم عقد المؤتمر خلال 25عاماً وقد أدى ذلك عملياً إلى خرق العمل الجماعي ومبادىء المركزية الديمقراطية ، وعدم احترام الهيئات الحزبية.. والمسؤولية في ذلك تقع عموماً على اللجنة المركزية ،وعملياً على المكتب السياسي، وعلي أنا الأمين العام بوجه خاص”(كتاب”وثائق المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري”،غير محدد مكان وتاريخ الطبع،ص102).في المجال السياسي انتقد موقف الحزب من التأميمات زمن الوحدة(ص102).وهو في حزيران كان أكثر حرصاً في المؤتمر على وجه الحزب المستقل من مناوئيه في ظل تقاربهم هم مع “الديمقراطيين الثوريين”وتأييدهم ل “الطريق اللارأسمالي”، لذلك كانت تلك العبارة في تقرير بكداش تعكس جوه الفكري ضد تلك المقولتين:”لايمكن بناء الاشتراكية إلابقيادة الطبقة العاملة وليس بقيادة طبقة أوفئة أخرى حتى ولوكانت فقيرة…ولايمكن بناء الاشتراكية على أساس أية تعاليم أخرى مهما كانت بل فقط على أساس تعاليم الاشتراكية ،أي تعاليم الماركسية اللينينية”(ص91).
في المؤتمر الثالث كان هناك مفارقة غريبة:الاتحاد السوفياتي يريد تقارب الشيوعيين مع البعث ، والشخص الأقرب للشيوعيين السوفيات هو حذر من هذا الاقتراب بسبب قضايا فكرية عنده ، فيما الذين يريدون الاستقلالية للحزب الشيوعي السوري عن السوفيات يقتربون فكرياً في قضايا الوحدة العربية وفلسطين ورفض الحل السلمي والقرار242 من البعث الحاكم . ربما هذه المفارقة كان يمكن أن تقود إلى انتصار الجناح المضاد لبكداش في الحزب لولم يسقط نظام 23شباط في يوم16تشرين الثاني 1970ويأتي نظام جديد في دمشق يقبل بالقرار 242الذي يدعو لتسوية سلمية مع اسرائيل ،فيما حسم السوفيات موقفهم ضد صلاح جديد بعد تدخله العسكري في أحداث الأردن في أيلول1970مع المقاومة الفلسطينية ضد السلطة الأردنية ، وهو ماكاد أن يقود إلى حرب في المنطقة عبر تدخل عسكري اسرائيلي في الأردن، هذا غير موقف صلاح جديد الرافض في صيف1970لقبول عبدالناصر بمبادرة وزير الخارجية الأميركي وليام روجرز للحل السلمي ووقف حرب الاستنزاف على جبهة قناة السويس وتطبيق القرار242المتفق عليه منذ عام1967بين موسكو وواشنطن.
كان هناك توازن في المؤتمر الثالث:لم تحسم القضايا الفكرية والسياسية الكبرى بل تركت مؤجلة لسنة قادمة حتى صيف1970حتى تنتج لجنة خاصة مشروع البرنامج السياسي، وفي الوقت نفسه لم يقدم بكداش في تقريره أمام المؤتمر تنازلات فكرية وسياسية جوهرية ، فيماكانت خساراته في المجال التنظيمي عندما صعدت لجنة مركزية جديدة ومكتب سياسي لم يكن يملك الأكثرية فيهما ، وقد كان ملفتاً أن يكون في اللجنة المركزية الجديدة سبعة من سجناء المزة من أصل ستة عشر عضواً اثنان منهما في المكتب السياسي بأعضائه السبعة.
عندما صيغ مشروع البرنامج السياسي وجرى التصويت النهائي عليه في صيف1970كان خالد بكداش لوحده ووجد نفسه معدوم القدرة في اللجنة التي ترأسها لصياغة المشروع وفي اللجنة المركزية التي وافقت على المشروع واعتمدته ووضعته للنقاش أمام أعضاء الحزب من أجل الذهاب إلى مؤتمر استثنائي لاقراره. لذلك لجأ بكداش إلى عملية تكتيكية بارعة وهو تسريب مشروع البرنامج إلى الحزب الشيوعي السوفياتي والطلب منه ابداء ملاحظات سوفياتية على المشروع ، وهو ماشاركت فيه مستويات سوفياتية عليا مثل سوسلوف وبوناماريوف وأوليانوفسكي ويفغيني بريماكوف مدير وكالة تاس في منطقة الشرق الأوسط ، وقبل ارسالها للشيوعيين السوريين في أيار صودق النص من قبل المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي في أيار\مايو1971.
كانت التوازنات قد مالت كثيراً لصالح بكداش بعد سقوط نظام صلاح جديد ، حيث نال أكثرية الأصوات في التصويت الذي جرى بعد حركة 16تشرين الثاني1970على اشتراك الحزب الشيوعي بوزيرين في الحكومة الجديدة بشكل رسمي لافردي ،فيما وجد مناوئوه أنفسهم بالتصويت في موقع الأقلية 7\15بعد تجميد عضوية احمد فاضل باللجنة المركزية في صيف1970، حيث انتقل دانيال نعمة للتصويت على الاشتراك بالوزارة بعد أن كان رافضاً له ، وهو مارجح الكفة . قبل 16تشرين الثاني 1970كان بكداش وحيداً أويجد معه عضو اوعضوين بالتصويت ثم بعد ذلك التاريخ وجد معه يوسف فيصل وموريس صليبي وكتلة ثابتة من سبعة من أصل 15عضواً في اللجنة المركزية واحياناً يكون معه ثمانية عندما ينتقل دانيال نعمة للتصويت مع جناح بكداش كمافي تصويت وزارة 1970وتصويت الانضمام الشيوعي إلى “الجبهة الوطنية التقدمية” في آذار1972.
جاءت الملاحظات السوفياتية لكي تجعل بكداش في وضع أقوى عندما وضع الحزب أمام خيارين:إما مع مشروع البرنامج أومع الملاحظات السوفياتية؟..هذه المعادلة استطاع بكداش تفعيلها في المجلس الوطني للحزب المنعقد في تشرين الثاني1971وفي عملية استقطاب المؤيدين له الذين برزوا تكتلاً واضحاً في كافة منظمات الحزب ثم ظهر هذا علناً مع بيان 03-04-1972الذي نقل أزمة الحزب إلى العلن وإلى التبلور بجسمين تنظيميين لم يستطيعا العودة للجسم الحزبي الموحد بعد هذا التاريخ الذي صدر فيه البيان الذي يقول بأن هناك”كتلة تحريفية انتهازية يقودها رياض الترك ثابرت بعناد على هدفها الرئيسي..وهو تبديل سياسة الحزب عن طريق تبديل قيادته والسيطرة التامة عليه..\ثم يعدد البيان قضايا الخلاف في القضايا التالية:\تاريخ الحزب،القضايا القومية،القضية الفلسطينية،قضية التعاون مع حزب البعث،الاستقلالية والابتعاد عن الاتحاد السوفياتي” (5).
في توازنات الحزب الشيوعي السوري يوم 03-04-1972 يلاحظ التالي:8\15ضد بكداش في اللجنة المركزية و5\7في المكتب السياسي ضده . في الجسم العام للحزب وقف مايقارب الثلثين مع (جناح المكتب السياسي) ضد (جناح بكداش) ، ووقفت مع (المكتب السياسي)أغلبية منطقيات دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس ودرعا والرقة وديرالزور وغالبية منظمتي جامعة دمشق وحلب،فيماوقفت غالبية منطقيات السويداء وحلب وإدلب وحماة والجزيرة مع (جناح بكداش) .
هوامش البحث
(1)الياس مرقص:”تاريخ الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي”،دار الطليعة،بيروت1964،ص 114.
(2)مرقص:”المرجع السابق”،ص 122.
(3) William j.zeman:”u.s.covert intervention in iraq1958-1963″, a thesis to California state polytechnic university,2006.52pages ,p d f.
Docs.google.com\document\a\11zxtatmoknblrmw5n4-plxmndvuzxehmysd-uc_jrk\edit
(4)ستيوارت شرام وهيلين كارير دنكوس:”الماركسية اللينينية أمام مشاكل الثورة في العالم غير الأوروبي” ، دار الحقيقة، بيروت ،1970، ص425.
(5)بيان 03-04-1972 موجود نصه في كراس :”الحقيقة عن الأزمة في الحزب الشيوعي السوري “،الصادر عن جناح بكداش في كانون الثاني1988،ص93.[1]