اعداد : هوزان أمين
على الرغم من مرور 51 عاماً على حريق سينما شهرزاد في مدينة #عامودا#، لا تزال قلوب شعب عامودا تحترق حزناً على ما أصابهم من أمر جلل .
أريد من خلال هذا التحقيق تسليط الضوء على ذلك الحدث الذي جرى منذ سنوات طويلة في تلك المدينة الكردية النائية في اقصى شمال شرق سوريا على الحدود التركية ، وراح ضحيتها اكثر من 283 طفل كردي جميعهم في المراحل الابتدائية.
سأحاول العودة عدة عقود الى الوراء وتحديداً الى 13 من تشرين الثاني عام 1960، حينما التهمت السنة اللهب أجساد أطفال عامودا الغضة المسجونة داخل صالة سينما عامودا للوقوف على تلك اللحظات المؤلمة التي عاشها أهالي عامودا من هول الحريق الذي شب في سينما شهرزاد .
مقدمة لا بد منها :
نستطيع القول انه تم ابادة جيل كامل، طلبة وثوار كان ينتظرهم مستقبل واعد وكذلك يطمح اهلهم بهم بمستقبل يشرفهم ، ولكن هيهات فقد ماتوا في ريعان شبابهم وانطفئوا كما الشموع .
نشأت حكايات وقصص وملاحم سيتذكرها اجيال وراء اجيال ، حريق التهم كل شيء واحترق قلوب الامهات الثكالى الذين لم ينسوا ألم ولوعة تلك المأساة الى اليوم نتيجة حشد تلك الجموع الكبيرة من الطلاب في السينما الذي لا يتسع لتلك الكمية الكبيرة من الاجساد الغضة .
آثار الحريق :
على الرغم من مرور 51 عام على تلك الكارثة الانسانية الكبيرة ، نستطيع القول ان تأثيرها ما زال قائماً على تلك المدينة ويتوضح ذلك في العديد من المعالم التي تذكر شعب تلك المدينة بذلك الحدث الأليم، فالتمثال الذي نصب داخل حوش السينما ، وكبر مقبرة عامودا مقارنة مع عدد سكانها، والصور المهترئة والمخبئة بين صدور الامهات، كلها دلائل على عظمة تلك الكارثة التي ستبقى في ذاكرة الكرد ابد الدهر .
كيف حدث الحريق؟ وما هي الاسباب ؟! كيف جرت الامور ؟ وماذا كانت النتائج ؟ ومن هم المتهمون ؟؟ كل هذه الاسئلة لا زالت معلقة وبحاجة الى اجوبة ، سنحاول تسليط الضوء على الحدث ومعرفة الاسباب والنتائج .؟
من اين بدأت الحكاية :
قام مدير ناحية عامودا آن ذاك باتخاذ قرار بعد ان اجتمع بمدراء المدارس ووجهاء المدينة ، بأن يتم حجز سينما عامودا ليوم كامل من اجل دعم الثورة الجزائرية عبر اجبار طلاب المدارس بدفع ربع ليرة سورية وحضور فيلم عن الثورة الجزائرية لاجل مشاهدة فيلم عن استقلال الجزائر وثورتها ضد الاستعمار الفرنسي (1954‒1962)، ويعود بريع تلك التبرعات الى الثورة الجزائرية التي كانت ما تزال تناضل من اجل الاستقلال ، اذاً ابتكر مدير الناحية فكرة عرض فيلم سينمائي في السينما الوحيدة في تلك البلدة النائية والمعروفة بسينما ( شهرزاد ) .
يوم العرض والكارثة :
بناء على قرار مدير الناحية تم اخذ الطلبة الكرد من المرحلة الابتدائية الى السينما ولكن بدلاً من عرض ذلك الفيلم تم عرض فيلم جريمة منتصف الليل الذي كان يقوم ببطولته الفنان المصري الراحل محمود المليجي ، وكان الفيلم مرعباً ويحتوي على مشاهد لا تناسب اعمار اولائك التلاميذ ، وهنا يتم طرح السؤال التالي لماذا عرض ذلك الفيلم !؟
تم عرض الفيلم لعدة مرات متتالية خلال اليوم دون استراحة ، ويقال ان السينما قد حشد باعداد هائلة تفوق استيعابها الطبيعي ، حيث ان السينما كان يحتوي على 200 مقعد ولكن في المرة الاخير تم دفع قرابة 500 طالب الى داخل الصالة ، وكانوا يحصرون بعضهم البعض داخل تلك الصالة التي اصبحت ضيقة جدا عليهم وبعضهم كان واقفاً .
الشرارة :
اندلعت الشرارة الاولى للنار من غرفة تشغيل الفيلم ويقال ربما من المولد الكهربائي الذي كان على مقربة منها، الذي ازدادت حرارته كثيراً من عمله المتواصل خلال النهار، وتوسع نطاق اللهب الى داخل الصالة ، ومعلوم ان بناء السينما في ذلك الزمان كان بالطرق القديمة وحتى جميع مكينات والآلات التي كانت موجودة تعتبر قديمة مقارنة مع زمان ومكان السينما ، حيث ان البناء من الطين واللبن ومسقوف بالقش والعواميد الخشبية ، وتلك العوامل ادت الى سرعة في انتشار الحريق وفي زمن قياسي احاط بداخل السينما كلياً .
وحسب ما يقال من شهود كانوا موجودين اثناء الحدث ولا يزالون على قيد الحياة ، والذي جعل النار ينتشر بتلك السرعة هي وضع جوالات او اكياس من الخيش مدهونة بالزيت او مادة سريعة الاشتعال على حيطان السينما وفي عدة اماكن اخرى يقال انها كانت لغرض الزينة.
الهلع والخوف :
تلك الاسباب التي ذكرناها جميعاً كان الدافع وراء اندلاع النار وانتشارها كالهشيم ، وذلك حسب روايات اناس عايشوا ذلك الحدث وشاهدوه بأم اعينهم ، وبطبيعة الحال النار والدخان المتصاعد خلق حالة من الرعب والهياج بين الطلبة وتوجهوا جميعاً للوهلة الاولى الى الباب طلباً للنجاة والفوز بالخروج خارج الجهنم الذي وجدوا انفسهم فيه، كان هناك بابان للدخول والخروج من الصالة، ولكن للاسف نتيجة تلك الاجواء المرعبة والصراخ والدخان والعتمة التي المت بالقاعة وتكدس اعداد كبيرة خلف الابواب ادت الى انغلاق الابواب بوجههم نظراً ان الابواب كانت تفتح الى الداخل ، ونتيجة تكدسهم اصبحوا باجسادهم سداً امام الهروب والخروج الى خارج الصالة ، واغلقت ابواب النجاة امامهم وماتوا جميعاً جثثاً متراكمة على بعضهم البعض ، تلك المحاولات اليائسة التي حاولوا الفرار من خلال الباب ادت الى موتهم جميعاً ، فالابواب كانت ضيقة لا يتجاوز عرضها الثمانين سنتميتراً وبارتفاع مترين، وزاد على الطين بلة انه كانت تفتح على داخل القاعة، حتى وان جرت محاولات لفتح الباب ودفعه من الخارج لكن باءت كلها بالفشل لان اجسادهم المحترقة والمختنقة اصبحت كالتلة وراء الباب، واصبحت عقبة امام من بقي حياً داخل القاعة وبهذا الشكل اغلق البابين وفقدت فرص النجاة للاحياء المتبقين ، إلا بطرق ومحاولات سلك بعض الطلبة طريق النجاة عبر النافذة العالية ، وكثيراً من الطلاب الذي خرجوا من النافذة سقطوا في البئر الموجود اسفل النافذة تماماً ، وكذلك نجى البعض الاخرى بطرق ومحاولات يائسة ، ربما جرحوا وتركت عليهم اثار الحروق الى اليوم .
الوجع الكبير :
لم يكن يوجد اطفائية في بلدة عامودا لذلك قدمت من مدينة القامشلي ووصلت متاخرتاً الى مكان الحادث ،وحين وصولها كان كل شيء قد انتهى، تم اسعاف الجرحى الى المشفى الحكومي في القامشلي، وكذلك اخذ الضحايا الى الجامع الكبير فرادا وجماعات، على عربات وآلات بسيطة متوفة حين ذاك ، حيث التحم اجساد العديدين منهم مع بعض وانصهرت وكان يصعب التعرف على قسم كبير منهم، وكان اهاليهم يتعرفون عليهم بصعوبة بالغة عبر اشارات وعلامات كانت تميز الواحد عن الآخر، ضمن هذه الاجواء المشحونة بالحزن وامام صراخ وعويل النساء، وامهات الضحايا وقف العالم لبرهة من الزمن يتأملون هذه الكارثة الكبرى والتي يعجز اللسان عن وصف معاناة والم اهالي الضحايا واقربائهم، بكاء الامهات كان يشق عنان السماء، كالبرق يضوي سماء خريف عامودا المتلهب.
محمد آغا ، ابن سعيد آغا الدقوري :
كيف اصبحت عامودا ولقبت ب عامودا ابو محمد ؟ حينما احترقت السينما، كان محمد سعيد آغا الدقوري جالساً يحتسي الشاي داخل احدى المقاهي في البلدة ، يسمع بحادث احتراق السينما ، يقوم على عجلة ويركض باتجاه مكان السينما ، لان ولده ايضاً كان من بين الطلبة الموجودين داخل السينما ، ولكن في الطريق يأتي اليه ابنه ويقول له يا ابتي انا حي وقد نجوت بنفسي هيا لنعد الى البيت ، حينها يقول لابنه لا ابني شباب عامودا كلهم ابنائي وعلى عجلة يصل الى مكان الحادث وببطولة قل نظيرها يقتحم النار وفي كل مرة يعود الى الخارج بطفلين يحملهم وينتشلهم من بين النار الملتهبة، وهكذا عدة مرات يذهب ويعود وينقذ ارواح الطلبة والاطفال ويقال انه انقذ اكثر من عشرة اطفال كان مصيرهم الموت المحتم، ولكن للاسف نتيجة الاحتراق وزيادة درجة الحرارة ادى الى سقوط السكة الحديدية الموجودة في اعلى السقف وسقوطها عليه، وادى ذلك الى استشهاده على الفور ، ومنذ ذلك الوقت اطلق لقب عامودا ابو محمد على المدينة .
تمثال سينما عامودا :
لكي يبقى ذلك اليوم الاسود في ذاكرة اهالي عامودا ولكي لا يتم نسيانها ، وبناء على طلب اعيان المدينة واهالي الضحايا ، تحول موقع السينما الى حديقة عامة وزرعت فيها الاشجار والورود والازاهير ، ووضع في وسطها وعلى قاعدة كبيرة تمثال كبير تذكاراً لضحايا تلك الفاجعة ، قام بصنع التمثال النحات السوري المشهور محمود جلال والتمثال عبارة عن ( ثلاثة اولاد يستندون بظهورهم لبعضهم البعض ويحيط بهم نار ملتهبة ، ويرفعون معاً علم الجمهورية الجزائرية ) ومنذ ذلك الوقت التمثال في مكانه ، واصبح رمزاً لسينما عامودا .
من المتهم :
حتى الآن لم تصدر من الدوائر الرسمية الحكومية اي تصريح او توضيح حول الحادث ، على الرغم من انه تم اعتقال صاحب السينما وعمالها آنذاك ، ولكن اطلق سراحهم بعد فترة ، واعتبر الحادث قضاء وقدر واغلق ملف التحقيق، هذا التصرف من جانب الحكومة جعلتها محل شك واعتقاد بافتعال الحدث ، وهناك عدة عوامل اخرى تضع الحكومة او السلطات المحلية في قفص الاتهام ،الا وهي لماذا يمنع لحد اليوم احياء ذكرى شهداء تلك المجزرة اذا اعتبرناها قضاء وقدر ، لماذ يغلق الابواب امام البحث والتعمق في اسباب ودوافع الحادث ولا يفتح الابواب امامهم ، لماذا لا يفتح المجال امام المؤسسات المستقلة للقيام بذلك ؟!
الكل يعلم بأ ن الشرارة انطلقت من المولد الكهربائي ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بالحاح ، كما يقول بعض شهود العيان ، انه تم اغلاق الباب من الخارج ، وتم اخراج ابن مدير ناحية عامودا وابناء بعض المسؤولين و العاملين في السينما من الصالة قبل الحريق بدقائق !؟، تلك الجوالات او الاكياس المدهونة بالدهن من جاء بها ونشرها على الحيطان ؟ عدم فتح الطريق امام اهالي الضحايا للقيام بمحاولات انقاذ لاولادهم؟ كل هذه الاسباب يخلق الشكوك والظنون انه كانت هناك عمليه مدبرة لذلك، وكل تلك الاسئلة بحاجة الى اجوبة مقنعة وشافية ؟.
لاجل هذه الاسباب تتهم بعض الاوساط السياسية من الحركة الكردية في سوريا الحكومة بتدبير الامر ، بسبب تلك العوامل التي ذكرناها قبل الآن ، بالاضافة الى سبب آخر وهو مهم جداً ويجب توضيحه ، انه في ذلك الوقت كانت هناك هجمة شرسة وقوية على الحركة الكردية في سوريا ، وادت الى اعتقال المئات من الشخصيات السياسية وتم زجهم في المعتقلات والسجون ، بالاضافة الى هدف آخر ربما كانوا يزعمون من خلاله بضرب الشعب الكردي وتحطيم معنوياته ، عن طريق ضرب مدينة عامودا اولاً نظراً لما يشكله تلك المدينة من دور مهم في قيادة الحركة الكردية في جنوب غرب كردستان ، وهي مدينة لها جذور تاريخية عميقة تدل على اصالة وتاريخ الشعب الكردي في تلك المنطقة ، ومشهورة كذلك بمثقفيها وشخصياتها الفريدة ، وكانت مركز النضال الكردي في سوريا ، اذا اضفنا هذه الاسباب على تلك التي عددناها في البداية ، يمكننا استخلاص نتيجة هامة ، والغاية من حرق السينما اذا تسلمنا ان الامر ليست قضاء وقدراً انما حادثاً مفتعلاً .
شاهد يتناول الحدث ويصدر كتاباً :
كتاب حريق سينما عامودا لمؤلفها المرحوم ملا أحمد نامي وترجمة عبدالقادر عكيد ، يعتبر هذا الكتاب وثيقة حية على تلك الجريمة المروعة التي المت بخيرة شباب مدينة عامودا آن ذاك ، حيث يسرد الكاتب حكاية السينما وفق ما شاهده بأم عينه وخلال بحثه وسؤاله عن اسباب اندلاع الحريق ويستوحي من خلال ذلك نتائج مهمة جداً حول اسباب ودوافع الحريق وما آلت اليه بعد ذلك ، حينما كان الضحايا مزمعين على مشاهدة فيلم عن الثورة الجزائرية بهدف الدعم والمساعدة للثورة اصبحوا هم ممثلين في فيلم مرعب ذهبوا بأرجلهم الى مثواهم الاخير.
حيث يصف الكاتب الحريق الذي التهم اجساد تلك الضحايا الغضة بمثابة مجزرة هيروشيما الاكراد ، ويقول اثناء سرده للقصة بشكل يدمع العيون و يدمي القلوب ويحرق الابدان اثناء قيام الاباء والامهات بدفن فلذة اكبادهم ( جلس الآباء والامهاد البائسات كل بجوار قبر فلذة كبده مردداً : يا نور عيني امك البائسة ذلك العويل الذي تطلقه بين انياب ومخالب ذلك التنين الناري صارخاً ((يادي هواري ، يابو هواري )) لا ينسى حتى اوارا الثرى ، وتنمو الاعشاب شبرا على صدري ، تلك التأوهات لا تفارق اذني ابداً) .
وقام بطباعة الكتاب مؤسسة سما للثقافة والفنون ووجدت من الاجدر نشر وطبع هذا الكتاب كعربون وفاء لارواح شهداء سينما عامودا وتقديراً لجهود المرحوم ملا احمد نامي في ابراز هذا الحدث الذي تناوله بكل عفه ومصداقية وشفافية وتقديمه للاجيال القادمة كدليل على مدى حب و إنسانية الشعب الكردي ، وتأثره بآلام الغير، وهي صفة تميز روح هذا الشعب الانساني الذي لم يقصر يوماً في دعم الشعوب المظلومة والمضطهدة وهو الذي يعاني من الظلم والاضطهاد اصلاً .
صدى حريق السينما :
يقال ان خبر حريق سينما عامودا اذيعت في راديو هيئة الاذاعة البريطانية BBC، وكذلك قام الصحفي محمد رفعت مراسل مجلة المصور المصرية بتوثيق الحدث عبر التقاطه لصور فريدة لحدث السينما وما بعدها وتصويره تلك الكارثة الانسانية الكبيرة ، وكتابته لتحقيق مطول برز على غلافها الرئيسي عبر عنوان بالبنط العريض المصور يعيش مأساة سينما عامودا بعد ان عايش الصحفي تلك الحادثة ولامس الوضع بحسه وشعوره العميقين ، ومشاهدته للحدث بأم عينه ، واستطيع القول لولا تلك المجلة وجهودها الكبيرة في ابراز الحدث وتسليط الضوء لما كانت لدينا اليوم تلك الصور التي تصف الحدث .
مدينة عامودا :
هي احدى مدن كردستان الغربية ( سوريا) تقع ضمن محافظة الحسكة ، وتبعد 30 كم الى الغرب من مدينة القامشلي وعلى حدود كردستان الشمالة قبالة محافظة ماردين ، مدينة قديمة وتاريخية ، وكانت في العصور القديمة مركز حضارة السوباريون ، واحدى اهم آثارها التاريخية تل شرمولا ، ويقطنها حوالي 30 الف نسمة .
المصادر:
- كتاب : قصة حريق سينما عامودا للمؤلف ملا احمد نامي .
- موقع عامودا الالكتروني .
- موقع كردوتج الالكتروني .
[1]
- الصور مجلة المصور المصرية .