الطريق إلى العدالة يبدأ بمحاسبة مرتكبي الإبادة الإيزيدية
شورش درويش
صورة التقطت في 03-08-2014 لمجموعة اطفال ايزيديين وهم متوجهين من شنكال الى روج آفا عبر الممر الذي فتحته وحدات حماية الشعب (YPG) وتمكن عبره مئات الالاف من المدنيين الايزيديين من العبور والنجاة من تنظيم داعش الارهابي. تصوير: رودي سعيد
قد تبدو محاكمة قرابة عشرة آلاف سجين داعشي مسألة بالغة الصعوبة، إن لم نقل مستحيلة. هذه مسألة تدركها الإدارة الذاتية التي ترى أن سير العدالة سيبدأ بمحاكمة بعض عناصر التنظيم المنتقين بعناية والمسند إليهم إرتكاب جرائم وفقاً لأدلّة قطعية تقول الإدارة إنها تحوزها. هذا التصريح فُهم منه أنه موجّه لمحاسبة مقاتلي التنظيم الأشد خطورة وضراوة والأكثر تورّطاً في الإبادات والمجازر التي ارتكبت. ولعل فئة «الأمراء» و«الشرعيين» قد تكون الأهم لجهة بدء المحاكمات بها.
غير أن سير المحاكمات لا ينبغي أن يكون خارج العناوين التي يجب أن تعمل عليها الإدارة، ما يعني أن يتم تجزئة المحاكمات ليصار إلى محاكمة عناصر التنظيم على العناوين الكبرى التي عمل تحتها، كل على حدا. بذا، تكون الإبادة الإيزيدية أفضل خيار تنطلق منه مسيرة المحاكمات، ذلك أن المحاسبة على هذه الإبادة تكثّف معاني الإدانة التاريخية لجرائم التنظيم، مثلما حدث في محاكمات أوشفيتز في ألمانيا التي كان عنوانها محاسبة القائمين على معسكر الموت النازي في أوشفيتز وإبادة اليهود فيه. ففي 1963 ستنطلق محاكمات فرانكفورت لمحاسبة المتورّطين الأهم من بين ألفي عنصر من البوليس السرّي (SS)، فيما اقتصرت المحاكمات، بحسب تعبير حنة آرنت، على «عدد قليل من الحالات التي لا تُطاق»، في حين أن موجة المحاكمات الثانية بدأت في 1965 تحت العنوان ذاته خاصة وأن بعض الجرائم المرتكبة لم تكن محمية بموجب «قانون التقادم». وأيضاً خلال محاكمة نظام صدام حسين، تم اختيار أحداث مروّعة لتكون مدخلاً لمحاكمة المتهمين. حادثة الدجيل ومجزرة حلبجة كانتا من بين أشهر العناوين التي تمّ بموجبهما محاكمة زمرة القتلة الماثلة أمام محكمة مدججة بالأدلة والشهادات والقوانين المجرِّمة.
تحفل السجلات بحق الإيزيديين بالمجازر وعمليات الإبادة التي يطلق عليها اسم «الفرمانات». غير أن الإبادة رقم 74 وقعت في عصرنا نحن. أي أن المسؤولية تقع على عاتق شعوب المنطقة ودولها مرّة لأنها لم تحميهم من إبادة متوقّعة لحظة تقدّم التنظيم باتجاه معاقل الإيزيديين، ومرة لأنها لم تعالج ملف مرتكبي تلك الإبادة.
صحيح أن ارتكابات تنظيم داعش طاولت السنة والشيعة والإيزيديين أيضاً، سوريين وعراقيين وأجانب. لكن ما يجعل من الجرائم التي وقعت على الإيزيديين والإيزيديات أشد إجراماً هو أنها حملت كل خصائص الإبادة من ذبح وحشيّ إلى اغتصاب وانتزاع للأطفال من أهلهم بعد قتل ذويهم واسترقاق الأمهات وفصلهن عن أبنائهن. في العدد الرابع من مجلة «دابق»، لسان حال التنظيم، الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2014 نشر مقال حمل عنوان «إعادة إحياء العبودية قبل قيام الساعة»، الأمر الذي مثّل اعترافاً فظّاً ووحشياً من التنظيم بعمليات الاستبعاد المهولة (السبي)، وبمعزل عن توزيع الإيزيديات كغنائم للمشاركين في «غزوة سنجار»، فإن حصّة الخُمس وقعت في سهم ديوان «الغنائم والفيء» الذي قام بدوره ببيع الإيزيديات في الموصل والرقة. هكذا جعل التنظيم من الإجرام سياقاً طبيعياً مستلّاً من بطون كتب التراث والفتاوي المدمّاة. وجعل من هذا الشر المطلق شرّاً عادياً قابلاً للتصريف «الشرعيّ». وعليه، ستكون الحصيلة سبعة آلاف قتيل وقرابة 3000 إيزيدي وإيزيدية بين مختطف ومغيّب حتى اللحظة، فيما بلغ إجمالي المخطوفين/ات 6500 من النساء والأطفال ممن تعرّضوا للاسترقاق، فيما كشفت حكومة بغداد عن عشرات المقابر الجماعية في سنجار، ما عنى تنفيذ عمليات إعدام ميدانية وقتلٍ جماعيّ على الهوية الدينية. تحفل السجلات بحق الإيزيديين بالمجازر وعمليات الإبادة التي يطلق عليها اسم «الفرمانات». غير أن الإبادة رقم 74 وقعت في عصرنا نحن. أي أن المسؤولية تقع على عاتق شعوب المنطقة ودولها مرّة لأنها لم تحميهم من إبادة متوقّعة لحظة تقدّم التنظيم باتجاه معاقل الإيزيديين، ومرة لأنها لم تعالج ملف مرتكبي تلك الإبادة. وإن كان برلمان العراق وبرلمانات دول أوربية أقرّت أن ما حصل للإيزديين هو إبادة جماعية، لا يجب الاقتصار على التضامن وتقديم الدعم النفسي والمالي للناجيات والناجين من دون إنشاء محكمة خاصة، دولية أو عراقية، بالإبادة الإيزيدية بحيث ترفعها إلى مستوى محاكمة العصر، سواء لأجل إعادة الشعور بالطمأنينة للناجين/ات وأن العدالة ممكنة ومستحقّة، أو لأجل ألّا تصبح الإبادة الإيزيدية مجرّد ذكرى قريبة قابلة للتكرار، ذلك أن المحكمة الخاصة تؤمن وظيفة الردع المنوطة أبداً بالقانون.
وبالعودة إلى قرار الإدارة الذاتية فيما خصّ علنية المحاكمة، وإذا افترضنا أن الإدارة قد تقوم حقاً بافتتاح المحاكمات بملف الإبادة الإيزيدية، فإن من الخطير ترك المحاكمة مفتوحة بالشكل الذي نتصوّره، أي أن تبثّ المحاكمة على التلفزة ووسائل التواصل. هذه مسألة خطيرة لأربعة أسباب متداخلة يمكن إيجازها على النحو التالي: الأوّل، أن المتهمين قد يوجّهون رسائل إلى إرهابيي التنظيم خارج السجون وخلاياه النائمة وأن يعاودا استهداف الإيزيديين؛ والثاني أن منظر المتهمين قد لا يشي بالأفعال الجرمية التي ارتكبوها، الأمر الذي قد يستصحب شفقة هنا وتعاطفاً هناك. وبالتالي، قد تتلاشى صورة الضحايا لتحل مكانها صورة الداعشي البائس. أما السبب الثالث، إن منطق عناصر التنظيم وأمرائه ينطوي على عدّة لغوية ورطانة بلاغية قد تجد لها مكاناً في نفوس من لديهم القابلية لتبنّي العنف خاصة في الاحتكام إلى نصوص شرعية تحرّض على الدين الإيزيدي. فيما يكمن السبب الرابع في إمكانية إخراج المحكمة عن مقاصدها وجدّيتها، إذ تنبّهنا حنة آرنت أيضاً من أن المتهمين إبان محاكمات أوشفيتز نجحوا «أكثر من مرة واحدة في قلب المحكمة إلى مهزلة». ولعل علنية المحاكمة قد تفسح المجال لكثير من المتهمين العنيفين في إظهار الجسارة والفظاظة بدل الندم. كان القضاة الذين حاكموا قيادات النظام البعثي العراقي تحدّثوا عن رجل وديع هو صدام حسين حين لا تكون الكاميرات مصوّبة إليه، فيما يبدو عكس ذلك حال معرفته بأن الجلسة تبث مباشرة.
والحال أن العلنية تعني في مكان ما حضور أُسر المتهمين والمهتمين بمراقبة سير المحاكمات سواءً أكانوا أفراداً أم ممثلين عن المجتمع المدني وهيئات حقوق الإنسان.
ومن الجدير بالإشارة أن عناصر «داعش» لا يمكنهم ببساطة التنصّل من مسؤوليتهم بذريعة أنهم كانوا مجرّد منفّذين للأوامر، ذلك أن الانضواء تحت راية التنظيم كان أمراً طوعياً للعناصر الملتحقين به، على عكس بعض الجيوش المُختلّة التي تصبح في لحظة ما أجهزة قتل عام ويصبح معظم الجنود فيها مجرّد منفّذين للتعليمات والأوامر. فالمنتسب للتنظيم يعلم أنه انتسب ليقتل ويستعبد، أي أنه يحتفظ بالنية الجرمية سلفاً. كما أن معظم عناصر «داعش» لم يجنّدون قسراً كما في حالة جنود بعض الجيوش. وتمثّل مسألة «تنفيذ الأوامر» في الكثير من الحالات المشابهة سبباً محلّاً أو مخففاً قانونياً لمرتكبي الجرائم. لكن مثل هذا التصوّر ضعيف في حالة مقاتلي التنظيم، وهو ما يجب الانتباه إليه بشدّة.
تكثيفاً، يمكن للإدارة الذاتية أن تحيي سيرة الإبادة بهذه المحاكمات التي ارتكب جزء منها على الأراضي السورية وتورّط فيها سوريون، سواءً أكانوا مصدّري أو منفّذي أوامر القتل أم من قاموا باستبعاد النساء والأطفال. وإذا كانت كل الجهود الدولية ركّزت على الجزء الهيّن من سيرة الإبادة عبر الإدانة والاستنكار والاحتفاء بالناجيات وتقديم الدعم النفسي لهنّ، وهي مسائل مهمة بطبيعة الحال، فإن مهمّة الإدارة هي الأكثر التصاقاً بمفهوم العدالة حال قيامها بمحاسبة المجرمين، وهي المهمّة/المسؤولية التي تنصّلت منها دول ديمقراطية عتيدة. والآن، أمام هكذا محاكمة محلّية، سنكون أمام اختبارٍ جديد آخر لصدقية مواقف الدول التي زعمت مساندتها المجتمع الإيزيدي المنكوب.[1]