الكاتب بولات جان ل “شرمولا”: على كتّابنا وأدباءنا تخليد ثورة روج آفا، وتحويل كل ما حدث إلى أدب راق وإيصاله إلى العالم
حاوره/ دلشاد مراد
أجرت مجلتنا حواراً مع الكاتب والصحفي بولات جان حول رؤيته للأدب الثوري ووظيفته والنتاجات الأدبية في روج آفا وشمال سوريا، وكذلك عن مؤلفاته وتأثره بالثورة الكردستانية، ودوره في تأسيس الإذاعات الكردية ورؤيته لواقع الإعلام، وعن المهام الملقاة على عاتق الكتاب والأدباء في ظروف الثورة المعاشة. وهذا نص الحوار:
– ما هي رؤيتكم للأدب ووظيفته في مرحلة الثورة، وكيف تقيّم الأدب الثوري في منطقتنا (الشرق الأوسط) عموماً؟
بداية أود أن أنوه بأن الثقافة عموماً والأدب على وجه الخصوص بمثابة الروح للمجتمعات، ويمثل الإرث الروحي والمعنوي للحضارة المادية، مثلها مثل الأوابد والصروح التاريخية الكبيرة والتماثيل والآثار الخالدة. فالأدب له دور، بل له أدوار مهمة ومؤثرة في ثقافات وتطور وتشكل كينونة المجتمع.
أما الأدب الثوري، فهو ذو دور وظيفي بالدرجة الأولى يتمثل في تشخيص العلل والأزمات والأمراض الموجودة في المجتمعات. فهو كالطبيب والصيدلاني، الذي يشخص العلّة ويداويها، إنه، أي الأدب، يشخص القضايا الاجتماعية وتناقضاتها من شتى النواحي، ومن ثم يصف لها الحلول المثلى لها، ويسعى إلى معالجتها. بالتالي، إن أي مجتمع في أي بقعة من بقاع العالم يمكنه أن يستفيد من أي أدبٍ ثوري كان.
وبقول آخر يمكن أن نعرّف الأدب الثوري بأنه أدب جريء ومتمرد وناقد و مبدع، ليس بالضرورة أن يكون الأدب الثوري أدباً سياسياً وليس كذلك بالضرورة أدباً حزبياً أو حربياً، ومن المؤكد بأنه ليس محشواً بالشعارات والقوالب العقائدية والكليشيهات النمطية الجاهزة. فالأدب الثوري يجب أن يكون ثورياً بحد ذاته، أي تجديدياً وخلاقاً في شتى مجالات الحياة.
الثورة بمنظورها التعريفي، تعتبر انقلاباً أو خروجاً عن المألوف، وتسعى إلى إخراج المجتمع من عنق الزجاج الذي يكون محصوراً فيه في فترة الانعطافات. فيما يلعب الأدب دور المحرّض أو الممهّد والموجِّه والمؤرخ لتلك الثورة. بالطبع لا يمكننا القول إن الأدب يقوم لوحده بدور التمهيد أو التوجيه للثورات، لكنه صاحب دور مهم ومؤثر جداً. ففي عصر التنوير وحركة النهضة بأوروبا كان الأدب والفن يقوم بدور رئيس إلى جانب الاقتصاد والتجارة والسياسة في إحداث تغيرات جذرية في بنية التفكير الجمعي للغرب. فلا يمكن التفكير بالنهضة والتنوير دون الفن والأدب، كما لا يمكن الحديث عن ثورة ليس الأدب أحد قوامها، ثورة لا تنتج أدباً ولا يمهد لها الأدب ليست بثورة.
ففي خضم الثورة يكون الأدب العنصر المباشر في التأثير في الجماهير وإيصال صوتها أثناء وبعد الثورة إلى الخارج وإلى الأجيال التي تلي أو تعقب الثورة، فهي تمثل عينهم ونبض قلبهم. وبهذا الشكل يمكنني وصف دور الأدب الثوري.
أما في شرقنا (الأوسط)، فلا يمكن أن نتحدث عن أدب قوي مساهم في التمهيد للثورات أو في توجيهها وتعريفها، خاصة وأن الأكثرية الساحقة من الثورات في المنطقة إما تكون ثورات بلبوسٍ ديني أو انقلابات عسكرية موجهة من قبل رجالات الدين والساسة والعسكر أو من قوى ودول خارجية. الأدب الذي يرسم للمجتمعات صورة للمآسي التي يتعرضون لها، والغبن والإجحاف التي تمارسها الأنظمة على الشعوب هو أدب ضعيف ومشلول.
أين هو الأدب الثوري بين ضجيج الخطابات العسكرية والدينية والقوموية والعنصرية التي تطغى على الحقيقة وتشلّ التفكير السليم والمتميز، صوت الأدب لا يضاهي صوت الرصاص وجعير رجالات الدين ومهاترات الساسة والخطباء المتحذلقين، لذلك لا يمكن أن نتحدث عن دور كبير للأدب الثوري في الشرق -حالياً- في توجيه وإدارة الثورات.
– تمر روج آفا والشمال السوري بمرحلة ثورية بامتياز، ترافقها ثورة في الأدب بحد ذاته، مع وجود بعض النواقص، برأيك هل وصلت النتاجات الأدبية في روج آفا وشمال سوريا إلى مستوى يمكن الإطلاق عليه بالأدب الثوري؟
يمكنني القول إن هناك صحوة فكرية وثقافية في روج آفا، وإلى حدّ ما في شمال سوريا. وأريد هنا أن أتوقف على موضوع مصطلح ثورة روج آفا وشمال سوريا، نعم هناك ثورة في روج آفا انطلقت في 19 تموز 2012، وهناك الثورة السورية وانطلقت في 15 آذار 2011م، أما ثورة شمال سوريا فلا يوجد مصطلح يسمى بثورة شمال سوريا. هناك حركة أو تأثير مباشر لثورة روج آفا في شمال سوريا بشكلٍ عام، خاصة إن ما تشهده باقي المناطق في الشمال السوري من حملات تحرير منطلقها من روج آفا ومبنية على أساس وقاعدة ثورتها.
لا يمكننا الحديث عن (ثورة أدبية) بكل معنى الكلمة في روج آفا وشمال سوريا أو حتى في سوريا عامة، وقد يكون من المبالغ أن نطلق مصطلح (الثورة الأدبية في شمال سوريا). هناك ثورة ثقافية، نعم. يوجد تطوير وتحديث واهتمام وإحياء للغة الكردية والسريانية وهناك مساع لتطوير الثقافة الشعبية والديمقراطية، نعم، هذا مؤكد، لكن أن تصل إلى مستوى الثورة الأدبية فهذا مبالغ به ومن المبكر قوله الآن. وأعتقد من كبرى المشاكل الموجودة في البلد هو ندرة القرّاء وافتقار المكتبات وتوجه الناس نحو التلفاز والأجهزة الذكية والعزوف عن اقتناء الكتب وتناولها.
عندما نقول الثورة الأدبية فأننا نستذكر غوركي، تولستوي، دوستوفسكي، هوغو، همنغواي، أوستروفسكي وغيرهم من رواد الأدب الثوري العالمي… هذه الشخصيات كانت لها الدور الرئيس في التمهيد أو توجيه الثورة وفي إعطاء الزخم الفكري والروحي والمعنوي لها على المستويين الوطني والعالمي. لكن لا يمكن التحدث بعد عن هذا الأمر في روج آفايي كردستان؛ حيث لم نتمكن من خلق حالة أدبية خاصة بثورة روج آفا، ولم نتمكن من خلق الأديب الثوري المميز والمتميز ك شخص وك نِتاج، ولم نخلق الجو العام للأدب.
نعم هذا واضح، ولكن لماذا لم يظهر أو يخلق شخصية الأديب الثوري حتى الآن في روج آفا التي تشهد ثورة منذ العام 2012م وماذا يتطلب ذلك؟
لنتساءل، كم رواية، كم قصة وكم ديوان شعر أو أي نوع أدبي صدر من أو لأجل روج آفا تتناول يوميات الثورة ومآلاتها وأحداثها ونتائجها؟ قد تكون نادرة جداً، هناك كتب أدبية تصدر وتطبع لكن معظمها لا تمت للثورة الخاصة بروج آفا بشكل مباشر. ثم إن الأديب الثوري لا يمكن صناعته أو تكليفه أو توظيفه، فهو يولد من لدن ورحم الثورة ويتجدد معها ويتغذى من روحها ويغذيها من روحه.
مشكلتنا كشعب سوري عموماً والشعب الكردي خاصة أننا كنا مضطهدين ومحرومين من كافة حقوقنا اللغوية والثقافية والإدارية.. إلخ، والأكثرية الساحقة من الأدباء والكتاب أو حتى الذين كانوا في بدايات طريق الأدب والإبداع اضطروا للهجرة والاغتراب، ولذلك لم يبقَ إلا القليل جداً من المهتمين بالشأن الأدبي والثقافي المحترفين في المنطقة، خاصة وإن أوضاع الحرب والظروف المعيشية الصعبة والتناحرات والصراعات المحتدمة والهجمات الإرهابية دفعت بالكثير من هؤلاء أيضاً إلى الهجرة، فأثبت هذه الشريحة بأنها غير مستعدة لمقارعة المصاعب أو التواجد بين أهلهم في أوقات الشدة والمحن. ولذلك لم نلحظ وجود كتّاب يمثلون الثورة في روج آفا أو نتاجاتٍ أدبية راقية، ما عدا بعض من الذين يكون نشاطهم محصور في كتابة بعض المقالات أو بعض المشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن كأدب ثوري وأديب للثورة بكل معنى الكلمة لا يمكن إيجاده.
– يبدو واضحاً تأثركم بالثورة الكردستانية وذلك يتجلى من خلال مؤلفاتكم العديدة في المجال الأدبي، وهو ما يجعلنا نتيقن أكثر عن صوابية القول القائل “إن الأدب الثوري نتاج الثوريين أنفسهم”، كيف تعلقون على هذا الأمر؟ وهل لكم أن تحدثونا عن أبرز تجليات التأثير تلك على شخصيتكم الأدبية؟
الأديب الثوري يجب أن يكون منخرط بشكل أو بآخر ضمن الثورة، وأن يكون على احتكاك مباشر بها وبأحداثها أو يعايش حياة الثوار، ليس بالضرورة أن يكون الأديب ثورياً أو مشاركاً مباشراً في الثورة، ولكن على الأقل أن يكون على احتكاك جغرافي وتفاعلي مع الحدث الثوري، حتى يتمكن من التعبير المباشر عن الحدث الثوري وتجلياتها. لذا قلتُ أعلاه عن عدم وجود نتاجاتٍ في الأدب الثوري، وأربطه بسبب عدم وجود معظم الأدباء أو الكتاب داخل الثورة أو تهربهم من الاحتكاك بالثورة والثوار.
أما بالنسبة إلى شخصي، نعم بقيتُ لسنوات طويلة ضمن الثورة الكردستانية في العديد من المجالات، وفي العديد من المناطق، شاركتُ ورفاقي في المعارك وفي صناعة الأحداث، معايشة والتأثر بالمعارك والبطولات والتضحيات والتناقضات والتأثيرات المباشرة للثورة في التغيرات الاجتماعية والشخصية والفكرية للناس والثوار على حدّ سواء.
شخصياً أنا مؤمن حتى النخاع بأن هنالك دور كبير ومؤثر جداً للجانب الفكري والأدبي والثقافي لأي ثورة من الثورات والحركات الاجتماعية.
أيّ حركة، سياسة كانت أو عسكرية بحتة لن تترك زخماً أو تأثيراً مجتمعياً وثقافياً ومعنوياً للمدى البعيد؛ نعرف الكثير من الحركات العسكرية الكبيرة على مستوى العالم، ولكنها لم تترك أي أثر ثقافي أو أدبي، لأنها لم تمتلك تلك الخاصية، على سبيل المثال لا الحصر حملات جنكيزخان وهولاكو وتيمورلنك، إذ لم يتمكن هؤلاء القوم من ترك أي أثر وراءهم، لا بل كانوا هدّامي الحضارة. لذلك فأية ثورة، إن كانت تريد أن تكون ثورة بكل معنى الكلمة يجب أن تكون ثورة في كافة المجالات وخاصة المجالات الاجتماعية والثقافية والفكرية والأدبية.
كنتُ وما زلتُ على قناعتي تلك، أؤمن بها وأطبقها في حياتي العملية منذ أكثر من عقدين من الزمن، لذلك كنت أرى بأن تأليف كتاب، كتابة مقالة أو قصة، أو تنظيم قصيدة شعر مثلها مثل القيام بأي عملية عسكرية أو دعاية سياسية، فهو إنجاز لا يقل قيمة عن أي فعل ثوري آخر.
– أقمْتم فترة في القوقاز، يتضح أن وجودكم هناك قد أثّر فيكم كثيراً وخاصة من ناحية تعرفكم إلى طبيعة الوجود الكردي وثقافته هناك، ويبدو هذا جلياً في بعض مؤلفاتكم كأبحاثكم عن المرأة الكردية والغناء والعزف الشعبي الكردي في القوقاز، كيف تعلقون على ذلك؟
نعم، إن الشعب الكردي الموجود منذ القدم في مناطق جنوب القوقاز يمتلك مخزوناً فكرياً وثقافياً وفلكلورياً وأدبياً ولغوياً قوياً وثرياً جداً للشعب الكردي، حيث تمكن من الحفاظ بكل زخم على تلك الثروة الرائعة.
الكرد في تلك المنطقة لم يتعرضوا عكس أبناء جلدتهم في سوريا والعراق وإيران وتركيا لحملات التطهير العرقي والصهر القومي والثقافي، ولم يتعرضوا لتحريم لغتهم وممارسة فلكلورهم وقيمهم الاجتماعية وتقاليدهم الخاصة. وكذلك تمكنوا من إيجاد متنفس لهم في العهد السوفيتي للتعبير عن ذاتهم وتدوين تراثهم الشفهي وفلكلورهم وتطوير أغانيهم ولغتهم. لذلك عندما ذهبتُ إلى القوقاز ولمستُ كل ذلك، قلتُ لنفسي: “يا إلهي! أين كان هذا المخزون القوي والثري مخبأً؟”. وأردت أن أغترف من ذلك المخزون قدر ما أستطيع لكي أتعلم منه، وأوصلها إلى الشعب الكردي في الأجزاء الأخرى من كردستان. فأغلبية الشعب الكردي ومع الأسف الشديد لم تستطع الاطلاع على ذلك المخزون، والاستزادة من تلك الثروة الفكرية والثقافية والأدبية واللغوية الموجودة والعامرة طيلة قرنٍ كامل بين الكُرد في دول القوقاز، وقد تراجعتْ تلك الحركة مع الأسف الشديد، كما تراجع دور المثقفين والأدباء والكتّاب بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتي كان لها أثرها السلبي هناك.
أعتبرُ فترة وجودي في القوقاز كمرحلة تدريب بمدرسة ثقافية وفكرية وأدبية ولغوية بالنسبة لي، وقد استفدتُ منها. بالطبع لا أنسى دور الكتاب والمثقفين والأدباء الكبار الذين أنحني لهم والذين كانوا بمثابة معلمين لي في ذلك المجال، وكتعبير لي عن امتناني لهم وكذلك محاولة لإيصال ما يعيشه الكُرد في القوقاز إلى باقي القراء الكرد في المناطق الأخرى قمتُ بتأليف كتاب عبارة عن مبحث في الموسيقا والغناء الشعبي الكردي في القوقاز، وكتاب آخر مشترك مع الشهيدة شيلان آراس (آيفر سرجه) حول المرأة الكردية في القوقاز. ومن جانب آخر فقد تعرفتُ عن قرب إلى الثقافة الأيزيدية الأصيلة والمغنيين الشعبيين أمثال كرابيت خاجو والكثير من نتاجات أدباء كبار مثل أمين عفدال وجاسم جليل وأبنائه (أوردي خان وجليلي وجميلة) والشاعر فريك أوسب والبروفيسور حاجي جندي، واللغوي القدير جركس مستويان والعديد من المؤرخين والفنانين والمفكرين الكُرد المُهمّشين في زوايا النسيان.
Navname
– قمتم بإعداد قاموس الأسماء الكردية بعنوان “Nav Name“. إنه قاموس فريد من نوعه، هل لكم أن تعطونا فكرة عن ماهية هذا القاموس، ومراحل إعداده، وهل ثمة من ساعدكم أو واجهتكم أي معوقات أثناء إنجازه؟
عندما باشرت العمل على القاموس كنت جريحاً وأتلقى العلاج في تلك الفترة، كان ذلك سنة 2000م، وأردت أن أشغل نفسي بالعمل على ذلك القاموس، تطلب هذا العمل مني الكثير من الوقت والمراجعات والعراقيل حتى أخذت شكلها النهائي كقاموس كردي كردي للأسماء الكردية الأصيلة، وهو يضم أكثر من 7000 اسم كردي مرفقة بمعانيها، وهو يعتبر مبحثاً في الأسماء التاريخية والأسماء الحضارية والثقافية والوطنية في كردستان، فهو إلى جانب إحياء الأسماء الكردية الأصيلة، محاولة حثيثة لاستنباط أسماء جديدة مدمجة.
سألتني عن العراقيل والمعوقات، يكفي أن أقول لك إنني بدأت العمل عليه نهاية سنة 2000، وبالكاد تمكنتُ من طباعته ونشره بشق الأنفس سنة 2017، أي بعد سبعة عشر عاماً من التأليف.
مع الأسف الشديد فالمعوقات والعراقيل أو القصص التي اعترضت طريق هذا العمل يمكن أن تتحول إلى قصة بحد ذاتها. لم يكن هناك مشجعون كُثر لهذا العمل، ولم أتلقَ أية مساعدة من أحد؛ كان عملاً فردياً. وعليّ القول إنني لستُ مختصاً في شأن علم القواميس، كل ما في الأمر أنني أردتُ أن يكون لي إسهام ولو بسيط في عملية الوعي الثقافي الكردي. وأنا على قناعة بأن الاسم يمثل الهوية. الاسم الكردي يمثل هوية الكردي ويمثل ثقافته وشخصيته، ولذلك ارتأيت أن تأليف عمل بهذا الشكل سيساعد الكرد على اختيار أسماء جميلة لأبنائهم وبناتهم، وكذلك للمقاتلين الذين لا تعجبهم أسماءهم ويريدون أن يتسمّوا بأسماء كردية جديدة.
– لكم محطات كثيرة في إدارة عدد من الصحف والمجلات والمواقع السياسية والفكرية، وتأسيس الإذاعات في روج آفا، كيف تقيم واقع الإعلام بكافة أشكاله في روج آفا – شمال سوريا؟ وهل وصل إلى المستوى المطلوب منه كي يكون مرآة عاكسة لقيم ومبادئ الثورة المعاشة؟
في بدايات الثورة كان للإعلام الدور الأهم في توجيه الجماهير وتوعيتها وتثقيفها، وكذلك تحريضهم ودفعهم لاختيار هذا أو ذاك المعتقد أو الرأي السياسي. يمكنني القول إن هناك جهوداً حثيثة من جانب العاملين في المجال الإعلامي، وهذه الجهود محل تقدير واحترام. وهناك تضحيات جِسام قدمها الإعلاميون الكرد في روج آفا وباقي المناطق، واستشهد منهم العديد من الإعلاميين أمثال دليشان، رزكار، غريب، آكري، فراس، حقي، ريوان، كدار، مظلوم، باهوز حوران… والعديد من الشهداء الآخرين الذين قضوا وهم يعملون على ايصال الحقيقة إلى الرأي في أخطر المناطق والبؤر.
كما أنا متأكد من أن الأغلبية الساحقة من الإعلاميين في روج آفا يعملون في أصعب الظروف، ويقدمون بتضحيات كبيرة، كما أنهم لا يحصلون على أقل المقومات الشخصية والحوافز. لكن، الأمر مختلف مع المؤسسات الإعلامية؛ فهي لم ترتقِ إلى الاحترافية وإلى العالمية، أو على أقل تقدير الوصول إلى الشرق الأوسط، كما أنها تفتقر لموهبة التجديد والتغيير والتطوير. يمكننا القول إن الإعلام الكردي بشكل عام في روج آفا بقي أسيراً ل(لا احترافية، تكرار ومزاجية)، والأكثرية من الإعلاميين بقوا في طور الهواة. كما إن اللغة والخطاب الإعلاميين بقيت ضيقة الأفق ومحصورة في عدة صناديق مغلقة لا يمكنها الانطلاق نحو فضاءات الإبداع والتنويع والتطور، ولا يمكنها الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور. هناك خلل في هذا الصدد. فالإعلام الكردي بحاجة ماسة إلى إجراء تغييرات جذرية في الخطاب وفي آلية مخاطبة الجماهير وفي الوصول إلى درجة وافية من الاحترافية والعمل المؤسساتي. أعتقد أن الإمكانيات متوفرة والعاملين متوفرون، لكن هناك حاجة إلى تغيير في اللغة والخطاب وفي الاستراتيجية الإعلامية وفي عقلية إدارة المؤسسات واحترام المتلقي ومواكبة التطورات التقنية والمعلوماتية الهائلة.
– إذاعة جودي التي أسستموها تعتبر أولى الإذاعات في روج آفا وشمال سوريا، هل يمكنكم وصف المشهد الذي كنتم فيه آنذاك- أيام التأسيس؟
في البداية كان الكثير من الأشخاص الذين تناقشت معهم غير متشجعين لموضوع افتتاح الإذاعات، حيث كان تبريرهم هو أن العصر الحالي هو عصر الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، وبأنه لم يتبقى أي دور للراديو. لكن في عام 2012م عندما انهارت البنية التحتية في طول البلاد وعرضها وبالتالي تراجع دور الأنترنت وشبكات الهاتف والانقطاع الكلي للكهرباء في بعض المدن والمناطق الكردية والسورية، حينها كان لابدّ من بروز دور الراديو بشكلٍ أكبر.
إذاعة (جودي إف إم) كانت البداية، وكانت تجربة رائدة وجريئة بدأناها بإمكانات معدومة تقريباً؛ حيث أتذكر على سبيل المثال كنا نبحث عن مكان لكي نفتتح فيه الراديو، لم نجد أي مكان وكنا نحمل جهاز البث وننتقل به من هنا إلى هناك. وتجولنا في مدينة قامشلو ولم نجد مكاناً مناسبا، من ثم ذهبنا إلى تل موزان وهناك لم نتمكن من إيجاد المكان، ومن ثم ذهبنا إلى مدينة عامودا، وبالكاد تمكنا من الحصول على ملحق صغير جداً على سطح مبنى المركز الثقافي، وسارعنا إلى تنصيب الأجهزة وأطلقنا البث التجريبي، وبعد عدة أيام لاحظنا أن البث يغطي فقط مركز مدينة عامودا دون سواه، ولا يصل البث إلى قامشلو أو أي مكان آخر، لذلك اضطررنا إلى نقل البرج والأجهزة ونصبه في قامشلو وما يزال البث مستمراً حتى الآن.
إذاعة جودي إف إم تحولت إلى مدرسة في الإعلام والعمل الإذاعي، تخرّج فيها العشرات من الإعلاميين الذين يعملون الآن في كافة مناطق روج آفا، والإذاعات الأخرى سواء أكانت إذاعة كوباني التي افتتحت بعد عدة أشهر أو إذاعة روج آفا التي افتتحت في الأول من نيسان 2013م ومن بعدها صوت عفرين التي افتتحت في عام 2013م، فكلها كانت مبنية على الأسس التي أرسيناها في إذاعة جودي. والآن توجد العشرات من الإذاعات المحلية في كافة مدن روج آفا وشمال سوريا وشرقها، لكن إذاعة جودي صاحبة شرف الإذاعة الأولى.
– ماهي المهام الملقاة على عاتق الكتّاب والمثقفين خلال الثورة المعاشة في روج آفا وشمال سوريا في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية والذهنيات الرجعية؟
بدايةً نحنُ بحاجة إلى ثورة فكرية وثقافية وأدبية بكل معنى الكلمة، منذ سبع سنوات ونحن نحارب، ومنذ ثماني سنوات ونحنُ في خِضم ثورة بكل معنى الكلمة، هنالك مقاومة وبطولات أسطورية، وهناك منجزات تاريخية تمكنا من التأسيس عليها، هناك معارك مندلعة وضحايا كثر يومياً، هناك تغيير في البنية الاجتماعية والفكرية والشخصية في المرأة والرجل الكردي، وحالة من الإيثار في الشباب الكردي، وإرهاصات ونتائج جلية على الإنسان الموجود في هذه المنطقة سواء كان عربياً أو مسيحياً أو كردياً. لذلك فإن الكاتب والأديب في روج آفا بشكلٍ خاص وفي شمال وشرق سوريا بشكل عام مكلف ومطالب بالخوض في بحر الثورة والاستزادة منه، وتحويل كل ما جرى من أحداث، وتحقق من منجزات وشهدت من معارك وما تمخض عنها إلى نتاجات أدبية من قصة ورواية وملاحم…إلخ. فنحن بحاجة إلى تخليد ثورة روج آفا وبطولات أكثر من 8000 شهداء.
التغيّرات الجذرية الاجتماعية التي حدثت أثناء هذه الثورة علينا تخليدها في أدبنا، ونقلها إلى اللغات العالمية “الإنكليزية والفرنسية والروسية والإسبانية.. الخ”، لتتمكن كافة الأمم من معرفة ما حدث هنا في روج آفا وما تعرضنا له وما قدمناه للإنسانية جمعاء. وكيف انطلقت ثورة روج آفا، وكيف تأسست وحدات حماية الشعب، كيف ولدت الإدارة الذاتية، كيف ظهر هؤلاء الأبطال، من هي بارين ومن هي آفستا، من هي زوزان ومن هو ايريش وروبار وكندال، من هم المقاومون الذين قاوموا في كوباني وعفرين؟ من هم الذين حرروا المناطق الكردية في حلب، من الذين أسقطوا عاصمة الخلافة، ومن هم الذين تصدوا بصدورهم لأكبر منظمة إرهابية وحشية داعش والنصرة وحلفائها، ومن هم الذين تمكنوا في أصعب الظروف من بناء أسس الأخوة بين مكونات المجتمع، وضبطوا النظام في عالم مليء بالجرائم والفوضى والمشاكل الضاربة في المنطقة. لذلك فإن الأدباء مكلفون وبأسرع وقت ممكن إلى تحويل كل ما حدث إلى أدب راقِ ونتاجات ضخمة تكون محل فخرنا ونوصلها إلى العالم.
وأخيراً أود التأكيد على ضرورة العمل على توسيع جمهور الكِتاب وتشجيع القراءة واقتناء الكتب ونشرها بشكلٍ واسع، القراء هم أيضاً عامل مهم وقوي في تشجيع الأدباء على الإبداع وخلق فسحة تلاقي وتفاعل بين الكاتب والقارئ. طالما هنالك مشكلة في القرّاء، وعزوف من قبل الناس عن المطالعة فسيكون من الصعب بروز حركة تأليف وكتابة ونشر أيضاً.
نبذة عن الكاتب:
بولات جان كاتب وصحفي ومناضل ثوري كردي.
يتقن اللغات: الكردية والعربية والتركية.
عضو الفرع الكردي في اتحاد الكتاب الدولي (PEN).
له العديد من الكتب أدباً وبحثاً ودراسات، منها:
– المجموعة القصصية “آه يا صغيرتي” باللغة العربية سنة 2003
– الكتاب الحواري “آفاق كونفدرالية” باللغة العربية سنة 2006
– مجموعة قصصية ونثرية “Berfa Germ” باللغة الكردية سنة 2004
– كتاب بحثي حول المرأة الكردية في القوقاز”القلوب المهاجرة” باللغة التركية سنة 2006
– كتاب خاص بتعليم اللغة الكردية “لغة الملائكة” باللغتين العربية والكردية سنة 2005
– مجموعة شعرية “نساء القرنفل” باللغة العربية سنة 2009
– قاموس الأسماء الكردية”Nav Name” باللغة الكردية سنة 2017م
– كتاب بحثي توثيقي حول الغناء والعزف الشعبي الكردي في القوقاز”Qulingên Rewanê” باللغة الكردية.
– المجموعة النثرية “وفاء الروح” باللغة العربية (مخطوط).
– وكذلك قام بترجمة عدة كتب من التركية إلى اللغة العربية. منها ” رسائل الأمل”، و”درر الكلام”، و”الشجاعة الحقيقية” للمفكر عبد الله أوجلان.
– قام بإعداد دراسة في الفن والأدب الثوري من تحليلات المفكر أوجلان، بأسم “Edduba” باللغة الكردية سنة 2004
– موجز عن تاريخ اللغة الكردية 2012 حلب.
– مدخل إلى الأعلام الكردية 2012.
– الخطوات العملية للإدارة الذاتية 2012 قامشلو.
– لمحات عن حزب العمال الكردستاني- دراسة سياسية وثائقية (مخطوط).
– نقد العقل الشرقي. دراسة فكرية ناقدة 2017 (مخطوط).
– الهارب إلى الحرية، 2002 (مخطوط).
– غربلة الأفكار 2009.
– عمل لسنوات طويلة في المجال الإعلامي والأدبي والسياسي والعسكري (عمل محرراً في مجلة الاتحاد الحر في العراق، مديراً لتحرير جريدة ميزوبوتاميا الصادرة باللغة الأرمنية في يريفان- أرمينيا، مديراً لموقع ميزوبوتاميا أونلاين. مستشاراً إعلامياً لرئاسة منظومة المجتمع الكردستاني. رئيساً لتحرير مجلة الشرق الأوسط الديمقراطي في بغداد. ومراسلاً لوكالة ميزوبوتاميا للأنباء، ورئيساً لتحرير مجلة دفاع الشعب وعضو إدارة مركز الإعلام والاتصال لقوات الدفاع الشعبي الكردستاني. وناشطاً ضمن حركة الشبيبة الديمقراطية أثناء انطلاق الثورة السورية، ومشرفاً عاماً على أكاديمية مظلوم دوغان للطلبة الجامعيين ومحاضراً فيها، ومنسقاً عاماً لكونفدرسيون الطلبة الكرد الوطنيين، ومؤسساً لأول إذاعة محلية في روج آفا وشمال سوريا باسم (جوديfm)، ومن ثم تابع نشاطه في افتتاح الإذاعات المحلية باسم (كوباني أف أم) و(روج آفا أف أم)، و مسؤولاً لمركز الإعلام لوحدات حماية الشعب وناطقاً إعلامياً باسم (YPG)، وممثّلاً لوحدات حماية الشعب في التحالف الدولي ومسؤولاً للعلاقات الدولية.
شارك
السابق بوست
أدب المرأة .. حاجة موضوعية – ليلى إبراهيم
القادم بوست
الأكاديمي د.أحمد المثنّى أبو شكير ل “شرمولا”: المثقف الحقيقي هو الذي يعيش هموم مجتمعه، ولا يلقي بالاً لحاجاته الخاصة والأنانية والآنية
قد يعجبك ايضاالمزيد عن المؤلف
حوار العدد
الكاتب والمترجم إبراهيم خليل ل “شرمولا”: انصهار شعب ما ضمن شعوب أخرى…
حوار العدد
الروائي عبد المجيد خلف ل “شرمولا”: نحن أحوج إلى الرواية في هذا الوقت،…
حوار العدد
السينمائي شيرو هندي ل مجلة “شرمولا”: تجربتنا السينمائية لاتزال في…
[1]