د. عصام عبد الشافي
في الجزء الثالث من هذه السلسلة نستكمل البنود السياسية التي تضمنتها#اتفاقية لوزان# التي تم توقيعها في يوليو 1923، بين تركيا والدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، والتي بموجبها تم وضع حدود الدولة التركية الحديثة، وصياغة الضوابط التي تحكم تفاعلاتها الإقليمية والدولية منذ مائة عام مرت بعد توقيع الاتفاقية.
وقد جاءت البنود السياسية للاتفاقية في خمسة وأربعين مادة، توزعت بين ثلاثة أقسام أساسية، تناول القسم الثاني منها قضايا الجنسية سواء للمقيمين على الأراضي التركية أو في الأقاليم التي كانت خاضعة لها، وهو ملف شديد الأهمية للعديد من الجنسيات العربية مثل ليبيا وتونس والمغرب، حيث يكشف عن كيفية إدارة الدول المنتصرة لهذا الملف، بما يضمن لها التدخل والتأثير في السياسات السكانية التركية المستقبلية.
بين الجنسية التركية وجنسية المغاربة والتوانسة والليبيين
نصت المادة (21) من الاتفاقية على “سيحصل المواطنون الأتراك المقيمون بشكل طبيعي في قبرص في 05 -11- 1914 على الجنسية البريطانية وفقاً للشروط المنصوص عليها في القانون المحلي، وسيفقدون الجنسية التركية عند ذلك. ومع ذلك، سيكون لهم الحق في اختيار الجنسية التركية في غضون عامين من بدء نفاذ هذه المعاهدة، شريطة أن يغادروا قبرص في غضون اثني عشر شهراً بعد اختيارهم. والمواطنون الأتراك المقيمون بشكل طبيعي في قبرص عند دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ والذين اكتسبوا في ذلك التاريخ، أو هم في طريقهم للحصول على الجنسية البريطانية نتيجة لطلب مقدم وفقاً للقانون المحلي، سيفقدون أيضاً الجنسية التركية”.
وهو ما يعني نزع الجنسية التركية عن المقيمين على الأراضي القبرصية، والحصول على الجنسية البريطانية، وهو ما ترتب عليه ترسيخ جذور الأزمة القبرصية، التي تفاقمت بعد الحرب العالمية الثانية، وتقسيم الجزيرة التي كانت تحتلها بريطانيا إلى قسمين شمالي وجنوبي، وما زالت الأزمة مثاراً للصدام والتوتر بين تركيا وأوربا رغم مرور 100 سنة على توقيع الاتفاقية.
وفيما يتعلق بمواطني عدد من الدول العربية، نصت المادة (29) على “يتمتع المغاربة، الذين هم رعايا فرنسيون، والتونسيون، في تركيا بنفس المعاملة من جميع النواحي مثل المواطنين الفرنسيين الآخرين. ويتمتع الليبيون، الذين هم رعايا إيطاليون، في تركيا بنفس المعاملة في جميع النواحي مثل المواطنين الإيطاليين الآخرين. ولا تمس أحكام هذه المادة بأي حال من الأحوال بجنسية الأشخاص من أصل تونسي وليبي ومغربي التي تأسست في تركيا. وعلى نحو متبادل، في المناطق التي يستفيد سكانها بموجب أحكام الفقرتين الأولى والثانية من هذه المادة، يستفيد المواطنون الأتراك بنفس المعاملة كما في فرنسا وإيطاليا على التوالي”.
وهو ما يعني في جانب منه تمديد الولاية الفرنسية والإيطالية داخل الأراضي التركية، على مواطني الدول العربية التي كانت تحت ولاية الدولة العثمانية، في الوقت الذي نصت المادة (27) على عكس ذلك بالنسبة للدولة التركية حيث ذكرت: “لا يجوز ممارسة أي سلطة أو ولاية قضائية في المسائل السياسية أو التشريعية أو الإدارية خارج الأراضي التركية من قبل الحكومة أو السلطات التركية، لأي سبب من الأسباب، على رعايا الإقليم الموضوع تحت سيادة أو حماية الدول الأخرى الموقعة على هذه المعاهدة، أو فوق رعايا دول منفصلة عن تركيا”.
وعززت ذلك المادة (30) التي نصت على أن “الرعايا الأتراك المقيمون بصفة اعتيادية في إقليم مفصول عن تركيا بموجب أحكام هذه المعاهدة سيصبحون بحكم الواقع، في الشروط التي ينص عليها القانون المحلي، رعايا الدولة التي يتم نقل هذه الأراضي إليها”.
توطين الأتراك وغرس مشكلة الأقليات
تضمنت اتفاقية لوزان عدداً من النصوص ذلت الصلة بالمواطنين الأتراك الذين كانوا يقيمون في الدول والأقاليم اليت كانت خاضعة للدولة العثمانية، وأقرت إمكانية حصولهم على جنسية هذه الدول، بما فتح المجال أمام وجود اختلالات سكانية وأزمات أقليات عرقية في العديد من هذه الدول، كالعراق وسوريا ولبنان، وغيرها.
وفي هذا الإطار نصت الماجة (34) على “الأتراك الذين تزيد أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً وهم من مواطني أي إقليم منفصل من تركيا، ويقيمون هناك بشكل اعتيادي مع دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ، بموجب المعاهدة يمكنهم اختيار جنسية الإقليم الذي هم مواطنون فيه، إذا كانوا ينتمون إلى العرق إلى غالبية سكان تلك المنطقة، ويخضعون لموافقة الحكومة التي تمارس السلطة فيها. ويجب ممارسة حق الخيار هذا في غضون عامين من بدء نفاذ هذه المعاهدة”.
وأمام تعدد الإشكاليات التي تثيرها قضايا الأقليات، جاء القسم الثالث من البنود السياسية للاتفاقية تحت عنوان (حماية الأقليات) وذلك في المواد (من 37 إلى 45) حيث نصت المادة (38) على أن “تتعهد الحكومة التركية بضمان الحماية الكاملة والتامة للحياة والحرية لسكان تركيا من غير تمييز بين المولد أو الجنسية أو اللغة أو العرق أو الدين. ويحق لجميع سكان تركيا أن يمارسوا بحرية، سواء في الأماكن العامة أو الخاصة، أي عقيدة أو دين أو معتقد لا يتعارض احترامها مع النظام العام والأخلاق الحميدة. وستتمتع الأقليات غير المسلمة بحرية كاملة في التنقل والهجرة، بحسب التدابير المطبقة على كامل الإقليم أو على جزء منه، على جميع المواطنين الأتراك، والتي قد تتخذها الحكومة التركية للدفاع الوطني، أو الحفاظ على النظام العام”.
ونصت المادة (39) على “يتمتع المواطنون الأتراك الذين ينتمون إلى أقليات غير مسلمة بنفس الحقوق المدنية والسياسية التي يتمتع بها المسلمون، وجميع سكان تركيا، دون تمييز ديني، هم سواسية أمام القانون. ولا تخل الاختلافات في الدين أو العقيدة أو الاعتراف بحق أي مواطن تركي في الأمور المتعلقة بالتمتع بالحقوق المدنية أو السياسية، مثل القبول في الوظائف العامة والوظائف والأوسمة، أو ممارسة المهن والصناعات. ولا يجوز فرض قيود على الاستخدام الحر لأي مواطن تركي لأي لغة في اللقاءات الخاصة أو التجارة أو الدين أو الصحافة أو المطبوعات من أي نوع أو حتى في الجلسات العامة، وعلى الرغم من وجود اللغة الرسمية، يجب توفير التسهيلات الكافية للمواطنين الأتراك الذين يتحدثون بلغات غير تركية، لاستخدام لغتهم شفوياً أمام المحاكم”
وكانت نصوص هاتين المادتين، وكذلك المواد 40، 41، 42، 43 بمثابة الجذور التأسيسية لفلسفة العلمانية في الدولة التركية الجديدة، واعتبرت المادة 44 أن هذه النصوص هي التزامات دولية على تركيا بضمان عصبة الأمم: “توافق تركيا على أنه ما دامت المواد السابقة من هذا القِسم تؤثر على غير المسلمين من مواطني تركيا، فإن هذه الأحكام تشكل التزامات ذات أهمية دولية ويجب وضعها تحت ضمان عصبة الأمم. ولا يجوز تعديلها دون موافقة أغلبية مجلس عصبة الأمم. وتتفق الإمبراطورية البريطانية وفرنسا وإيطاليا واليابان بموجب هذه الاتفاقية على عدم حجب موافقتها على أي تعديل في هذه المواد يكون في شكله الصحيح الذي وافقت عليه أغلبية مجلس عصبة الأمم”.
وأضافت المادة 44 كذلك “توافق تركيا على أنه يحق لأي عضو في مجلس عصبة الأمم أن يلفت انتباه المجلس إلى أي مخالفة أو وخود خطر لوقوع مخالفة لأي من هذه الالتزامات، ويجوز للمجلس عند ذلك اتخاذ مثل هذا الإجراء وإعطاء هذه التوجيهات كما يراها مناسبة وفعالة طبقاً للظروف. وتوافق تركيا كذلك على أن أي اختلاف في الرأي حول المسائل القانونية أو الوقائع الناشئة عن هذه المواد بين الحكومة التركية وأي من الدول الموقعة الأخرى أو أي دولة أخرى، عضو في مجلس عصبة الأمم، سيتم اعتباره نزاعاً ذا طابع دولي بموجب المادة 14 من ميثاق عصبة الأمم. وتوافق الحكومة التركية بموجب هذه الاتفاقية على إحالة أي نزاع من هذا القبيل، إذا طالب الطرف الآخر بذلك، إلى محكمة العدل الدولية الدائمة. ويكون قرار المحكمة الدائمة نهائياً ويكون له نفس قوة وتأثير القرار الصادر بموجب المادة 13 من الميثاق”.
جدل التحولات السياسية والنصوص القانونية
وهو ما يفتح الباب واسعاً، بموجب هذه النصوص، أمام التدخل الدولي في الشؤون الداخلية التركية، تحت مظلة حماية حقوق الأقليات التي تقيم على أراضي الدولة التركية، وكاان بالفعل سبباً في العديد من الأزمات التي شهدتها خلال السنوات التالية لتوقيع الاتفاقية، وشكلت عائقاً كبيراً أمام الدولة، وإن كانت التحولات السياسية التي فرضتها تداعيات الحرب العالمية الثانية (1939 -1945) قد غيرت الكثير من التفاعلات والمعادلات والأوزان النسبية للقوى الإقليمية والدولية، لكن ظلت ورقة النصوص القانونية حاكمة وضابطة، وقابلة للاستخدام والتلويح بها في أي وقت من الأوقات.[1]