(تركيا) ... الى أين؟ (33) – إستراتيجية النضال التحرري الكوردستاني
د. مهدي كاكه يي
4. ترسيخ الديمقراطية و تطبيق مبدأ المواطنة في كوردستان
ترسيخ الديمقراطية
إن تبنّي الديمقراطية و التعددية و العلمانية و قبول الآخر يُعتبر الحجر الأساس لضمان تحقيق أهداف النضال الكوردستاني، حيث لا يمكن للكوردستانيين تحقيق تحررهم و إستقلال بلدهم بإتباع النهج الشمولي و الدكتاتوري و خلط الدين بالسياسة. ينبغي أن يكون المواطن الكوردستاني حراً في خياراته و تفكيره و قراراته ليكون قادراً على الإبداع و الخلق و التطور و التطوير و المساهمة في خلق مجتمع متحضر منتج، تسوده العدالة الإجتماعية و المساواة. الإنسان المُقيّد و مقهور الإرادة لا يمكنه أن يكون عضواً نافعاً في المجتمع، حيث يكون عاجزاً عن الإبداع و الإنتاج.
ينبغي أن تسود الديمقراطية و الحرية في إقليم جنوب كوردستان لتكون قدوةً للأجزاء الأخرى من كوردستان و لضمان نجاح التجربة الكوردستانية في هذا الجزء و الذي بدوره يُمهّد الطريق لتحقيق تحرر كوردستان بأكملها و بنائها بكل عزم و سرعة للحاق بالدول المتحضرة و المتقدمة. ينطبق هذا الأمر أيضاً على التنظيمات السياسية الكوردستانية لخلق أحزاب سياسية ناجحة، قادرة على العطاء و تقديم المنجزات و تجديد نفسها بإستمرار لمجاراة التطورات المحلية و الإقليمية و الدولية و التفاعل مع المستجدات من الأفكار و المبادئ و المفاهيم و القيم، ليضمن بقاءها و إستمرارها و لكسب ثقة الشعب و القدرة على تحمل أعباء النضال الصعب الذي تتطلبه القضية الكوردستانية و لتتحرر المواهب و الطاقات الفكرية و الإبداعية الكامنة في أعضاء هذه الأحزاب لخدمة شعبهم و بلادهم. ينبغي أن تسود الديمقراطية و الحرية في منظمات المجتمع المدني و المحافظة على إستقلالية هذه المنظمات عن السلطة التنفيذية في جنوب كوردستان و عن الأحزاب السياسية في كافة أرجاء كوردستان، لخلق ظروف جيدة لهذه المنظمات لأداء مهامها و و دورها في المجتمع الكوردستاني.
سيادة الجو الديمقراطي في داخل الأحزاب الكوردستانية، تعمل على خلق قيادات جماعية منسجمة في هذه الأحزاب و بذلك يوفّر فرصاً أوسع و أفضل لإتخاذ قرارات صائبة و تجنّب الأخطاء. كما أن القيادة الجماعية تسد الطريق أمام ظهور الدكتاتورية الفردية و بروز ظاهرة الزعيم الأوحد أو سيطرة العائلة و القبيلة على مقدّرات و قرارات الحزب. القيادة الجماعية تمنع أيضاً حدوث فساد مالي و إداري في الحزب أو تحدّ منه. الديمقراطية الحزبية تعمل كذلك على خلق و تنمية و تشجيع الكفاءات و المواهب الفردية التي تكون ثروة بشرية خلّاقة للحزب و للشعب على السواء. من الجوانب الإيجابية الأخرى للديمقراطية الحزبية هي أنها تعمل على الحد من النزاعات و الخلافات بين الأحزاب الكوردستانية و ذلك من خلال إسهامها في الحدّ من دور الخلافات الشخصية أو العشائرية في علاقة الأحزاب السياسية مع بعضها و وضع المصالح الوطنية فوق المصالح الشخصية و الفئوية و الحزبية.
إن سيادة الديمقراطية في تنظيم سياسي ما أو نظامٍ ما، تقود الى تبؤ الأشخاص للمواقع الحزبية أو الإدارية بالإستناد الى الكفاءة و الخبرة و المقدرة و وضع المصلحة الوطنية فوق كل المصالح الأخرى، حيث يتم إختيار المسئولين بطريقة ديمقراطية و بقرارات جماعية التي تضع الشخص المناسب في المكان المناسب. بالنسبة الى الديمقراطية في النظام السياسي، التي تنطبق على جنوب كوردستان و الى حد ما على غرب كوردستان، فأنه ينبغي إناطة المسئوليات و المهام و فتح أبواب التعيينات أمام الكوردستانيين على أساس المواطنة و الكفاءة، بعيداً عن أسس الإنتماء الحزبي.
المواطنة
إن بناء أنظمة سياسية على مبدأ المواطنة، بعيداً عن التمييز الإثني و القومي و الديني و المذهبي و الجنسي، يخلق مجتمعاً متجانساً، يشعر المواطنون في ظلها بروح الإنتماء الى الوطن و الدفاع عنه و يشترك أفراد الشعب في الثقافة و المصالح و الأهداف و المصير و هذا بدوره يقود الى التقدم و الإزدهار و الرفاهية. من هذا المنطلق، ينبغي أن تؤمن الأحزاب الكوردستانية بمبدأ المواطنة و تطبيقه عملياً في التعامل مع مختلف مكوّنات شعب كوردستان. إن الإنتماء الحزبي هو عمل تطوّعي يقوم به المواطن لخدمة شعبه و لذلك فأن هدف الإنتماء الحزبي هو ليس الحصول على الإمتيازات على حساب الشعب، بل هو خلق الرفاهية للشعب و تنمية البلاد و تطويرها.
حرصاً على التجربة الكوردستانية في الجنوب و على نجاح النضال الكوردستاني، أود هنا أن أشير الى ثلاث حالات لخرق مبدأ المواطنة و الكفاءة في جنوب كوردستان. هناك أعداد كبيرة تُقدّر بعشرات الآلاف من أعضاء الحزب الديمقراطي الكوردستاني و الإتحاد الوطني الكوردستاني قد تمت إحالتهم على التقاعد و يحصلون على رواتب تقاعدية من أموال الشعب. أغلب هؤلاء المتقاعدين لم يخدموا في صفوف البيشمەرگه و أنهم من الشباب القادرين على العمل. تمت إحالة هؤلاء على التقاعد فقط لكونهم ينتمون الى الحزبَين المذكورَين. هؤلاء الآن يؤدون مهام حزبية مقابل الرواتب التقاعدية التي يحصلون عليها، حيث يداومون كموظفين في المقرات الحزبية. هذا الإجراء يخرق مبدأ المواطنة، حيث يتم تفضيل الحزبيين على المواطنيين الكوردستانيين الآخرين، كما تعمل الأنظمة الشمولية و الدكتاتورية. كما أن دفع أموالٍ طائلة كرواتب تقاعدية لهذا العدد الهائل من أعضاء الحزبَين الذين معظمهم قادرين على العمل، يستنزف خزينة الإقليم و يؤثر سلباً على تنمية الإقليم و تطويره و بناء البُنية التحتيه له و تقديم الخدمات للمواطنين و يؤدي الى إنخفاض مستوى المعيشة لسكان الإقليم. إحالة هؤلاء على التقاعد، خلقت جيشاً من العاطلين عن العمل الذين يتم إبعادهم عن المساهمة في بناء الإقليم و خدمته و زيادة الإنتاج و الإنتاجية. ينبغي وضع المصلحة الوطنية قبل كل شئ و التفكير ببناء و تنمية و إزدهار كوردستان بدلاً من المصالح الحزبية. يمكن تشريع قوانين عامة للتقاعد و الضمان الإجتماعي و البطالة في الإقليم ليحصل جميع المواطنين الذين أعمارهم ضمن سن التقاعد على رواتب تقاعدية طبقاً لخدماتهم الوظيفية. بالنسبة للذين لم يكن لهم عمل، أي لم يخدموا كموظفين أو عمال، ينبغي منحهم رواتب تقاعدية مقدارها يُعادل المبلغ المخصص للضمان الإجتماعي الذي مقداره يُعادل الحد الأدنى من مستوى المعيشة لضمان حياة معيشية كريمة للمواطنين. مبلغ الحد الأدنى لمستوى المعيشة يتغير بإستمرار تبعاً لتغيّر مستوى المعيشة في الإقليم. بالنسبة للعاطلين عن العمل، ينبغي إقرار قانون لتعويض العاطلين عن العمل بنسبة معقولة من رواتبهم ليكونوا قادرين على العيش بها.
الحالة الثانية هي عدم إستفادة الإقليم من خبرات و معلومات عشرات الآلاف من الأكاديميين و المهنيين الكوردستانيين المغتربين في الدول الغربية و الذين يحملون شهادات دراسية في مجال إختصاصاتهم و عدم إتاحة الفرصة أمامهم للمساهمة في بناء الإقليم و دمقرطة المجتمع، بسبب عدم إنتمائهم الى أحد الحزبَين الحاكمَين في الإقليم. إن هؤلاء ثروة بشرية نادرة لا يمكن الإستغناء عنهم، حيث أن العلماء و الباحثين هم الركيزة الأساسية في بناء و تطور و تقدم البلدان.
الحالة الثالثة هي مطالبة حكومة إقليم جنوب كوردستان للحكومات الغربية بعدم إعادة طالبي اللجوء من مواطني الإقليم الى وطنهم و بمنحهم اللجوء في البلدان الغربية. إن حياة هؤلاء لا تتعرض للتهديد و المخاطر في كوردستان و هذا يعني بأنهم غير مستحقين للحصول على اللجوء في بلدان أخرى حسب بنود الإتفاقيات و المعاهدات الدولية. كما أن مطالبة حكومة الإقليم بمنح اللجوء الى هؤلاء، تُسئ لحكومة الإقليم لأن منحهم اللجوء يعني أن النظام السياسي في الإقليم هو نظام مستبد، يضطهد مواطنيه. غالبية طالبي اللجوء من سكان الإقليم هم من الشباب و أن كوردستان بحاجة كبيرة لهم لبنائها و تطويرها، لذلك ينبغي إيجاد فرص الدراسة و العمل للشباب في الإقليم و إشباع إهتماماتهم و هواياتهم ليعيشوا في كوردستان و يخدموا شعبهم و بلدهم.
خلق مجتمع كوردستاني متجانس
يجب إستخلاص الدروس من التجارب الفاشلة لحكومات كثير من دول العالم، خاصة دول منطقة الشرق الأوسط و التي تتألف شعوبها من مجموعات إثنية و قومية و دينية و مذهبية متعددة، حيث حاولت الحكومات العنصرية و الدينية و الطائفية أن تُذيب القوميات و الأديان و المذاهب الأخرى في قوميتها و دينها و طائفتها، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل و خلقت مجتمعات متنافرة، عبارة عن خليط من المجاميع الإثنية و الدينية و المذهبية التي لا تربطها ثقافة و أهداف و مصالح مشتركة أو مصير مشترك، و بذلك عاشت هذه الشعوب و القوميات و الأديان و الطوائف ضمن كيانات سياسية واحدة لفترة زمنية طويلة دون أن تتمكن أن تصبح مجتمعات متجانسة، كما في حالة العراق و سوريا و تركيا و إيران و البحرين و السعودية و غيرها من الدول.
إن كافة القوميات و الديانات و المذاهب يجب أن تتساوى في كوردستان و أن تتمتع هذه القوميات و الإثنيات و الأديان و المذاهب الكوردستانية بحريتها و كافة حقوقها. لذلك يجب الإهتمام بثقافات و لغات و تأريخ و تراث و شعائر و طقوس و مناسبات القوميات في كوردستان و تطويرها و فتح مدارس و معاهد لتعليم أطفال القوميات غير الكوردية لغاتهم و تعريفهم بتأريخهم و تراثهم و أن يكون جميع مواطني كوردستان متساوين في الحقوق و الواجبات. كذلك ينبغي أن تتمتع الأديان و المذاهب و المعتقدات في كوردستان بكافة حقوقها و حريتها في ممارسة طقوسها و شعائرها و الإحتفاء بمقدساتها و مناسباتها الدينية و المذهبية و تعريف أطفالها في المدارس بأديانهم و تأريخ هذه الأديان و الإهتمام بمزاراتهم و تكاياهم و كنائسهم و حسينياتهم.
مبدأ المساواة بين المكونات الكوردستانية ينبغي أن يتم التمسك به من قِبل الأحزاب الكوردستانية و حكومة إقليم جنوب كوردستان لخلق مجتمع كوردستاني متجانس، تتمتع فيه كافة مكوناته الإثنية و القومية و الدينية و المذهبية و العقائدية بحقوق متساوية دون أي تمييز. إن هذا الأمر مهم جداً و ينبغي الإهتمام الكبير به لنشر ثقافة الديمقراطية و حقوق المواطنة و حرية التعبير و الإعتقاد و إنفتاح المكونات الكوردستانية على بعضها و التآلف بينها لخلق مجتمع ذي ثقافة و مصالح و أهداف مشتركة و مصير مشترك و ليشعر الجميع بالإنتماء الى وطنهم، كوردستان.
تأسيس أحزاب سياسية عصرية و منظمات للمجتمع المدني
إن معظم الأحزاب الكوردستانية هي أحزاب تقليدية تعبانة و لا تزال تعيش في زمن الحرب الباردة التي كانت سائدة في القرن السابق و أن قيادات هذه الأحزاب متأثرة بالأفكار الشمولية و الدكتاتورية و الشعور بالدونية و أن قسماً كبيراً من الأحزاب الكوردستانية قائمة على أسس شخصية و عائلية و عشائرية و مناطقية. لهذه الأسباب فأن هذه الأحزاب عاجزة عن الإنفتاح على الأفكار و المبادئ و المفاهيم و القيم المعاصرة و قاصرة عن مواكبة التطور و المستجدات السياسية و الإقتصادية و الفكرية في كوردستان و في الدول المحتلة لكوردستان و في مراكز القرار الدولية. إن قيادات هذه الأحزاب قد ترسّخ فيها التعصب الحزبي و الفكر التقسيمي (الفكر الذي يُقسّم كوردستان الى أقاليم مستقلة و يعزلها عن بعضها، حيث يربط كل جزء من أجزاء كوردستان المحتلة بالدولة المحتلة له و بذلك يعمل هذا الفكر التقسيمي على تقسيم القضية الكوردستانية و تشتيت النضال الكوردستاني) اللذان يهددان النضال الكوردستاني و وحدة كوردستان. لذلك فأن هذه الأحزاب تعيش في عصر غير عصرها، تفتقد الى القدرة على قيادة شعب كوردستان و تحقيق إستقلال كوردستان و أنها في طريقها الى الزوال.
نتيجة عجز غالبية الأحزاب الكوردستانية الحالية في قيادة شعب كوردستان نحو التحرر و الإستقلال، فأن شعب كوردستان ، بحاجة الى تأسيس أحزاب سياسية عصرية، يُشكّل الشباب العمود الفقري لها، ليتسلم جيل الشباب المسئولية الوطنية و ليصبح جيلاً للإدارة و البناء و الدبلوماسية و تنظيم الجماهير و قيادة النضال الجماهيري الحضاري بدلاً من الكفاح المسلح الذي قاده الجيل القديم و تحمّل أعباءه. مثل هذه الأحزاب السياسية العصرية ستكون قادرة على التفاعل مع الأفكار و المبادئ و القيم الجديدة و مواكبة التطورات العالمية و الإقليمية الكبرى التي حدثت و تحدث في العالم و المنطقة و مؤهلةً لوضع إستراتيجية صائبة للنضال الكوردستاني و بالتالي تحقيق إستقلال كوردستان و تأسيس نظام سياسي ديمقراطي يُلبّي طموحات الشعب في الحرية و المساواة و العدالة الإجتماعية و الرفاهية و التقدم. ينبغي أن يعمل كل حزب سياسي على نطاق كوردستان كلها، في كل أجزاء كوردستان، و بذلك يتوحد النضال الكوردستاني على مستوى كوردستان كلها و يتم إنهاء الفكر التقسيمي الخطير الذي لا يزال عملياً يسود في كوردستان. من الأفضل أن يكون لكل حزب فرع رئيسي في كل إقليم كوردستاني، إضافةً الى قيادة عليا يتمثل فيها كل أجزاء كوردستان و كوردستانيو المهجر.
كما ينبغي إنشاء منظمات المجتمع المدني من نقابات و جمعيات و إتحادات مختلفة تقوم بنشاطاتها لتحقيق الأهداف الكوردستانية. يجب أن تكون هذه المنظمات مستقلة عن السلطة التنفيذية في حالة جنوب كوردستان و غير مرتبطة بأحزاب سياسية بالنسبة الى بقية أجزاء كوردستان التي تفتقد الى حكومات. تستطيع هذه المنظمات عقد لقاءاتها و إجتماعاتها و تواصلها مع البعض عن طريق اللقاء المباشر و الإنترنت و الفضائيات. كما ينبغي تأسيس جمعية لحقوق الإنسان للدفاع عن حقوق الكوردستانيين. ينبغي أن تكون هذه المنظمات موحدة تضم النقابات و الإتحادات و الجمعيات الكوردستانية في مختلف أنحاء كوردستان كما هو الحال بالنسبة للأحزاب السياسية.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]