عنوان الكتاب: أكراد سورية:
صراع داخل الصراع
ترجم من اللغة: الانكليزية
مكان الأصدار: بلجيكا
مؤسسة النشر: nternational Crisis Group
تأريخ الأصدار: 2013
مع اتساع رقعة الصراع في سورية، بقيت المناطق ذات الأغلبية الكردية معزولة عنه نسبياً و نظراً لعدم قيامهم بأنشطة تلفت الأنظار، فقد نجحوا في تجنب هجمات النظام. مع مرور الوقت، انسحبت قوات أمن النظام لتتمركز في أمكنة أخرى في حين اغتنمت المجموعات الكردية الفرصة لتحل محلها، وتستولي على مناطق نفوذ، وتحمي مناطقها، وتقدم الخدمات الأساسية لتضمن وضعاً أفضل للأكراد في سورية ما بعد الأسد. يمكن للاكراد ان يحققوا مكاسب كبيرة، إلاّ أنه لا يمكنهم التسليم بالاحتفاظ بهذه المكاسب اذ لا تزال التطلعات الكردية تحت رحمة النزاعات الداخلية، والعداوة مع العرب (التي تجلت في الصدامات الأخيرة) والتنافس الإقليمي حول المسألة الكردية. بالنسبة لأكراد سورية الذين عانوا ومنذ وقت طويل من القمع وحرموا من حقوقهم الأساسية، فإن الحكمة تقضي بالتغلب على الانقسامات الداخلية، وتوضيح مطالبهم، والاتفاق مع أي هيكلية سورية للسلطة ستحل محل النظام الحالي على تعريف وترسيخ حقوقهم، حتى لو كان ذلك على حساب تقديم تنازلات صعبة. وقد آن الأوان كي يقوم نظراؤهم من غير الأكراد بوضع استراتيجية ذات مصداقية لتطمين جميع السوريين بأن رؤية النظام الجديد للدولة، وحقوق الأقليات، والعدالة والمساءلة هي رؤية متسامحة وشاملة على حد سواء.
يقطن أكراد سورية، وهم مجموعة متمايزة عرقياً ولغوياً، مناطق قريبة من الحدود التركية والعراقية، على الرغم من أن عدة مدن أخرى في أجزاء أخرى من البلاد، خصوصاً دمشق وحلب، تقطنها مجموعات كردية كبيرة أيضاً. بشكل أكثر دقة، فإن المنطقة التي يسكنونها لا تمثل إقليماً، سواء سياسياً على العكس من نظرائهم في العراق، فإنهم لم يتمكنوا من الحصول على حكم ذاتي لهم في ظل النظام البعثي أو جغرافياً: فحتى اغلب المناطق الكردية في الشمال الشرقي تتخللها مناطق مختلطة من السنة العرب، والأشوريين، والأرمن، والتركمان واليزيديين. ففي الوضع الراهن، لا يمكن التحدث عن إقليم كردي متصل الأطراف: علاوة على ذلك، وعلى عكس إخوانهم في تركيا والعراق وإيران، فإنهم لا يتمتعون بميزة وجود الجبال في مناطقهم بحيث يتمكنون من تنظيم مجموعات مسلّحة بشكل آمن تستطيع مقاومة الحكومة المركزية.
رغم أن النظام تمكن من تحييدهم جزئيا عبر استمالة مجموعات كردية اليه بالتسامح حيال نشاطها السياسي والبرلماني (طالما ان هذا النشاط موجهاً ضد تركيا) والنشاط الإجرامي (والمتمثل في التهريب غالباً)، فإن الأكراد عانوا أيضاً من تمييز وقمع منهجيين. من بين الأشكال الاكثر فضاعة لعدم مساواتهم بغيرهم من السوريين، فإن حوالي 300,000 منهم أي حوالي 15% من عددهم الإجمالي الذي يقدّر بمليوني نسمة لا يزالون بدون صفة قانونية، حيث يعيشون في فراغ قانوني محرومين فيه من حقوقهم الأساسية. رغم أنهم ثاروا بين الفينة والأخرى، فإنهم كانوا يُقمعون بسرعة. وكانت النتيجة وجود مجموعة سكانية هادئة وساكنة بشكل عام.
كل ذلك بدأ يتغير. كما حدث في العراق في عام 1991 ومرة أخرى عام 2003، فإن الأزمة الحادة الراهنة توفر للأكراد فرصة لتصحيح أو على الأقل البدء بتصحيح ما يعتبرونه ظلماً تاريخياً يتمثل في قيام سلطات الانتداب الفرنسية والبريطانية بتقسيم الشرق الأدنى بطريقة تركتهم أكبر أمة لا دولة لها في المنطقة. ويبدو أنهم عازمين على اغتنام هذه الفرصة، رغم اصطدامهم برؤى متنافسة حول الطريقة المثلى لتحقيق ذلك.
لو ان الشباب الأكراد انضموا إلى باقي السوريين في انتفاضتهم عام 2011، ورددوا الدعوات بإسقاط النظام، لتمكنت الأحزاب الكردية التقليدية من تبني منظوراً مختلفاً إلى حد ما, فقد تملكتهم الخشية من ردة فعل انتقامية ضد شعبهم إذا انضموا بشكل حاسم إلى المعارضة؛ اضافةً الى انهم يضمرون استياءاً من لا مبالاة العرب حيال احتجاجاتهم هم وما تلاها من قمع النظام عام 2004؛ وجدوا أن بوسعهم تحقيق مكاسب أكبر بالبقاء على محايدين؛ كما باتوا قلقين من أن النشطاء الذين باتوا يكتسبون قوة متنامية سيعترضون على دورهم. في هذه الأثناء، فإن النظام، الذي كان يأمل بتحاشي فتح جبهة جديدة ويعوّل على الانقسامات العربية الكردية لجعل الصورة أكثر تشوشاً، فإنه ترك الأكراد وشأنهم إلى درجة كبيرة. ونتيجة لذلك، فقد اختارت معظم الأحزاب الكردية أن تبقى في الظل من الصراع الأوسع سوريا ، بحيث لا يقاتلون النظام ولا يدعمونه، وفي نفس الوقت يتبنون مقاربة متشككة حيال المعارضة (غير الكردية) و ينظر إليها على أنها مفرطة العربية القومية والاسلامية.
ما يعتبر الان بانه الحزب الأكثر نفوذاً حالياً (وبشكل أساسي نتيجة الصراع الدائر)، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ، كان أكثرها إحجاماً عن مواجهة النظام، ما دفع الآخرين إلى اتهامه بالتواطؤ معه. يعتبر هذا الحزب المنظم، والمدرب والمسلّح بشكل جيد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، المجموعة الكردية المتمردة الرئيسية في تركيا. بعد اندلاع الانتفاضة بوقت قصير، عاد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ، الذي كان في معسكراً مع حزب العمال الكردستاني في جبال شمال العراق، إلى سورية، وأحضر معه وحدة من المقاتلين. ففي تموز/يوليو 2012، استغل الحزب الانسحاب الجزئي لقوات أمن النظام من مناطق كردية لترسيخ حضوره السياسي والأمني، حيث أخرج المسؤولين الحكوميين من مباني البلدية في خمسة معاقل له على الأقل واستبدل الأعلام السورية بعلمه. وبقيامه بذلك، فإنه فرض نفسه علناً على أنه السلطة المسؤولة عن مؤسسات الدولة في معظم البلدات ذات الأغلبية الكردية.
يتكون منافسو حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي من مجموعة غير متجانسة من الأحزاب الكردية الصغيرة، يرتبط العديد منها بعلاقات وثيقة مع المجموعات الكردية العراقية. و برعاية مسعود برزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان في العراق ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني فقد تحالف أكثر من عشرة من هذه الأحزاب وشكلوا المجلس الوطني الكردي في تشرين الأول/أكتوبر 2011. شكل هذا التحالف الخصم الكردي الفعال الوحيد لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ، بالرغم من الانقسامات الداخلية في أوساطه وغياب قوة مقاتلة له داخل سورية قلصت قد قدرته على تشكيل ثقل مواز. على الرغم ذلك، فإن الصراع في سورية تسبب بخلق فراغ أمني وسياسي في المناطق الكردية، أدى إلى تصاعد المنافسة بين هذين التيارين الرئيسيين.
ان الفصائل الكردية لا تتنافس فيما بينها فحسب بل تتنافس أيضاً مع مجموعات المعارضة غير الكردية، وجميعها تسعى لإيجاد مكان لها في صراعها على الموارد وتوسيع مناطق نفوذها. لقد أدى الخطاب الذي تطغى عليه الصبغة الإسلامية والقومية العربية للمعارضة غير الكردية إلى نفور الكثير من الأكراد، خصوصاً من أنصار حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي, كما أسهم في توسيع الفجوة بينهما ما يُعتقد أنه اعتماد المعارضة غير الكردية على رعاة محافظين في تركيا والخليج. و مع استمرار الصراع واحتمالية تحوّله إلى حرب أهلية شاملة، فإن التوترات الطائفية والعرقية في تصاعد مستمر؛ فقد شهدت البلاد صدامات بين مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومجموعات المعارضة المسلّحة (التي يطلق عليها غالبا الاسم الواسع والمضلل في كثير من الأحيان وهو الجيش السوري الحر). لقد كانت هذه المعارك حتى الآن وبشكل أساسي صراعاً على مناطق النفوذ، لكنها يمكن أن تتصاعد لتشكل صراعاً أوسع حول الوضع المستقبلي للأكراد.
و أخيراً، فإن الصراع في سورية قد أجّج المعركة غير المعلنة على قلب وروح الحركة الوطنية الكردية في البلدان الأربعة (سورية، والعراق، وتركيا وإيران) المتوزعة فيها. يمثل الراعيان الإقليميان لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والمجلس الوطني الكردي، وهما على التوالي حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني النموذجين المهيمنين للقومية الكردية حالياً، كما أنهما يمثلان نمطين متعارضين في التعامل مع تركيا، التي تضم أراضيها جزءاً كبيراً مما يعتبره الأكراد موطنهم التاريخي. لقد استعمل حزب العمال الكردستاني الصراع المسلّح بين الفينة والفينة في محاولة لإجبار أنقرة على منح حقوق ثقافية وسياسية أكبر للأكراد في تركيا. على النقيض من ذلك، فإن الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يوظف هيمنته على حكومة إقليم كردستان، سعى بشكل حثيث في السنوات الأخيرة لتطوير علاقات اقتصادية وسياسية قوية مع تركيا لإغرائها باتخاذ موقف أكثر إيجابية وفي نفس الوقت تقليص اعتماد حكومة كردستان على بغداد.
لابد من إضافة تركيا إلى هذه الصورة؛ اذ إن مدى استقلال حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي عن حزب العمال الكردستاني قضية إشكالية إلى حد ما، رغم أنه بالنسبة لأنقرة فإن المسألة سُوّيت منذ أمد بعيد. فمن وجهة نظرها، ترى إن الحركة الكردية السورية لا تعدو كونها فرعاً أو نسخة طبق الأصل عن حزب العمال الكردستاني، الذي تخاطر محاولاته باكتساب موطئ قدم له في سورية بتغذية المشاعر الانفصالية للأكراد في تركيا. إن اي معقلِ لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بجوار تركيا يمكن أن يستغله حزب العمال الكردستاني كمنصة انطلاق في حربه مع تركيا، لا يمكن لانقرة ان تتساهل إزاءه.
بالتزامن في مسعاه لاحتواء الخصومات الداخلية، وتطمين أنقرة ومحاولة لفرض سيطرته، حاول برزاني التوسط في الوصول إلى اتفاقية بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والمجلس الوطني الكردي. و يحمل هذا الاتفاق مكاسب للطرفين: في حين أن المجلس الوطني الكردي يتمتع بعلاقات مع شركاء دوليين وبالشرعية، فإنه يعاني على نحو متزايد من الانقسامات الداخلية ويفتقر إلى وجود حقيقي على الأرض. على العكس من ذلك، فإن الدعم المحلي القوي الذي يحظى به حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لا ينعكس في مكانة دولية موازية. إلا أن هذا التزاوج الذي يسعى برزاني لإتمامه، تحت اسم الهيئة الكردية العليا، هو في أفضل الأحوال زواج مصلحة. لا يثق أي من الطرفين بالآخر؛ ولكليهما علاقات (متوترة) مع مجموعات المعارضة السورية المتصارعة؛ وقد حدثت مناوشات بينهما في مناطق حساسة؛ وكلاهما يتحين الفرص إلى أن تتضح صورة الأوضاع في البلاد. وعلى نحو مماثل، بالرغم أن تركيا اختارت حتى الآن عدم التدخل مباشرة ضد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي خشية أن تغرق في مستنقع، وفي غياب الأدلة على ضلوع حزب العمال الكردستاني، ورغم أنها منحت برزاني دوراً قيادياً في احتواء حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ، فإن هذه المقاربة قد لا تدوم. وبمرور الوقت، فإن مصالح أربيل وأنقرة قد تفترقا على الأرجح. في حين أن أربيل تهدف إلى توحيد منطقة واسعة يسيطر عليها الأكراد على جانبي الحدود العراقية السورية، فإن من شبه المؤكد أن أنقرة تخشى من تبعات مثل هذه الحصيلة على سكانها من الأكراد، وخصوصاً أثرها على المكانة العامة لحزب العمال الكردستاني.
على أكراد سورية أن يفعلوا ما بوسعهم لتجنب الإفراط في الانخراط في هذه المعركة الإقليمية الأوسع وعدم المبالغة في مسعاهم لتحقيق درجة أكبر من الاستقلال. إن مصيرهم في الوقت الحاضر هو في سورية، وبالتالي فإن السوريين هي الطرف الذي ينبغي عليهم التفاوض معه حول دورهم في النظام الجديد وضمان الاحترام لحقوقهم الأساسية بعد مرور كل هذا الوقت.[1]