لماذا تخلت أمريكا عن الكرد؟
راج آل محمد
المقال مستل من مدونة سيث جي فراتنزمان.
بعد صدمة السادس عشر من تشرين الأول/اكتوبر عندما دخل الجيش العراقي إلى كركوك مع انسحاب القوات الكردية، فإن أصوات كردية كثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي طلبوا أجوبة [لأسباب] “الخيانة“. فقد كانوا يتساءلون كيف من الممكن، بعد سنوات من القتال كتفاً لكتف مع الأمريكيين والكثير من القوى الغربية الأخرى، أن يتبخر أصدقاؤهم بهذه السرعة ويتركونهم تحت رحمة السلطة القومية المتزايدة في بغداد وطهران المتلهفة في إضعاف حكومة إقليم كردستان على نحو مستمر. يتساءل الكثيرون لماذا لم ترسل الولايات المتحدة دبلوماسيين رفعي المستوى لحل الأزمة وتشجيع حل سلمي للصراع كجزء من استراتيجية عراق قوي ما بعد داعش. قد يبدو المرء مشدوهاً لرؤية أن القوات العراقية المدَّربة أمريكياً تستخدم عربات هامفي ضد حلفائها.
بالنسبة لواضعي السياسات الأمريكيين، لم يكن هذا هو السؤال مطلقاً. فالولايات المتحدة ستقف طبعاً مع بغداد في ظل حكومة عراقية “موّحدة” ذات سيادة. وأن أية تصريحات خلاف ذلك يعني أنها تدعم انفصال كردستان وترسل رسالة خاطئة إلى رئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي استثمرت الولايات المتحدة في حكومته مليارات الدولارات.إن أي انحراف عن الدعم الكامل لبغداد ستدفع بالعبادي إلى الارتماء في حضن إيران في وقت غير مناسب أبداً. إن الولايات المتحدة تسعى إلى ترتيب الشرق الأوسط ما بعد داعش حيث يشكل العراق مفتاحه فالولايات المتحدة، بعد 14 عاماً من غزوها للعراق في 2003،مدينة بالفضل للعراق أكثر من أي وقت مضى في التاريخ. لقد تغيرت كذلك علاقات القوى بين بغداد وواشنطن. ففي الوقت الذي شقت فيه واشنطن الطريق بسيطرتها على العراق، وساهمت في وضع دستور في عام 2005 وإجراء الانتخابات، فإن العراق هي التي تدرس خياراتها الآن. العراق بلد حيث رئيس وزرائه يتصرف بشكل مستقل ويستضيف الكثير من قادة المليشيات الشيعية المؤيدة لإيران الذين تمت دعوتهم للمشاركة في الحكومة. إن الولايات المتحدة بحاجة إلى إقناعهم بعدم الوقوف مع طهران بل بالبقاء قريبين من الرياض، وقد عملت الولايات المتحدة كثيراً على تلك العلاقة خلال السنة الماضية أو ما يزيد. من وجهة نظر واضعي السياسات في واشنطن، فإن العراق هو المفصل الذي يتركز عليه الشرق الأوسط برمته.
إن إثارة إيران في العراق ليست الطريقة الصحيحة، ولهذا تعتقد الولايات المتحدة أن دعم بغداد ضد إقليم كردستان هي أفضل طريقة لإذكاء نيران الوطنية العراقية التي من شأنها ،كما تعتقد الولايات المتحدة، أن تخفف وتصرف النظر عن التقسيم “العرقي–الطائفي“. يعني ذلك أن تشجيع الخطاب المناوئ للكرد هو فعلياً “الحل” للمشاكل العراقية، لأنه من وجهة النظر الأمريكية فإن من شأن ذلك أن يوّحد العرب السنة والشيعة ضد عدو مشترك وإبعادهم عن الدور الإيراني.
قد يبدو غريباً أن تشجع سياسة الولايات المتحدة على الوطنية العراقية وإن كان ذلك يعني بشكل حتمي إحساساً مناوئاً للكرد. لقد فرّ حوالي 160,000 كردي من المناطق القريبة من كركوك وزمار منذ بدء الاشتباكات في السادس عشر من شهر تشرين الأول ولكن بالنسبة للولايات المتحدة فإن تلك التضحية لا تساوي شيئاً أمام انقاذ العراق. على أية حال فإنها ليست الهجرة الجماعية الأولى للناس من العراق. إن إنقاذ العراق منذ عام 2003 يعني، إلى حد بعيد،دمار معظم البلد والقضاء على المجموعات التي عارضت الحكومة التي ساعدت الولايات المتحدة على وصولها إلى السلطة.
الوطنية العراقية: جواب الولايات المتحدة للعراق
كانت الولايات المتحدة قريبة من نوري المالكي رغم أنه كانت لديها مخاوف من النفوذ الإيراني بعد صعوده إلى السلطة. لنتذكر كيف وصفت نيويورك تايمز بريت ماكغورك في عام 2012 حينما عيّنه أوباما سفيراً للعراق، وقد استنكف عن الترشيح بعد الكشف عن فضيحة صغيرة. ” إن انسحاب السيد ماكغورك كان ضربة للبيت الأبيض وهو يحاول إدارة المرحلة التالية من تطور العراق مابعد الحرب. منذ سحب القوات الأمريكية في كانون الأول /ديسمبر بعد ثماني سنوات من القتال، يحاول السيد أوباما أن يحافظ على الاستقرار الهش في العراق وسط العنف المنتشر والمخاوف من النفوذ الإيراني. إن البيت الأبيض قلق من أن يتحول رئيس الوزراء نوري كمال المالكي إلى رجل قوي آخر“.
لقد فضلت الولايات المتحدة المالكي في ظل إدارة أوباما. وكما لاحظت إيما سكاي Emma Skyفي فورن افيرز Foreign Affairs “عندما كادت القائمة العراقية الوطنية اللاطائفية بقيادة إياد علاوي أن تلحق الهزيمة بحزب الدعوى، بقيادة نوري المالكي، شاغل منصب رئيس الوزراء، فإن إدارة أوباما أخفقت في دعم حق الكتلة الفائزة في اختبار قوتها لتشكيل الحكومة. بدلاً من ذلك، أبدت [إدارة أوباما] رغبتها في إبقاء المالكي في السلطة، رغم بنود الدستور العراقي واعتراضات الساسة العراقيين” وما تبقى فهو للتاريخ. ساعد ظلم المالكي وتعصبه الطائفي للشيعة على تنامي التطرف. وعندما ظهرت داعش، تفتت جيش المالكي تاركاً وراءه 2300 عربة هامفي ليستولي عليها العدو. وفي مفارقة غريبة ساعدت الكارثة التي ورّثها المالكي للعراق أصبحت سبباً جديداً للولايات المتحدة لتفرض قيادة جديدة يمكن النظر إليها على أنها المنقذ القادم. فقد أصبح العبادي، رغم أنه عضو في حزب المالكي، هو القائد. وتأمل الولايات المتحدة أن تنقله ليشكل قاعدة السلطة الخاصة به، تكن بالفضل للولايات المتحدة ، وإن كان هو يستغل أمريكا بذكاء لأهدافه الخاصة. رغم الأصوات الكثيرة التي حذّرت من النفوذ الإيراني في العراق والاقتراح أن تقسيم البلد ربما يكون أفضل، فإن واشنطن المؤسساتية، أو ما يسميه البعض ب“الدولة العميقة” لا يمكنها أن تشجع تفكيراً خيالياً كهذا. منذ نهايات الاستعمار في نهاية الستينات [من القرن الماضي]، حملت الولايات المتحدة لواء الاستعمار الجديد حيث تتدخل في شؤون الدول التي تركتها الدول الأوربية، ليس بمعنى احتلال دول أخرى واستعمارها ولكن من خلال سعيها للسيطرة العالمية والفصل في قضايا العالم. لذلك يتساءل البعض، وهم محقون في ذلك، لماذا سمحت الولايات المتحدة بتفكك يوغسلافيا وبدولة كوسوفو مستقلة ولا تسمح بدولة كردستان. السبب هو أن إحداها تخدم مصالح الولايات المتحدة بينما الأخرى لا تخدمها. قال هنري كسينجر ذات مرة ” ليس لدى أمريكا أصدقاء أو أعداء، ولكن فقط لديها مصالح“.بالنسبة لمن هم في واشنطن فإن مفهوم الحلفاء هو سذاجة ورومانسية مضحكة وتعطي نتائج عكسية على المصالح الأمريكية.
السياسة الخارجية الأمريكية لا تُبنى على المبادئ
نقد آخر يوّجه إلى السياسة الخارجية الأمريكية في أماكن مثل العراق هو: ماذا عن القيم الأمريكية. ماذا عن مبدأ ويلسون في “حق تقرير المصير” ومبادئ كنيدي و“دعم أي صديق كان“. إن تلك المبادئ تنطبق على أربيل أكثر من بغداد التي تمنع المشروبات الكحولية. بغداد التي لا يستطيع فيها معظم الصحفيين الأجانب والأجانب بشكل عام على مغادرة المنطقة الخضراء أو الفنادق المحروسة خشية الاختطاف أو الإرهاب، على عكس إقليم كردستان. ولكن المبادئ نفسها يُنظر إليها في دوائر السياسة في واشنطن على أنها سذاجة. تاريخيا دعمت الولايات المتحدة شفهيا “الديمقراطية” و“حق تقرير المصير“. ورغم أن وزارة الخارجية تُصدر تقريرها السنوي عن” الحرية الدينية“، فإن الولايات المتحدة الأمريكية في العالم هي أكثر الدول التي تحد من الحرية الدينية. إن الدول التي تشتري أسلحة أكثر من الولايات المتحدة ليست هي بالضبط أصحاب الديمقراطيات. لقد تصدرت ثلاث أنظمة ملكية القائمة في السنوات الثلاث الأخيرة وهي قطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة. دول أخرى ذات سجل سيء جداً في مجال حقوق الإنسان، بما فيها دول تقوم باحتجاز أكبر عدد من الصحفيين، هي من أقرب الحلفاء للولايات المتحدة. إن أي شخص يفترض أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة يجب أن تعكس القيم والمبادئ الأمريكية مخطئ تماماً لأن سياسة الولايات المتحدة يمكن أن تُقاس على النقيض تماماً منها. باختصار، كلما كانت الدولة تنتهك حقوق الإنسان وتقمع حرية الكلام وتسجن الصحفيين وتكون أقل علمانية وتسحق الحرية الدينية، كلما كانت حليفة محتملة للولايات المتحدة. ربما تكون هذه إحدى صدف التاريخ أو إحدى نتائج الحرب الباردة. فأثناء الحرب الباردة تحالفت الولايات المتحدة مع أنظمة ملكية محافظة أو أنظمة دينية متطرفة مثل باكستان لمحاربة السوفييت. والحجة هي أنه أحياناً يجب أن تتحالف مع شخص سيء لتلحق الهزيمة بشكل أسوأ على المسرح العالمي. بعد مرور 16 عاماً على هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر لا تزال الدولتان المرتبطتان ارتباطاً وثيقاً بخاطفي الطائرات، بينما فيهما الدولة التي جاء منها أكبر عدد من الخاطفين والدولة التي ساندت النظام الذي استضافتهم في افغانستان، من أقرب حلفاء الولايات المتحدة. إن المسؤولين الأمريكيين يشعرون بأمان أكثر في ظل الدكتاتوريات لأنهم يُعاملون بشكل أفضل من قبل الديكتاتوريين. إنهم يميلون إلى سياسة خارجية ثابتة على المبدأ و جديرة بالثقة لا تتغير مع مرور الوقت حيث لا يطلبون أذن برلماناتهم المزعجة لإقامة قواعد للقوات الأمريكية ولا حيث الصحفيون يسألون أسئلة ولا حيث هناك استفتاءات مزعجة. أما الديمقراطيات فإنها تكون أكثر وقاحة حيث يجب على الدبلوماسيين إيجاد طريقة والتعامل مع الاحتجاجات والمجتمع المنفتح. ولكن في ظل أنظمة الحكم الديكتاتورية، فإن الدبلوماسيين يشعرون بأنهم مثل لورنس العرب وهو شيء يسبب الإدمان. إن عدد الدبلوماسيين الذين رجعوا من الخليج وانتهى بهم المطاف بدعم النظام الذي كانوا يقيمون في أحضانه و يعملون كجماعة ضغط (لوبي) مرتفع جداً. إن الأنظمة الديكتاتورية والدينية المحافظة تقوم بعمل سحر (حجاب)غريب للغربيين وهو ما لا تقوم به الديمقراطيات المزعجة. على اية حال فإن الغربيين الذين يعايشون الأنظمة الديكتاتورية الأجنبية لا يعانون من عصا الديكتاتورية الغليظة، فهم ليسوا أقلية مضطهَدة ولا عليهم أن يمروا بالبيروقراطية أو يختفوا أن يُعذبوا. لذلك فإن نمظ حياة المنطقة الخضراء أو ما شابهها بالنسبة لهم هي تجربة رائعة.
في الحرب على الإرهاب غالباً ما تكون الأنظمة التي دعمت الإرهاب المتطرف هي التي تكون حليفة للولايات المتحدة دون أي منطق من أنها هي وحدها تستطيع أن تسيطر على فرانكشتاين التطرف الذي ساعدوا في إيجاده. فإن أردت أن تحارب طالبان في أفغانستان، ينبغي عليك أن تتحالف مع المجموعة التي أوجدتها. أو ينبغي أن توازن بين الإثنين على أقل تقدير.
المصالح، ولكن ليست طويلة الأجل
هذا لا يعني أن الولايات المتحدة قد عملت مع الكثير من الجماعات الساعية إلى الحرية خلال السنوات الماضية. بدءاً من جون قرنق في السودان وانتهاءً بأحمد شاه مسعود، عملت الولايات المتحدة مع ما يمكن اعتباره الوجه الأفضل من معادلة الحرية ضد الاستبداد. ولكن عموماً تكون تلك العلاقات قصيرة الأمد وتظهر فقط عندما يحصل أن تكون مصالح المناضلين تتشابك مع مصالح الولايات المتحدة. وتجسد العلاقة الكردية مثالاً نموذجياً لذلك حين كان بالإمكان استغلالهم من قبل أمريكا وإيران ضد صدام حسين والعراق. ولكن عندما بات التوصل إلى اتفاقية الجزائر في عام 1975 ممكناً، تبخرت المساعدة الأمريكية. وعندما شن صدام حسين هجمات الإبادة الجماعية بالأسلحة الكيميائية في الثمانينات، فإن الوثائق السرية تُظهر أن الولايات المتحدة كانت تعرف ذلك بل ساعدت صدام في برامج أسلحته في الثمانينات. كان ذلك ضمن سياق محاربة إيران التي كانت قد أخذت 52 رهينة أمريكي في عام 1979 وحجزتهم لمدة444 يوماً. لقد لاحظ مقال عن دور الولايات المتحدة في الثمانينات ما يلي: ” لقد قدمت الولايات المتحدة أسلحة تقليدية أقل من الشركات البريطانية والألمانية ولكنها ساعدت بتصدير العناصر البيولوجية، بما فيها انثراكس والمكونات الضرورية للأسلحة الكيميائية، وجاء في التقرير أن إحدى الشركات التي تعمل كواجهة لوكالة الاستخبارات الأمريكية CIA باعت له قنابل عنقودية في تشيلي “
هذا هو السياق الذي ينبغي أن نفهم من خلاله ما تفعله الولايات المتحدة في العراق في الوقت الحاضر. قد يبدو شيئاً غير مسبوق أن نرى أنه بعد ثلاث سنوات من القتال ضد داعش أن الولايات المتحدة تبقى ببساطة صامتة وهي ترى القوات العراقية، التي تقودها مليشيات شيعية، وهي تهاجم القوات الكردية. قد يظن المرء أن التحالف المؤلف من سبعين دولة ستعبّر عن دهشتها وتطلب التدخل لوقف الاشتباكات. قد يظن المرء أن الولايات المتحدة ستصاب بالدهشة لرؤية عربات هامفي والوحدات التي دربتها تُستخدم ضد البيشمركه الكردية بدلا من داعش. وقد يظن أنه بما أن الولايات المتحدة تعارض رسمياً التدخل الإيراني في المنطقة، فإنها ستلاحظ كيف أن السياسة العراقية متأثرة بقاسم سليماني قائد قوات القدس في الحرس الثوري الإيراني.
إيران لعبت الدور الرئيسي في معارضة الاستفتاء في إقليم كردستان
إن شعور الصدمة إزاء مسار هذه الأحداث ليس في محله. فالبنسبة للدبلوماسيين البراغماتيين البغيضين ومستشاريهم من المهم ألا تسيطر علينا العاطفة إزاء هذه الأحداث. لقد كان إقليم كردستان مفيداً من 2014 إلى 2016، ولكن مع هزيمة داعش إلى حد كبير، فإن الولايات المتحدة يمكن أن تعود إلى سياسة العراق الموحد القائمة في بغداد. لقد بات إقليم كردستان اليوم، إلى حد كبير، مصدر صرف النظر [عن محاربة داعش]. ومحاولة الإقليم بتذكير الولايات المتحدة أنه كان ذات يوم حليفاً والجزء المستقر الآمن من العراق حيث كان الدبلوماسيون الأمريكيون يذهبون إليه لدعم الحرب على داعش هو بمثابة إلحاح الضمير الذي ينبغي إساكته. يرى بعض واضعي السياسات في الولايات المتحدة أن إيجاد حكومة إقليم كردستان كان خطأ تأريخياً ويتمنون لو أن الولايات المتحدة لم تدعهما في 2005 حيث أن ذلك أدى إلى تآكل الوحدة العراقية وأعطت الكرد “آمالاً كاذبة” بالاستقلال ذات يوم. إن الهدف الحقيقي للولايات المتحدة هو إعادة تشكيل العراق دون أن يلعب فيه الكرد والعرب السنة دوراً كبيراً. إن الأقليات تتطلب توازناً للمصالح ودعماً للتعددية لذلك من الأسهل التعامل مع العبادي والاعتماد على شخص واحد مثلما تعاملت الولايات المتحدة مع المالكي.
ثمة اقتراح جديد للسياسة الأمريكية، وهو ما تم تبنيه من دون شك بشكل من الأشكال، يقضي أن ” تشير التصريحات الرسمية الأمريكية إلى السكان في العراق كعراقيين ضمن وحدات إقليمية خاصة وليس باسم المجموعات الإثنية–الطائفية (سنة، شيعة، أكراد).” وترجمة ذلك هو أنك إذا لم تدعِ بوجودها، فإن الجماعات الإثنية–الطائفية سوف تتلاشى. إن اختصار حضور الميليشيات الشيعية وميل وحدات الجيش العراقي التي دربتها الولايات المتحدة نحو الأعلام الشيعية ليست أولوية بالنسبة لواشنطن. ما هو أولوية بالنسبة لها هو معاقبة أربيل. ” إن الترجي والتودد إلى القادة الكرد ليست سياسة ولا تفيد مصالح الولايات المتحدة. فإن أرادت واشنطن أن تجعل من أربيل شريكاً دائماً كجزء من العراق، ينبغي أن تتوقف عن تشجيع السلوك السيء ووضع شروط على دعمها لحكومة إقليم كردستان بما في ذلك إصلاح دستوري وإنهاء الدعم المالي والعسكري.” ما يستحق اهتماماً خاصاً هو السياسة الأمريكية الجديدة المحتملة عن“دعم الاتجاهات الوطنية العراقية نحو دولة عراقية مدنية” لقطع اعتماد العراق على إيران، ينبغي على الولايات المتحدة أن تبيّن أنها تدعم “بديلاً أفضل” من الميليشيات الإيرانية. لقد أعطى استفتاء كردستان المبرر للولايات المتحدة لكي تسمح بإضعاف حكومة إقليم كردستان اقتصادياً وجعلها عاجزة جزئياً. واضعي السياسات الأمريكيين يقولون أحياناً أن ذلك سببه أن حكومة إقليم كردستان يكتسحها “الفساد” و“السياسات الأسرية” لكن الولايات المتحدة لا تجد غضاضة في ذات السياسات الأسرية في قطر أو الفساد في دول ومجموعات أخرى تتعامل معها.
الفوضى الاستعمارية الكامنة: العقدة الأمريكية من لورنس العرب .
تريد الولايات المتحدة أن تبقى في العراق لأجل طويل، ويُنظر إلى إقليم كردستان، بطريقة غريبة وساخرة، على أنه العقبة الرئيسية في طريق إعادة تشكيل العراق مرة أخرى من قبل الولايات المتحدة. وكما كتب كليزر Glaser و بيربل Perble في ذا ناشيونال انترست The National Interest “إذا ما انقسم البلد إلى قسمين، أو أكثر، فإن ذلك ربما سيعزز النفوذ الإيراني في بغداد وبقية المناطق التي يسيطر عليها الشيعة في العراق– وهو شيء لطالما وقفت الولايات المتحدة في وجهه. لكي تمنع النفوذ الإيراني، فإن الولايات المتحدة تريد أن تسوّق للوطنية العراقية. وهذا تكرار للسياسة الأمريكية في العراق بعد الغزو. “لقد أصرّت إدارة أوباما أن المالكي عراقي وطني وصديق للولايات المتحدة.” إن الولايات المتحدة تعاني بشكل ما من الفوضى الاستعمارية الكامنة. وبما أن الولايات المتحدة قد دخلت اللعبة الاستعمارية متأخرة، فإنها تشعر بأنه بحاجة إلى أن تصلّح ما تراه إخفاقات للقوى الاستعمارية السابقة مثل المملكة المتحدة وفرنسا وذلك من خلال استعمال وسائلها الخاصة. هنا يمكننا أن نرى أن الولايات المتحدة لديها الميل لأن تقرر للعراقيين بأنهم “وطنيون” وأن تخبرهم أن مشاعرهم الإثنية والدينية الحقيقية ليست مقبولة. إن الولايات المتحدة هي التي تستطيع أن تعمل منهم “وطنيين” مثلما فعل البريطانيون عندما جلبوا الملك فيصل “ليوّحد” العراق. فإن قال الكرد أنهم أكراد فإن هذا بمثابة الطائفية. ولكن إذا قال الأفارقة–الأمريكيون أننا أفارقة–أمريكيين فإن هذه الهوية السياسية مقبولة في أمريكا؛ وذلك لأن السياسة الأمريكية تبنى تماماً على ما تقوم به في الداخل ينافي، إلى حد بعيد، ما تفعله في الخارج. لئن كنت تحتفي بالتنوع في الوطن، فإنك تحتفي بالوطنية في الخارج.
على العكس من النفور غير المحسوب لبعض المستشارين وصناع القرار لحكومة إقليم كردستان، فإن سكاي تلاحظ في مقالتها في فورن أفيرز أن الخلاف بين العراق وحكومة إقليم كردستان ينبغي أن “يتم التفاوض عليه بين بغداد وأربيل وتصادق عليه دول الجوار ويعترف به المجتمع الدولي. مهما يكن الأمر فإن على الولايات المتحدة أن تدعم إعادة إحياء جهود الأمم المتحدة لتقرر، منطقة إثر منطقة، الحدود بين إقليم كردستان وبقية العراق. وينبغي أن تعطي العملية وضعية خاصة لكركوك لما لها من تنوع سكاني وتاريخ متنازع عليه وثروة نفطية. إن أي رئيس وزراء عراقي يمكنه أن يتحمل تبعات خسارة كركوك. ولكن التوسط الدولي يمكن أن يلعب دور التوصل إلى تسوية.”
يبدو ذلك مثالياً وقد يظن المرء أنه من مصلحة أمريكا أن يكون العراق مستقراً ومسالماً. لكن إيران كانت أسرع من الولايات المتحدة في تشجيع العراق على التحرك نحو كركوك وقد استخدمت إيران نفوذها بين أجزاء من الاتحاد الوطني الكردستاني من أجل خلق انقسامات داخلية في حكومة إقليم كردستان. كما إنها شجعت العراق على أن تسيطر على كامل الحدود السورية.وليس من الغرابة بالتالي أنه في الوقت الذي كان فيه العبادي في الخارج محلقاً إلى السعودية والأردن وتركيا وإيران ما بين 22-26 تشرين الأول فإن الميليشيات المدعومة إيرانياً كان تواصل اشتباكاتها مع البيشمركه. لم يعد هذا سراً فقد تم تصوير هادي العامري وأبو مهدي المهندس في الخطوط الأمامية بالقرب من زمار وربيعة وهم يخططون للعمليات. ويستعين العبادي بمصادر خارجية تدين لهذين القائدين في سياسته إزاء كردستان. لقد استعانت وزارة الداخلية التي يسيطر عليها تنظيم بدر بشعبة الاستجابة لحالات الطوارئ ERD الخاضعة للشرطة الفيدرالية خلال السنة الماضية من العمليات ضد داعش في الموصل وفي أماكن أخرى كجزء من القوات المهاجمة على الكرد. ولكن العملية في معظمها لم تكن عملية الجيش العراقي بل عملية الحشد الشعبي. وقد أكد العبادي لوزير الخارجية تيلرسون أن قوات الحشد الشعبي هي “أمل” العراق والمنطقة ومؤسسة من مؤسسات الحكومة. وقد رفض [العبادي] مراراً دعوات حلّها رغم أن دور الميليشيات كان مشهوداً عندما تداع جيش المالكي ومن غير المحتمل أن تعود إلى بيوتها وسوف تستمر في توجيه سياسة العراق.
ظهر العامري في ” حوار عن الإرهاب” الذي عُقِد في بغداد في الثامن والعشرين من تشرين الأول في حالة من الإعياء. إن هذا هو الوجه الحقيقي للعراق والذي يُريد صناع القرار الأمريكيون تجاهله. فهم يأملون في إهمال المعاملة السيئة للمناطق السنية وإقليم كردستان لكي يستعيدوا العراق كما يريدونها أن تكون. إن سياستهم تكمن في عدم ذكر الأقليات في العراق وهم بذلك يأملون في أن أية شكاوى من طرفهم سوف تتلاشى.
ربما يقول المنتقدون أن هذا مثير للسخرية. ولكن العالمون ببواطن الأمور يقولون أن هذا ذكاء وواقعية. تتفق القوى الغربية مع مقولة “لا تتعاطفوا كثيراً مع بيشمركة كردستان. نعم هم لعبوا دورهم [في محاربة داعش] ولكنه الآن أوان العراق. إن دعم الكرد يضعف بغداد ويلحق الضرر بالعبادي. فقد أخبرنا [العبادي] أنه إذا أردناه أن يعمل مع السعوديين، فإنه يجب أن نُضعِف بشكل دائم إقليم كردستان وإعادته إلى ما كان عليه في 2003.” وهو ما وافقت عليه القوى الغربية. بعد أيام من سيطرة العراق على كركوك، قالت تقارير أن وزير النفط العراقي جبر اللعيبي التقى بالمدير التنفيذي لشركة بريتش بتروليوم على أمل الحصول على أعمال في حقول النفط. وربما تكون السياسة الخارجية البريطانية بشأن العراق مرتبطة بشكل وثيق بهذا النوع من المصالح.
لقد تمت التضحية بكردستان بسرعة من قبل واضعي السياسات الغربيين. وقد أتُخِذ هذا القرار بشكل متزامن لأن مصالح كل بلد منخرط بإقليم كردستان تكمن في إلحاق الهزيمة بداعش والتي شارفت على الانتهاء ولم يعد لها أية مصلحة في أفكار خيالية من قبيل “حق تقرير المصير“. وعندما يُظهر الناشطون الكرد صور الآليات العراقية وهي تحمل الرايات الشيعية الطائفية أو صور آية الله الخميني أو قوات الحرس الثوري الإيراينية، فإن الدبلوماسيين الغربيين يتجاهلونها لأن الاعتراف بما حصل في العراق سيُجبرهم على الاعتراف بأن إيران قد تفوقت عليهم ( وهو ما تفعله الولايات المتحدة أيضاً في لبنان بدرجة مختلفة). ويفضّلون بدلاً من ذلك القول أن الوجود الإيراني هو شيء “مزعوم” أو “مبالغ فيه” وبصوت يشبه حد الهمس أن اسرائيل والمحللون السياسيون المؤيدون لإسرائيل هم الذين يبالغون في دور إيران (صناع القرار الأمريكيون متشككون في دور “المحافظون الجدد” في دفع أمريكا نحو حروب مع إيران).وبالتالي فإن المهندس والعامري هم مجرد وطنيون عراقيون. غني عن القول أن المهندس لا يزال يُعتبر إرهابياً بحسب الولايات المتحدة التي تتعامل مع المؤسسات التي يعمل هو لصالحها. وقد أوضحت وزارة الخارجية الأمريكية ذلك مرة أخرى في السادس والعشرين من شهر تشرين الأول:
سؤال: لقد فتح أبو مهدي المهندس، رئيس كتائب حزب الله، الذي صنفته وزارة الخزانة الأمريكية إرهابياً في عام 2009 بسبب قيامه بتنفيذ الهجوم على القوات الأمريكية والعراقية، للتو مركزاً للتجنيد في كركوك. هل من تعليق على ذلك؟
الآنسة نورت [المتحدثة باسم وزارة الخارجية] نعم. لقد رأيت ذلك التقرير. أنت محق، إنه إرهابي.لا أستطيع أن أؤكد ذلك التقرير، ولكن أود أن أقول إن كان ذلك التقرير صحيحاً فإننا نأمل أن تخفق جهود التجنيد.
سؤال: هل يزعجكِ أنه جزء من قوات الحشد الشعبي وعملياً جزء من الحكومة العراقية المدعومة، من ناحية أخرى، من قبل إيران،وأنه ربما ينبغي على العراقيين الاقتصاص منه؟
الآنسة نورت: إنه إرهابي، وأكثر من ذلك–لن أذهب أبعد من ذلك، هل هذا جيد؟ من الواضح أنه إرهابي، حسناً؟
يأمل صناع القرار الغربيون أن اللغط والأسئلة حول ما حلّ بإقليم كردستان الذي كان مزدهراً بالمطارات ومركزاً للاقتصاد والاستقرار ويستضيف الكثير من الأجانب بل “عاصمة السياحة”من فترة ليست ببعيدة، سوف تتلاشى تدريجياً وبشكل نهائي. لقد طالبت بغداد بحظر القنوات الكردية مثل روداو وكردستان 24 والذي سيعتبره الغرب تطوراً إيجابياً. فكلما كانت الأخبار أقل من إقليم كردستان، كلما كان ذلك أفضل. وقد تم تبني ذات السياسة من قبل وسائل الإعلام الغربية وصناع القرار بعدم نشر تقارير عما يحصل للكرد في الدول المجاورة.
الانعكاسات على سوريا
إن الخطة التي نُفِذت في العراق أي باستعمال القوات الكردية لمحاربة داعش ومن ثم التخلي عنها بمجرد حصول الصدام بين بغداد والبيشمركة يجري مراقبتها عن كثب من قبل “حلفاء”الولايات المتحدة في قوات سورية الديمقراطية (قسد). لقد أكدّت الولايات المتحدة الأمريكية أن هدفها في سوريا هو فقط إلحاق الهزيمة بداعش. وتُظهر الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية السعودي (ثامر السبهان) مع بريت مغكورك، المبعوث الأمريكي الخاص في التحالف ضد داعش، أن الولايات المتحدة منخرطة في شيء أكثر من مجرد الحرب في سوريا. وهنا أيضاً تعود إلى الذاكرة عقدة لورنس العرب لدى بعض الغربيين الذين يريدون مساعدة سوريا ولكن فقط وفقاً لشروطهم هم. لذلك فإن أمريكا تستخدم النقود السعودية في سوريا، مثلما حاولت من قبل أن تفعل الشيء ذاته لجلب العبادي إلى معسكر السعودية. من حين لآخر يتم استغلال السياسة الأمريكية من قبل العربية السعودية أو إيران من أجل أهدافها الخاصة. ولإدراك كنه ذلك، فإن واضعي السياسات الأمريكان يعتقدون أنهم يفعلون ما هو جيد “لمصالحنا” من دون أن يسألوا من لهم مصالح أيضاً. فهم لا يسألون عن زيارة العبادي لطهران والتي أخبره المسؤولون الإيرانيون أن أمريكا هي التي خلقت داعش لأن العبادي “حليفنا” و” رجلنا في بغداد“.
في سوريا تأمل الولايات المتحدة أنها تستطيع أن تضع سياسة جديدة مع السعوديين على الأرض. لا تزال معالم تلك السياسة غير واضحة، ولكن على المدى الطويل تبقى فرص ،أنها ستخدم مصالح (قسد) و قوات حماية الشعب، التي حاربت جنباً إلى جنب الولايات المتحدة، ضئيلة. إذا كانت (قسد) ووحدات حماية الشعب ذكية بما فيه الكفاية، لأدركت أن ما حصل في شمالي العراق سيحصل لهم أيضاً. لا تدعوا العاطفة تتغلب عليكم ولا تسألوا كيف يمكن للولايات المتحدة أن تتخلى بهكذا سرعة عن الناس الذين قاتلوا وماتوا ضد العدو المشترك. هذه هي سياسة الولايات المتحدة: ليس لأمريكا من أصدقاء؛ لديها مصالح.
إنها المصالح في شمالي سوريا وليس لأنها مكان تسوده العلمانية والديمقراطية. لا تقولوا للأمريكان “ولكن بيان استقلالكم يقول” و “جون ف كندي قال” و“فرانكلين ديلانو روزفلت قال”تلك القيم والمبادئ لم تعد موجودة في أمريكا، وإن وُجِدت، فإنها في أخفض درجاتها في دوائر صنع القرار. وحالما تدرك الجماعات والحلفاء المحتملين للولايات المتحدة بأن الحديث عن المبادئ أو القول “إننا حاربنا معاً” والحديث عن “الديمقراطية ” و“العلمانية” و “حقوق الإنسان” ليست الطريقة لكسب قلوب الأمريكيين فإنها ستكون في حال أفضل. إن الولايات المتحدة لديها مبادئ أصابها الإرهاق من عقود من الحرب ومن المواجهات والنفاق. إن لديها نظرة ساخرة للعالم. فهي على العموم تنظر إلى الأنظمة الديكتاتورية والملكية والدول التي تقمع الحرية الدينية على أنها دول مستقرة ويمكن الاعتماد عليها. أما الأنظمة الديمقراطية فهي فوضوية. والربيع العربي كان فوضوياً. في الكتاب الذي صدر 2004 وناقش أن الولايات المتحدة تنظر إلى العالم على أنها صراع بين دول فوضوية وأخرى جيدة الأداء وقامت بوضع الديمقراطيات الناشئة في خانة الدول الفوضوية. الحلفاء النموذجيون هي التي تكون على شاكلة دول الخليج. إن الديمقراطية مبدأ يعود إلى القرن العشرين.
إن أفضل ما تستطيع أن تقوم به الولايات المتحدة اليوم هو محاربة الإرهاب وهو ما تقوم به فعلياً من خلال العديد من القواعد العسكرية وحشود من القوات الخاصة وطائرات بلا طيار. إن أي شخص يفكر بنوع من الشراكة مع الولايات المتحدة على هذا المستوى فإنه يُترجم إلى نوع من الشراكة الاجتماعية بعد سياسة طويلة الأمد مرتكزة على المبادئ فهو مخطئ. لقد تشاركت حكومة إقليم كردستان مع الولايات المتحدة في قتال داعش. لقد ذهبت داعش وذهبت معها حاجة الولايات المتحدة في الإبقاء على دعمها لحكومة إقليم كردستان.[1]