#علي شمدين#
بين الصراع البعثي- الناصري
لقد أدرك مام جلال خلال تواجده في الشام، وتواصله مع الوسط العربي عموماً ورموزه السياسية خصوصاً، حجم التنافس السياسي الذي بدأ يتبلور بين جمال عبد الناصر وحزب البعث، واستطاع مام جلال أن يتعامل مبكراً مع هذه المعادلة، وحسم موقفه باتجاه التواصل مع عبد الناصر الذي بدأ يشكل رمزاً قوميا من دون منافس في العالم العربي، وخاصة بعد تأميمه قناة السويس عام (1956)، والإعلان عن تشكيل الجمهورية العربية المتحدة (1958)، وقراره بحل الأحزاب في سوريا (12-03--1958)، والذي لم يستثني حزب البعث وإنما شمله قرار الحل أيضاً، وقد تحول هذا التنافس بين الجانبين شيئاً فشيئاً إلى صراع ميداني حاد، وخاصة بعد نجاح الحركتين الإنقلابيتين اللتين قادهما البعث في كل من العراق في (08-02-1963)، وفي سوريا (08-03-1963)، والبدء بالحوارات في القاهرة بتاريخ (07-04-1963)، من أجل إنجاز الوحدة الثلاثية (المصرية، والعراقية والسورية)، الأمر الذي وضع عبد الناصر بين فكي كماشة القيادتين القطريتين لحزب البعث في سوريا والعراق، ولهذا كانت الورقة الكردية من أهم الأوراق التي تم التفاعل معها في هذا الصراع وأنجعها.
فجاءت لقاءات مام جلال المتكررة مع جمال عبد الناصر في هذا الاتجاه، إتجاه طرح القضية الكردية في كردستان العراق في إطارها الصحيح، واستطاع مام جلال بذكائه الحاد وبمنطقه السياسي الموضوعي وأسلوبه الديبلوماسي المرن، أن يكتسب ثقة الرئيس عبدالناصر، ويضعه في الصورة الحقيقية لهذه القضية، ويشجعه على الوقوف إلى جانب عدالتها وحلها حلاً سلمياً، وسرعان ما تفهم عبد الناصر أهمية القضية الكردية كورقة ضغط فعالة في ذاك الصراع، وقد تأثر بالصورة التي قدمها مام جلال خلال لقاءاتهما المتكررة، وفي هذا المجال يقول جمال آتاسي في المقدمة التي كتبها لكتاب منذر موصللي (عرب وأكراد)، مايلي: (وقد كان عبد الناصر، وكما علمت، مرتاحاً لمثل هذا الطرح لما فيه من تطلعات استراتيجية ومنظور مستقبلي يتفق مع تطلعاته ومنظوره، وقد ظل الطالباني وأخوانه بعد ذلك على علاقات طيبة مع مصر عبد الناصر.)، وقد انسحب موقف الرئيس عبد الناصر الإيجابي تجاه القضية الكردية في كردستان العراق، ليشمل أيضاً دائرة مناصريه ومؤيدية والمتأثرين بشخصيته الكاريزمية، بعد أن كانت هذه القضية حتى ذاك الوقت منطقة محظورة محفوفة بالمخاطر وتعد بمثابة إسرائيل الثانية.
لقد كان مام جلال ينطلق في توجهه هذا من قناعته الراسخة التي ذكرها في كتاب (لقاء العمر)، عندما قال: (أنني كنت على قناعة ولا أزال، بأن رفع مستوى القضیة الكردیة من مجرد قضیة داخلیة إلى المستوى العربي ثم إلى المستوى العالمي سیخدم قضیتنا القومیة ویدفعھا خطوات مھمة إلى الأمام..)، وهذا الذي دفعه إلى عدم تضيع الفرصة التي تهيأت له للذهاب برفقة فؤاد عارف إلى القاهرة، ضمن الوفد الرسمي للحكومة العراقية للمشاركة في احتفالات الذكرى السنوية لتأسيس الجمهورية العربية المتحدة، وتقديم التهنئة بهذه المناسبة لرئيسها جمال عبدالناصر بتاريخ (22-02-1963)، وبالتالي إجراء اللقاء التاريخي الأول مع عبد الناصر وجذب انتباهه إلى أدائه المميز في طرح قضيته القومية بشكل مختصر ومفيد ضمن إطار التآخي الكردي العربي، فنالت قضيته تأييد جمال عبد الناصر الذي قال شخصياً عن ذاك اللقاء الذي جمعهما في رسالة كتبها بخط يده إلي المشير عبد الحكيم عامر في اليمن، وقد نشر محمد حسنين هيكل صورة عن هذه الرسالة في كتابه (سنوات الغليان)، ويتحدث الرئيس عبد الناصر فيها عن لقائه مع ممثل البرزاني (مام جلال)، والوزير (فؤاد عارف)، بشكل منفصل عن الوفد العراقي، ويقول مايلي حرفياً: (أما الأكراد وهم وزير وممثل للبرزاني، فقد طلبوا أن يقابلوني على انفراد منفصلين عن الآخرين وقد وافق الوفد العراقي على ذلك، وقالوا لي في المقابلة، أنهم لا يثقون في أي وعود من الحكومة العراقية إلا إذا ضمنت أنا شخصياً تطبيق هذه الوعود، وهم يطالبون بالحكم الذاتي، وقد أوقفوا القتال بعد قيام الثورة، وكان لهم اتصال مع رجال الثورة قبل قيامها، وأخذوا وعوداً والملاحظ أن الحكومة تتهرب.. ص933).
ومما عزز من دور مام جلال أكثر في تلك اللقاءات والحوارات، فضلاً عن مهاراته الشخصية وموقعه الحزبي، هو حصوله على ثقة البارزاني وثقة المؤتمر الكردي الموسع الذي انعقد في بلدة (كوية)، خلال فترة (18-22-03-1963)، والذي تم فيه تخويل مام جلال لتمثيل الشعب الكردي في الحوار مع بغداد، وتكليفه بقيادة الوفد الكردي في حوارات الوحدة الثلاثية التي بدأت في القاهرة، وكان قد حضر مؤتمر كوية ما يزيد عن ألفي عضو مثلوا جميع أنحاء كوردستان العراق، بما في ذلك معظم القبائل والاتحادات ومختلف المنظمات الشعبية الكردية والطوائف الدينية، وفي هذا المجال يقول منذر موصللي في كتابه (البعث والأكراد..)، مايلي: (لقد أدار جلسات هذا المؤتمر نائب الرئيس، جلال الطالباني الذي قدم تقريراً مسهباً إلى المؤتمر حول الوضع السياسي والعسكري، وقد جرت فيه مناقشة عامة حول هذا الوضع، واختيرت لجنة مؤلفة من خمسة وثلاثين مندوباً لوضع المقترحات المقررة ونالت هذه اللجنة الموافقة من المؤتمر، وتقرر في المؤتمر أن يوجه ملا مصطفى برقية شكر للحكومة المركزية في بغداد لاعترافها بالمطالب الكردية، وبعد ذلك تم تشكيل وفد من أربعة عشر عضواً برئاسة الطالباني للتفاوض مع الحكومة..).
وهكذا صار (مام جلال)، بعد مؤتمر كوية يمثل رسمياً الموقف الكردي الموحد الذي أدى دوره بمهارة فائقة في معادلة الصراع الدائر بين الناصريين والبعثيين، وذلك خلال مفاوضاته المصيرية مع الحكومة العراقية، وكذلك خلال مشاركته الفاعلة في حوارات الوحدة الثلاثية في القاهرة التي بدأت بتاريخ (14-04-1963)، وهذا الدور هو الذي دفع وزير الخارجية العراقي آنذاك، طالب شبيب لأن يقول في كتاب (مراجعات في ذاكرة طالب شبيب)، مؤكداً: (إن جلال الطالباني نجح في مهمته وحاز على رضانا ورضى الملا مصطفى البارزاني معاً..).[1]