حرية الكورد في وحدتهم
محفوظ رشيد
موطن الكورد “كوردستان” مساحة محددة من خارطة الشرق الأوسط متصلة جغرافياً ومتكاملة اقتصادياً، وهذا عامل يضاف إلى عوامل بناء القومية (التوحد والاشتراك في التاريخ واللغة والثقافة، العادات والتقاليد، الارادة والمصير، والسمات..)، لتكوين الأمة الكوردية، التي ارتبطت مع الأرض بأنظمة سياسية مختلفة فشكلت كيانات وبنت حضارات منذ غابر الأزمان وعبرمختلف العصور كامبراطورية ميديا ودولة ميتان وامارة بوطان (على سبيل الذكر لا الحصر)، وأصبحت دروعاً للشرق بملله ونحله وجميع عقائده ومعابده، عصية بجبالها الأشماء وحصينة بفرسانها الأشداء، تصدت للهجمات البربرية وقاومت الغزوات العاتية الآتية من الشرق والغرب كالمغول والافرنجة.
كانت وحدة القيادة والصفوف سر الصمود والتصدي ولغز الانتصار والتفوق، لذلك سعى الغزاة والمحتلون إلى تطبيق قاعدة فرق تسد الاستعمارية في كوردستان، ونجحت في تقسيم الأرض وتمزيق الشعب، وكانت التجزئة الأولى بين الامبراطوريتين العثمانية والصفوية بعد معركة چالديران 1514م، والثانية بين أربع دول- تشكلت بعضها حديثاً- بموجب اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية 1916م، ومنذ تلك الأحداث المؤلمة والمقيتة والكورد يعانون القهر والصهر بشتى الوسائل والأساليب، لكنهم بالرغم من ذلك فقد حافظوا على خصائصهم ومقوماتهم، وأصروا على البقاء، واستمروا في المقاومة والنضال من أجل تحريرالبلاد واستعادة الحقوق واسترداد الأمجاد، وإنهاء الاضطهاد والاستبداد.
لقد كرس أعداء الكورد التشرذم والشقاق في صفوف حركتهم التحررية وفق معايير أيديولوجية ودينية ومذهبية ومناطقية وعشائرية..، وبثت فيها العداوات والصراعات والخلافات التي كانت أسباباً رئيسية في إطفاء الثورات وإخماد الانتفاضات في كافة أجزاء كوردستان (كثورات سمكو آغا و عبدالله النهري ومحمود الحفيد وسعيد پيران وسيد رضا وإحسان باشا.. وغيرهم) ، لذلك كان الشعار الأساسي والأسمى الذي كان يرفعه عقلاء الكورد وزعماؤهم في جميع مراحل الكفاح هو الوحدة، لأنه السلاح الأمضى والأجدى في معارك التحرير والاستقلال.
الوحدة لا تعني في كل الأحوال الاندماج والالتحام، إنما تتم بالاعتراف بالآخرين، واحترام مواقفهم وآرائهم والتوافق معهم في ايجاد القاسم المشترك لأفكار وأجندات جميع الأطراف على أساس خدمة المصالح العامة والقضايا المصيرية، وهنا يتطلب الالتجاء إلى الديموقراطية والالتزام بمبادئها وتطبيق قواعدها نظرياً وعملياً لبناء أطر تجميعية للأطراف النشطة والمكونات الفاعلة من الحركة الكوردية في كل جزء على حده(عقد مؤتمر وطني كوردي) وللأجزاء معاً(عقد مؤتمر قومي كوردستاني)، لتصبح مراكزاً تتكون من الخبرات والكفاءات ترسم السياسات الاستراتيجية والتكتيكية وتتخذ القرارات المناسبة زماناً ومكاناً لمواجهة التحديات والمخاطر المحدقة، وتتعامل مع الأحداث الطارئة والأوضاع المستجدة باهتمام ووعي وحنكة.
إن المرحلة التاريخية الراهنة حرجة بتطوراتها وحساسة بتحولاتها، ومفصلية بمساراتها ومخرجاتها، وهي بذات الوقت فرصة ذهبية للكورد لاثبات الحضور والاعتبار وتحسين الأداء لنيل الحقوق القومية والوطنية والانسانية دون نقص أو تشويه، وتحقيق الطموحات والتطلعات في العيش بحرية وأمن وسلام، فالظروف الموضوعية مواتية والأجواء موائمة إقليمياً ودولياً، وما على الكورد سوى توفير العامل الذاتي وتقويته، وذلك بتوحيد الخطاب والصف داخلاً وخارجاً، من خلال تشكيل مرجعية عليا عامة تتبوأ مهام الدراسة والتخطيط والقيادة بمسؤولية وجدية وإخلاص.
وكي لا يعيد التاريخ نفسه مأساوياً وكارثياً كالمرات السابقة كما حدث عند تطبيق اتفاقية لوزان 1923 في أعقاب الحرب العالمية الأولى من قبل الحلفاء، حيث حرم الكورد بموجبها من حق انشاء كيان قومي خاص بهم أسوة بغيرهم، وانهيار جمهورية مهاباد 1946 الفتية ضحية المصالح المشتركة للمنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وانتكاسة ثورة البارزاني الخالد بسبب اتفاقية الغدروالخيانة في الجزائر1975، يجب على الكورد قراءة الظروف والأحداث الراهنة بشكل دقيق وصحيح، وتأويلها وتحليلها، والاستفادة من الدروس والعبرالمستخلصة من تجاربهم المؤلمة والمريرة، واتخاذ المواقف السليمة بكل حسم وحزم، ودحض المقولة الشائعة “ما يكسبه الكورد في ساحات القتال يخسرونه على طاولة المفاوضات”.
كما يجب ألّا تخضع مواقف مسؤولي الحركة الكوردية وممثليها للمزاجيات الشخصية والأنانيات الحزبية والخلافات البينية، وألا ترتبط بالمحافل والمناسبات والمراسيم، وألا ترهن للاتفاقات والتحالفات والائتلافات أياً كان نوعها ومصدرها، وألا ترضخ للصفقات والمساومات والمزايدات مهما كان شكلها، وألا تقحم في الصراعات الدينية والطائفية والعرقية القائمة بفداحة وفضاحة، بل تكون محدداتها ومعاييرها (فقط)خصائص القضية ومضامينها ومآلاتها المفروضة والمشروعة، وحواملها الوسائل المباحة والإمكانيات المتاحة، ضمن ضوابط دولية وقوانين أممية وقواعد إنسانية وأجندات براغماتية.
على أرض الواقع الراهن فإن الكورد يحاربون الارهاب (المتمثل بداعش وأخواتها والنصرة ومثيلاتها المدعومة من قبل قوى الظلام والاستبداد، الذي يهدد الأمن والسلم والاستقرار في العالم والمنطقة)، على جبهة تزيد طولها عن 1500كم تمتد من جلولاء جنوباً إلى عفرين شمالاً نيابة ودفاعاً عن المجتمع الدولي عامة، ويقدمون التضحيات الجسام يومياً، ومن أجل ذلك يتلقون الدعم والاسناد من العالم الحر عسكرياً ولوجستياً، وبالفعل يحققون انتصارات ملحوظة ميدانياً، ويتأملون من المجتمع الدولي المتقدم الاستمرار في دعمهم ومساندتهم، وعدم خداعهم وعدم التخلي عنهم أو المساومة عليهم ضمن صفقات أو إتفاقات كما حصلت في السابق مراراً وتكراراً، كي يتمكنوا من تحرير مناطقهم وإدارتها ذاتياً ويعيشوا فيها بسلام وأمان، ويتطلعوا نحو مستقبل يعمه الاستقلال والتقدم والازدهار، كما تقرها الشرائع السماوية والبشرية، وتضمنها العهود والمواثيق الدولية.[1]