د. عماد عبد السلام رؤوف
باحث ومؤرخ
تقع نينوى، آخر عواصم الامبراطورية الآشورية، وأحد أبرز حواضر العالم القديم، في الجانب الشرقي من مدينة #الموصل# الحالية، وتقبع آثارها تحت ركام الأتربة التي تجمعت عليها لتخفي معظمها عن الأنظار، خلال أكثر من أربعة وعشرين قرناً من الزمن، وهنا، على هذا التل المرتفع، الذي يقع في جنوبي نينوى،
شيد الملك الآشوري أدد نيراري الثالث بن شمش أدد الخامس (الذي حكم من سنة 805 إلى 782 قبل الميلاد) له قصراً كبيراً، يتناسب مع عظمة ملكه وسلطانه، وشاء القدر أن يجد الملك الآشوري أسر حدون (حكم من سنة 680 إلى سنة 669 قبل الميلاد) هذا القصر وقد تداعى بنيانه، فأمر باتخاذه مخزناً للأسلحة، ومربطاً للخيول، ولكنه إضافة إلى ذلك، أنشأ إلى جانبه قصراً فخماً استخدم في بنائه ثلاثة وعشرين ملكاً من ملوك الحثيين الذين كان قد أسرهم في حروبه.
وبعد سقوط نينوى سنة 612 قبل الميلاد، دمرت المدينة مع ما كان فيها من القصور والمعابد، فكان لقصر أسر حدون نصيبه من التدمير، ولكن بعض أهل نينوى وجدوا أن في موقعه الفريد ما يمكن أن يكون مركزاً لاستيطان جديد، فكان أن عمروا لهم مساكن ومعابد فوق هذا التل، وأحاطوه بسور، فصار يعرف هذا الموقع بالحصن الشرقي. ويذكر المؤرخون المسلمون أنه كان على السفح الغربي من هذا التل معبد للأصنام، وإن أهل نينوى بعد أن تابوا إلى الله تعالى كسروا أصنامهم، وهدموا معبدهم، تقرباً إلى الله تعالى.
وفي فترة الاحتلال الفارسي، أنشأ الفرس الزرادشتون، من عبدة النار، معبداً للنارعلى هذا التل، وهو الذي سمي بتل الرماد.
وبعد انتشار المسيحية في هذه البلاد، حول المسيحيون هذا المعبد المجوسي إلى دير سمي بدير النبي يونان بن أمتاي، وهو المعروف عند المسلمين بيونس بن متى، ويعرف أيضاً بذي النون، والنون هو الحوت، إشارة إلى قصته التي تحدث بها القرآن الكريم، حين التقمه الحوت، فنجاه الله تعالى من الموت إثر توبته إلى الله.
وبعد انتشار الإسلام، صار لتل التوبة هذا حُرمة لدى المسلمين، وقد أشار الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم إلى نينوى بأنها قرية أخيه الرجل الصالح يونس بن متى، وصار للمسلمين مقبرة على هذا التل، يدفنون موتاهم فيها تبركاً بدفينها الكريم.
وفي وقت مبكر من فتح المسلمين الحصن الشرقي هذا، أنشأوا لهم مسجداً على أنقاض المعبد المجوسي، إلى جوار دير يونان بن أمتاي، وقد تحول هذا المسجد ليكون مجمعاً للزهاد والصالحين، وعرف بمسجد التوبة، وصار المسلمون يقصدونه للصلاة فيه والتبرك في كل ليلة.
وفي أواخر القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد) صار هذا المسجد يعرف بمسجد يونس، وقد عمرته، أو جددته، السيدة جميلة ابنة ناصر الدولة الحمداني، وأوقفت عليه أوقافاً كثيرة، للإنفاق عليه.
وتوسع هذا المسجد على مر السنين حتى صار يضم دوراً وسقايات ومطاهر، وصار به محل مقدس، وهو المحل الذي وقف فيه النبي يونس. وقد أنشأ فيه أمير الموصل، مودود بن الطغتكين مشهداً في أوائل القرن السادس للهجرة. وخير من وصفه، الرحالة المغربي ابن جبير، حين وصل إليه في أثناء تطوافه سنة 580ﮪ/1184م، فقال(ومما خص به هذه البلدة إلى الشرق منها إذا عبرت دجلة نحو الميل، تل توبة، وهو التل الذي وقف به يونس عليه السلام بقومه ودعا ودعوا حتى كشف الله عنهم العذاب، وبمقربة منه على قدر ميل أيضاً العين المباركة المنسوبة إليه، ويقال أنه أمر قومه بالتطهر فيها وإظهار التوبة، ثم صعدوا على التل داعين، وفي هذا التل بناء عظيم، وهو رباط، يشمل على بيوت كثيرة ومقاصير ومطاهر وسقايات يضم الجميع باب واحد، وفي وسط البناء بيت ينسدل عليه ستر، وينغلق دونه باب كبير مرصع كله، يقال أنه كان الموضع الذي وقف فيه يونس صلى الله عليه وسلم. ومحراب هذا البيت يقال أنه كان بيته الذي كان يتعبد فيه. ويطيف بهذا البيت شمع كأنه جذوع النخل عظماً، فيخرج الناس إلى هذا الرباط كل ليلة جمعة ويتعبدون فيه..).
وفي سنة 767ﮪ/1365م جدد هذا المشهد جلال الدين إبراهيم الختني، أمير الموصل عهد ذاك، وأقام له محراباً حفظته الأيام حتى الآن، وجعله جامعاً تقام فيه الجمع، وسماه جامع النبي يونس، وأوقف عليه أوقافاً وعين له ناظراً. والمهم أن الختني هذا اكتشف، في أثناء بنائه الجامع، ضريح النبي يونس، فأقام عليه قبة، ووضع عليه صندوقاً. وثمة رواية ترددها بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن تيمورلنك هو أول من أظهر القبر وبنى عليه قبة، وذلك في أثناء احتلاله الموصل سنة 796ﮪ/1393م وسنة 804ﮪ/1401م، إلاّ أن هذه الرواية غير دقيقة، لأننا نعلم، من وقفية جلال الدين الختني، أنه هو الذي أظهر هذا القبر، وعمر الجامع، ووقف عليه الأوقاف، قبل مجيء تيمور لنك إلى الموصل بنحو عقدين من الزمن.
لقد مر بجامع النبي يونس رحالون وسياح عديدون، ووصفوا معالم الجامع، وما يتصل به من مبان، ولاحظ الرحالة الدانمركي نيبور الذي زار المكان سنة 1766م أن زيارة الضريح كانت مباحة ليست للمسلمين فحسب، وإنما لأصحاب الديانات الأخرى، وأن لهم مطلق الحرية في زيارته قدر ما يريدون ومتى يرغبون.
يتألف الجامع في الوقت الحاضر من بنائين يفصل بينهما طريق عرضه ستة أمتار، وكان يصل بين هذا القسم، والقسم الثاني نفق تحت الأرض، أزيلت معالمه في سنة 1952 عند توسيع الشارع الذي يفصل بين هذين القسمين.
فأما القسم الأول، فهو يرقى إلى القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد) وبذا فإنه يمثل أول مراحل هذا الجامع التاريخية، وهو محل المطاهر والسقايات التي كانت في المشهد. وكانت فيه ناعورة لرفع المياه إلى الجامع، وهذا القسم ، على الرغم من قدمه، خال من المعالم التاريخية. أما القسم الثاني من الجامع، ففيه المصلى والحضرة، وهو أكبر من القسم ألول.
يتألف هذا القسم من بناء مربع أمامها أروقة، يقابلها في الجهة الجنوبية حجرات أمامها أروقة أيضاً، وهي معدة للزوار التي يقيمون في الجامع. ويتصل بهذا الفناء فناء آخر في الجهة الشمالية منه، بينهما باب، وكان يسمى فناء المطبخ، نظراً لإتخاذه، بحسب وقفية الأمير جلال الدين الختني، مكاناً لإعداد الطعام للفقراء، ويوزع عليهم بعد صلاة العصر من كل يوم.
ويتميز مصلى جامع النبي يونس بأنه يتألف من أربعة أقسام/ في ثلاثة منها محاريب يختلف كل منها عن المحرابين الآخرين في الحجم والريازة، ويعد القسم الوسطي من المصلى أقدم أقسامه، وهو مربع الشكل يحيط به ما يشبه الأروقة والممرات، ويرجح أن يكون مبنياً فوق بناء قديم تحته، فأقيمت جدرانه على أسس ذلك البناء، ولربما كان هذا القسم مشيداً على بيت النار من مشهد الرماد. وقد وسع هذا المصلى في القرن العاشر للهجرة (السادس عشر للميلاد) على يد أحد ولاة الموصل آنذاك، وهو حسين باشا بن جان بولاد، بأن أضاف إليه رواقاً كان على جهته الغربية. وثمة جناح، أضافه عبد الله باش عالم، أحد سراة الموصل في القرن الثالث عشر للهجرة (التاسع عشر للميلاد) سنة 1271ﮪ/1855م ليكون فسحة تمكن الزائرين من زيارة قبر النبي يونس دون أن يضطرون إلى تخطي المصلين. وهكذا فإن كل جزء من هذا المبنى يعود إلى عصر بذاته، فهو كالمتحف الذي يضم قاعات عدة، يختص كل منها بعصر من العصور التاريخية المتعاقبة.
وكان أمير الموصل جلال الدين الختني قد أقام في هذا الجامع، عند تعميره إياه سنة 767ﮪ/1366م محراباً يعد من أكثر المحاريب العراقية روعة ودقة، وخامة هذا المحراب من المرمر الأزرق، وفي صدره زخارف جميلة بارزة في الرخام، تتألف من قنديل يتدلى من أعلى المحراب إلى وسطه، وتتفرع على جانبيه زخارف هندسية متناظرة، فيها تفاصيل نباتية، وعلى جانبي هذه الزخارف اسطوانتان من الرخام/ وفي أعلى كل منهما تاج على شكل قيثارة فوق كل من القيثارتين مربع كتب عليه لفظ الجلالة. وفي اسفل المحراب مكتوب (صناعة أبي محمد بن علي بن الطبيب رحمه الله تعالى محمد بن سمية الحلاني).
هذه هي الحضرة، وهي الحجرة التي فيها قبر النبي يونس عليه السلام، ويلاحظ الزائر أنها تنخفض عن مستوى المصلى بأكثر من مترين، ينزل إليها بعدة درجات، وفي الزاوية الجنوبية من الحضرة محراب من الرخام يشبه المحراب الذي وضعه جلال الدين الختني، ولنا أن نلاحظ كثرة المقرنسات التي تحلي هذه الحجرة، والتي تنتهي في أعلى القبة بزخارف جبسية متناظرة.
وثمة محراب في الحضرة غني جداً بالكتابات القرآنية الكريمة، وهو من المحاريب الجميلة في الموصل، يعلوه من الداخل قطع من المرمر منشورية الشكل تشبه المقرنسات، وهي مزخرفة بزخارف هندسية وفي أعلاها ما يشبه القوقعة. وفي المحراب قناديل نافرة في الرخام.
وتقع المنارة في الجهة الشرقية من الفناء الأول، وتقابل الباب الغربي، وهي مبنية من حجر الحلان الأسمر، شيدت سنة 1341ﮪ/1923م كما هو مثبت في قاعدتها، وتعد ثالث منارة بنيت في الموصل على هذا الشكل، وهذه المنارة مبنية على أسس منارة قبلها مبنية بالآجر الأزرق، بناها عبد الله باش عالم سنة 1271ﮪ/1854م، عندما كان متولياً على أوقاف النبي يونس. وكانت ثمة منارة أقدم عهداً منها، ولا يعلم على وجه التحديد تاريخ إنشاؤها، ولكنها كانت موجودة في مطلع القرن الثالث عشر للهجرة (التاسع عشر للميلاد)، وقد سقطت في بعض السنين فبقي الجامع بلا منارة حتى أعاد بناءها باش عالم على النحو الذي ذكرنا.
وتحت المنارة بناء قديم جدرانه من الحجارة والجص، واسس الجدران من حجارة كبيرة قديمة، ويعلو الجدران عقد مستديرة مسطحة مبنية من الجص والآجر، وكان على بعض القطع كتابات مسمارية تدل على قدم المكان.
وكان جامع النبي يونس يضم مدرسة تعرف بالمدرسة اليونسية، وردت أول إشارة إليها في ترجمة مراد بن عثمان العمري المتوفى في سنة 1092ﮪ/1681م، بوصفه المدرس فيها، ثم تعاقب على التدريس فيها عدد من كبار علماء الموصل، منهم عبد الباقي بن مراد العمري المتوفى سنة 1109ﮪ/1697م، وعلي بن مراد العمري المتوفى سنة 1147ﮪ/1734، ومصطفى بن علي الغلامي المتوفى سنة 1140ﮪ/1728م، وغيرهم، حتى توقفت التدريسات فيها في منتصف القرن العشرين تقريباً. كما كان الجامع يضم داراً للقرآن الكريم، يتخذه شيخ قراء الموصل معهداً لتدريس القراءات وعلوم القرآن الكريم الأخرى. وكانت المدرسة اليونسية تحتل بعض حجرات القسم الثاني من جامع النبي يونس.
كان جامع النبي يونس محط احترام الموصليين في خلال القرون الماضية، فإليه يتوافدون للصلاة، ولزيارة صاحبه عليه السلام، وعنده ينذرون نذورهم وفيه يوفون بها، كما أنهم كانوا كلما قل المطر، أو عدم، يخرجون إليه للاستسقاء، فيدعون عنده الله تعالى كي يسقيهم الغيث، فيغاثون بإذنه.
ونظراً لأن التل الذي يقف عليه الجامع يعد من التلال الثرية، فقد تهافت المنقبون الأجانب منذ القرن التاسع عشر على التنقيب فيه خلسة، وبعيداً عن أنظار السلطات الرسمية المسؤولة، وقد كشفوا، نتيجة تلك التنقيبات، عن آثار مهمة ترقى إلى العصر الآشوري، نقلت إلى بعض المتاحف العالمية. وفي عقد الثمانينات من القرن العشرين، جرى تجديد شامل للجامع، فأحكم ما كان ضعيفاً من بنيانه، وأعيد بناء أجزاء منه، وكسي بالرخام، وحلي بزخارف جميلة، وبخطوط رائعة، وأثث تأثيثاً عصرياً، شمل جميع أنواع الخدمات فيه، من إضاءه حديثة، وشبكات مياه كافية، ومنظومة تدفئة وتبريد، خدمة للمصلين والزوار الذين يتوافدون إليه على الدوام.
يحتل جامع النبي يونس موقعاً مهماً في الموصل، فهو لارتفاع التل الذي يقف عليه، يشرف على مدينة الموصل كلها، ويضفي منظره جلالة ومهابة لا يماثلها إلاّ القليل من المواقع الدينية التي تجمع بين المنزلة الروحية والقيمة الأثرية معاً.[1]