#صباح كنجي#
اوراق#توما توماس# .. هو عنوان المذكرات التي كتبها القائد الاسطوري توما صادق توماس ابو جوزيف.. هي ليست مجرد اوراق عادية تكتسب اهمية لأن من كتبها كان كما جاء في التقديم والتعريف على الخلاف الأخير.. ( شاهد عيان عاش الاحداث في فترة عصيبة من تاريخ العراق، وكرس عقله ووجدانه، بل حياته برمتها دفاعاً عن حقوق الفقراء) ..
وهذا اجحاف بحقه فهو لم يكن مجرد شاهد عيان على الاحداث في تلك الحقبة.. بل صانعاً لها من خلال دوره المؤثر فيها ليس كشاهد بل كمخطط ومبرمج للكثير من صفحاتها ومتصدي صلب وساتر منيع لا يمكن اختراقه وتجاوزه في مواجهات محتدمة منعت الكثير من الآراء والمفاهيم الخاطئة من المرور ولم تمنحها فرصة البقاء والتواصل على حساب دماء الكادحين ..
من هذه الزاوية بالذات تكتسب هذه اوراق اهمية استثنائية اكبر لكونها تتناول احداثاً ومواقف دون الحاجة لوسيط او ناقل للوقائع .. فكاتبها في الكثير من الحالات مخططها ومنفذها وفي الحالات الأقل شيئاً مطلع على خفاياها وخباياها بحكم موقعه القيادي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وقائداً يضرب به المثل في صفوف الانصار منذ عام 1963..
وهو بالإضافة الى هذا خبير في شؤون الحركة الكردية من المقربين للبارزاني.. ومطلع منذ طفولته على اوضاع ما يعرف الآن بمكونات العراق الاثنية من كلدان واشوريين وسريان وشبك وايزيديين وتركمان وأرمن انحدر من وسطهم الكلداني الآشوري .. عاصر مذابح سميل الدامية.. شهد نزوح الناجين من براثن الموت.. الفارين منهم لمناطق سهل نينوى واحتضان اهالي مدينته القوش للعوائل الآثورية التي هجرت قراها ولجأت اليها.. وصور المأساة العالقة في ذهنه.. حيث افترشت عشرين عائلة اسطح دارهم .. ولم تكن الوحيدة في بلدته تحتضن المنكوبين .. قبل أن ينخرط في صفوف الجيش الليفي كضابط عام 1942 لفترة قصيرة سرعان ما اكتشف خطأ تواجده فيه وتحول الى اللواء الخاص في الجيش العراقي وقرر بوعي التخلي عن الزي العسكري بعد شعوره بفداحة انتسابه لجيش ليفي كما يقول بشجاعة في مذكراته..
وتوجه الى كركوك ليعمل فترة في شركة النفط ويتطلع عن قرب على المزيد من تفاصيل احداث المجزرة الثانية في حياته هي مجزرة كاورباغي عام 1946 ..
التي عمقت من ادراكه للواقع الاجتماعي ليبدأ نشاطه السياسي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي مطلع عام 1950 ويطلع على الاوضاع المعقدة ويكتشف جوهر الصراعات الاجتماعية وابعادها.. كل ذلك وغيرها مما سنوضحه يمنح هذه الاوراق اهمية تفرض نفسها بحكم ما تحمله من حقائق ومعلومات تجعل متصفحها يفهم الكثير من خفايا وخبايا المراحل التي استعصى عليه ادراك حقائقها أو تفسير احداثها.. وتمنحه مفاتيحاً لفك طلاسم وتشابكات تعقيدات تلك الصراعات بتفاصيل واسماء ومدلولات تبرهن ان ما ورد فيها او ما كشفته اسطرها وحروفها هو الحقيقة الأقرب للاستيعاب والتصديق والفهم .. ناهيك عن انها كتبت بأسلوب لا لبس فيه عكست جانباً من شخصية كاتبها الرافضة لثوب المجاملة.. فهي تسرد الحقائق الموجعة المحملة بالآلام في مدينته القوش كما يسرد فيها احداث كركوك والموصل والبصرة وبارزان وبغداد او أي كهف من الكهوف التي التجأ اليها الثوار في بْسْقينْ و القيصرية ومراني و ناوزنك و بيرموس والدير وغيرها من الاماكن والمحطات التي تحولت الى مقرات للثوار..
وهو يدون صفحات المواجهة والاحتدام بين بنادق الثوار في مواجهة جبروت الانظمة الدكتاتورية المتعاقبة والمرتزقة الموالين لها.. كما يدون في ذات الوقت ويثبت ما يدور خلف الكواليس من آراء ومناقشات في صفوف الاحزاب وصراعاتها وميولها للمساومات على حساب الجماهير ..
كل ذلك بلغة لا تحتاج للف والدوران بقدر ما هي بحاجة للشفافية تنساب لتروي لنا عبر اكثر من 400 صفحة مدعومة بالصور الكثير .. الكثير عن العراق وابنائه وما حل بهم من تاريخ .. هو تاريخ للألم والعذابات والمحن .. هو تاريخ للكفاح والنضال والحلم بعالم افضل .. وتاريخ اخطاء وسوء تقدير نابع من قلة يقظة او ضعف ادراك.. بعضها صغيرة يمكن تبريرها واستيعابها وبعضها اخطاء كبيرة أدت لزهق حياة الكثير من الابرياء .. ساهمت بهذا القدر او ذاك من خلق حالة البؤس في عراق اليوم وسهلت على المستبدين بقاؤهم في السلطة ..
يكشف توما توماس ملابساتها وخفاياها ويدين من انساق في هذا الدرب الشائك .. كل ذلك برؤية لا تشخصن الاحداث وان ذكرت الأسماء فيها.. فليس إلاّ لإعطاء الحدث حقه من السرد التاريخي دون الحاجة للتورية والنكران امام الحقائق التاريخية.. لا يرى صانع الحدث في المقدمة من كل تلك الاسماء والزعامات.. الاّ جمهور المضطهدين المعذبين الذي كرس لهم كاتب الاوراق حياته ليقف في صفهم غير آبه بمن ارتضى ان يكون في الخندق المعادي لهم .. لذلك يذكر الوقائع بالأسماء والأدلة و الزمن .. وإن فاته شيء من ذلك فلا يقلل من شأن مذكراته وما ورد فيها من فصول تجعلنا نتوقف عندها لنستعيد من خلالها تلك المواقف وذلك التاريخ البطولي لجيل من الثوار مع توما توماس..
الذي بدأ بكتابة هذه الاوراق المذكرات بعد انتفاضة عام 1991 بين دهوك والقامشلي ودمشق حيث تواجد في سنواته الأخيرة.. وكان من الافضل لو طبعت كما هي كاملة مع الصور التي اختارها وجمعها في حينها للنشر مع اوراقه مع اضافة كتاباته المهمة في جريدة ريكاي كوردستان وبعض رسائله الهامة التي تبادلها مع رفاقه كملاحق للمذكرات المطبوعة بدلاً من اضافة الرسالة السطحية المدغمة فيها التي لا قيمة لها عن وفاته وتشييعه ..
في الاوراق الكثير مما يمكن التوقف عنده مع كاتب المذكرات عن تعقيدات مرحلة ثورة تموز 1958 واخطاء الحزب الشيوعي وقيادته التي لم تتمكن من ( الاستفادة من النهوض والمد الجماهيري الثوري.. ولم تستغل الامكانيات المتوفرة للحفاظ على الجمهورية وترسيخ توجهها الديمقراطي رغم توسع نشاط الحزب بين مختلف قطاعات الشعب والمنظمات الديمقراطية والجماهيرية والجيش. وكان للموقف المتردد والتراجع الذي اتخذته قيادة الحزب وانتقادها لنفسها دون حق، قد فسح المجال امام قاسم وبضغط من القوى الرجعية لتحجيم دور الحزب باستغلال بعض اخطائنا اثناء مؤامرة الشواف في الموصل وحوادث كركوك سنة 1959 ).. ص 18
وبحكم ملابسات هذه المرحلة المعقدة وما تلاها من تشويهات وتضخيم للأحداث وما نسب للحزب الشيوعي والشيوعيين فيها من ادوار تكتسب الاسطر التي دونها وخصصها توما توماس في اوراقه لكركوك اهمية قصوى وهو يسرد بشكل مكثف مجرى الاحداث مع مسيرة نقابة نفط كركوك في 15-7-1959 مع الذكرى الاولى للثورة ذاكراً الاماكن والشوارع التي مرت بها لحين تجاوز مقهى احمد آغا ودخول المتظاهرين شارع اطلس حيث انهالت عليهم الحجارة من المقهى واسطح البنايات مما ادى الى تفرق المظاهرة وتوجه مجموعة من المتظاهرين للمقهى ليشتبكوا مع من شكوا بهم وما اعقبها من تدخل لجنود من سرية الحراسة هجموا على رواد المقهى والمشتبكين معهم بلا تمييز وما تلاها من فوضى وتطورات شملت النهب والسلب والتداخل لتشمل الاعتداءات كل ما له علاقة بالتركمان وتدخل الجيش واستغلال المشاغبين من جميع الاحزاب للوضع الناشئ وسقوط الضحايا والجرحى لا يمكن استثناء بعض المنتسبين للحزب الشيوعي ومشاركتهم جمهور الاطراف الكردية المندفعة بإشراف قياديين منهم وجهود قيادة الحزب الشيوعي لوقف التجاوزات وتدخلها لفك الحصار عن دار الشخصية التركمانية شامل اليعقوبي وانقاذه بتدخل مباشر من المناضل رحيم اسحق رئيس نقابة النفط .. تلك المواقف وغيرها في خضم الاحداث المتشابكة والتصدي للجماهير الهائجة المستعدة للانتقام انعكست في شهادة الزعيم محمود عبدالرزاق قائد الفرقة الثانية امام المحكمة الخاصة وقد قال حينها: ( لولا الشيوعيين لجرت مذابح في كركوك يذهب ضحيتها آلاف من الفقراء) .. ص19
ونجحت خيوط التآمر من الالتفاف على الاوضاع وحيكت الدسائس بدقة ووجهت اصابع الاتهام للشيوعيين وبدأ تمهيد الطريق لتراجع قاسم وحكومته التي شنت حملة اعتقالات شملت الشيوعيين والتقدميين والديمقراطيين.. وفي الموصل اخذت الهجمة مديات ابعد واخطر واوسع واضطر الشيوعيين وغيرهم الى مغادرة المدينة خوفاً من الانتقام ..
(والغريب أن اتحاد الشعب استحسنت ما جرى في كركوك واعتبرته عقاباً لعملاء شركة النفط، ملصقة دون ان تنتبه التهمة بالحزب ) ص20
لا تكتفي المذكرات بسرد هذه الاحداث بعد ثورة تموز.. ولا يكتفي توما توماس بروايتها وتثبيتها فقط بل يتوقف بشكل مكثف وعميق لتحليها ترافقاً مع تراجع قاسم وبدأ مهاجمته للشيوعيين..
أوراق توما توماس مطبعة آزادي .. 2017 . يفتقد لتثبيت العنوان و المدينة .. 425 صفحة .[1]