جرابلس وكركوك بين القرائن الكردية والأحلام التركية
حسن ظاظا
تعيش تركيا اليوم أزمة حرجة بين انهيار أحلام الإمبراطورية في إقامة “عالم تركي مركزي” يتوسط الغرب، والدائرة الحضارية الآسيوية يكون فيه دور القيادة والسيادة في الشرق الأوسط، وبين أزمتها الداخلية مع حزب العمال الكردستاني وبين الفيدرالية وإعلان الاستقلال في إقليم كردستان العراق، والمشروع الفيدرالي في روجآفا شمال سوريا والمخاوف والأحلام الطورانية في تقاسم “الكعكة” في العراق وسوريا والأحلام العثمانية بحلب، ومدينة الكرد التاريخية كركوك، والمخاوف الجيوسياسية التي تنعكس في عمق الكيان التركي.. والغطرسة “الأردوغانية” وأحلامه البهلوانية، كلّ هذه الأزمات الحرجة للحكومة التركية بدأت تسير نحو أزمة شاملة تتعلّق بالتاريخ والجغرافيا والسياسة والانتماء والبنية، وهي في أزمتها الشاملة هذه تتخبّط بين الداخل والخارج، بين عدم وجود آلية سياسية واقعية نابعة من البنية الحضارية المادية للتعامل مع الحقائق والمعطيات الموجودة في التاريخ والجغرافيا وبين الاندفاع وراء النزعة الطورانية تحت حجج واهية بعيدة كل البعد عن الواقع والحقيقة.
ومع اتضاح جوانب الأزمة بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية تتّجه الحكومة التركية إلى البحث عن مخرج دولي، إقليمي لأزمتها المخاوف والتخبط في السياسة الخارجية، وهي تسعى لتحقيق ذلك بالتدخل العسكري تحت شعارات متعددة: منها “إنقاذ التركمان في سوريا والعراق وتحديداً في حلب واللاذقية.. وفي كركوك ودعمهم للاستيلاء على هذه المدن والمدينة الكردية كركوك، ومنها شعارات إسلامية تبنّتها حكومة العدالة والتنمية وأخرى لمجاراة الموقف الدولي ضد الإرهاب لتغطي نفسها، وذلك لأنها شريك أساسيّ لدولة قطر في رعاية الإرهاب تحت شعارات الإسلام السياسي وهي الداعم الأساسي للإرهاب مع الشريك دولة قطر.
ضمن هذا السياق فإنّ التهديدات التركية متعددة الجوانب وهي مرتبطة أمنياً بتطورات الوضع الميداني في العراق وسوريا، وخصوصاً “روجآفا” بالشمال السوري، وادّعاءات بعض الشخصيات والقوى التركمانية المقيمة في كركوك وحلب واللاذقية، وبالتزامن مع مطالبة تركية هذه المدن، مستخدمة كافة الأساليب اللوجستية في كلا البلدين حسب واقع كل مجتمع يبث شعاراته السياسية الإسلامية، لكن حقيقة الهدف الطوراني هو احتلال هذه المدن، بدءاً من الموصل وكركوك بسبب الفوضى السياسية والمجتمعية بالعراق، والشرخ السياسي بين أربيل والسليمانية، واللجوء إلى زعزعة الوضع الأمني وفق سيناريو مرسوم للاستيلاء على كركوك، لبسط السلطة التركية على هذه المدينة الكردية، وإجبار القيادات الكردية في إقليم كردستان العراق “باشور” على المثول الكامل أمام أنقرة وحكومة حزب العدالة والتنمية، بغية فرض شكل كردي يتوافق مع المصالح التركية والمصلحة التركية الإقليمية، وكل هذه التوجّهات غير بعيدة في مضمونها وأفقها عن الإستراتيجية الغربية المرسومة ضمن أولويات الأمن والاقتصاد، وربط المنطقة نهائياً بالمشاريع الأمريكية الأوروبية.
هذه اللوحة الأمنية السياسية المرتبطة إلى حد كبير بالظروف الأمنية الدولية ، توحي لأنقرة وحكومة حزب العدالة والتنمية، إمكانية تصدير أزمتها وخوفها الشديد من القضية الكردية التي تصدرت عالمياً ، منذ المؤامرة الدولية حين اعتقل قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان، والنضال المستمر لحزب العمال الكردستاني من أجل حرية الشعوب واستقلالها.
عجزت وفشلت كل الحكومات التي تعاقبت خلال ثلاثة عقود من الزمن أمام مسيرة النضال الطويلة لحزب العمال الكردستانيّ، والمدّ الجماهيري لهذا الحزب المناضل في عموم كردستان والشرق الأوسط، وتدويل القضية الكردية عالمياً، وسط الأحداث الجارية ، والحرب الطاحنة في سوريا العراق، حيث حاولت حكومة حزب العدالة والتنمية تصدير أزمتها وأطماعها وأحلامها إلى الخارج عبر استغلال الثغرات الأمنية الأثنية التي تحيط بالجغرافية السياسية التركية، ورفع لواء الشعارات للإسلام السياسي ودعم الإرهاب مع شريكها وحليفها دولة قطر والسعودية والحركة الوهابية وغيرها من الحركات والمنظمات للإسلام السياسي، ودعم الإرهاب والأفكار الأصولية، التي تتّخذ من شعارات الإسلام هدفاً سياسياً لفرض النموذج الإسلامي الأردوغاني والتجربة السياسية الليبرالية الغربية كنمط سياسي وحيد للحكم في العالم.
هذا التصور والأسلوب هو تعبير عن الأفق السياسي الضيق لحكومة حزب العدالة والتنمية التي توجّهها المؤسسة العسكرية، حيث تراهن اليوم على الأسلوب العسكري للتدخل في العراق وسوريا واقتسام “الكعكة” في البلدين، وذلك لدفن قضية الشعب الكردي تحت نهج السياسة التركية، وقد جاءت تصريحات رجب طيب أردوغان رفضه ضم كركوك لحكومة الإقليم بجنوب كردستان قائلاً:
“لا لتغيير البنية الديمغرافية لهذه المدينة متعدّدة الأعراق، والتي تسكنها أكثرية تركمانية، فيما جدّد وزير الخارجية التركي تصريحاته؛ إنّه لا يمكن لأنقرة تجاهل مصلحة تركيا أولاً ومصلحة الأقلية التركمانية ثانياً. ولا يمكن تجاهل التركمان في حلب واللاذقية وباب عمرو في حمص، وذلك للدفاع عنهم وحمايتهم.
على ما يبدو أنّ قبضة العسكر تتمسّك بالطربوش العثماني، والأحلام الطورانية لحزب العدالة والتنمية بضم المدينة الكردية كركوك وبعشيقة والمناطق الإيزيدية إليها، وكأن أرض العراق وسوريا مستباحة للجندرمة التركية، لأن هاجس الخوف ما زال يشكل حصان طروادة في إستراتيجية سياسة التهديد والوعيد و الابتزاز التركي على مختلف الصعد، وبين الخوف على سلامة ووحدة الأراضي التركية، وتصدير المخاوف من تقسيم سوريا والعراق على نمط سايكس بيكو، وتقسيم تركيا تدفع بها بعيداً عن دورها المطلوب في الجمع بين حوار الحضارات، الذي سقط أمام الزيف الأردوغاني، والواقع الجيوسياسي بفعل تداعيات الحرب على الإرهاب في سوريا والعراق.
إنّ سياسة الابتزاز وترديد المخاوف من قيام فيدرالية بالشمال السوري “بروجآفا” والأمن والأمان والاستقرار الأمني الذي وفرته حركة المجتمع الديمقراطي وتشكيل مجالس تشريعية ومجالس تنفيذية وهيئات ومؤسسات حكومية بمشاركة كل مكونات المجتمع السوري ودستور ” العقد الاجتماعي ” ومشروع الفيدرالية لسوريا الاتحادية الديمقراطية الحقّة، تظهر المسؤولية الكردية تجاه الإرهاب والأخطار المحدقة بالشعب السوري بمختلف تلويناته، رغم عقم الحوارات والحروب الدائرة بالمنطقة في مواجهة قاسية، وأمام هذا الواقع توضح أيضاً الحرص الكردي لفتح صفحات مشرقة مع الشعوب والبلدان المجاورة، لاسيّما الدور الرائد لحركة المجتمع الديمقراطي ومشروع الفيدرالية للحفاظ على وحدة سوريا ضمن اتّحاد فيدرالي ديمقراطي يضمَن حقوقَ كافة الشعب السوري.
فالمطلوب في تقريب المسافات على ضوء الأحداث التاريخية التي أكدت بأنّ الكرد كانوا وما زالوا أكثر مسؤولية لتجنّب الشعوب المجاورة من الحرب والأخطار المحدقة.
ومن هذا المنطلق يتوجّب على تركيا الكفّ عن دعم الإرهاب، ونزع معطف العسكر الذي عفا عليه الزمن، والانسحاب من الأراضي العراقية والسورية، والنظر صوب الأفق للخروج من دائرة طابعها الشوفيني والإرهابي والتستر بشعارات الإسلام السياسي، وبثّ الطائفية والمذهبية المقيتة، فلا شيء لدى تركيا يمكن إدراجه ضمن المنطق، فالنظام التركي لا يريد الخروج من دائرته القومية المتطرفة، وشعاراته الدينية الكاذبة، ودعمه للإرهاب، لذا فقد رمى بثقل أوراقه نحو مسألتين؛
الأولى: تخوفه من التغيير المرتقب وما يجرّه هذا التغيير من إعلان القوى العالمية، الاعتراف بالإدارة الذاتية والفيدرالية في شمال سوريا، رغم أنّها ذريعة واهية ، إلّا أنّها ضربت على وترها حين التقى رجب طيب أردوغان بالرئيس الأمريكي ترامب في زيارته الأخيرة لواشنطن، ثم تغيّرت نبرة الخطاب التركي، وبعدها جاءت المشاركة التركية الخجولة في المؤتمر الإسلامي الأمريكي وتجاهله، يبدو فيه الموقف الأمريكي الحاد ضد الإرهاب داعياً إلى قرار الإدانة للدولتين راعية الإرهاب تركيا وقطر، إلّا أنّ دول الخليج والقمة الخليجية لمجلس التعاون الخليجي والقمة الإسلامية الأمريكية استثنت تركيا من المقاطعة الإسلامية لها، بسبب حجم الاستثمارات الخليجية في تركيا وقد بلغت ستين مليار دولار ومنها6 مليار دولار استثمارات السعودية و15 مليار دولار الاستثمارات الكويتية في المقاولات العقارية.
أما المسألة الثانية: التي رمت فيها تركيا بثقل آخر، فقد اختصت بوجود الأقلّية التركمانية في مدينة كركوك وسوريا، فالتركمان الذين لم يجدوا الأمان في كلا البلدين والمنطقة. كان بعضهم أداة تنفيذ السياسة التركية متجاوزين الثوابت المبدئية التي تحتم عليهم، أن يكونوا أكثر تفهماً بحكم الزمن الطويل من العيش المشترك متجاوباً مع الشعبين الكردي والعربي، وشعوب كردستان وقضاياهم العادلة. وبدفع من الحكومة التركية و الميت التركي وأردوغان وشعاراته السلفية الإرهابية تتردّد اليوم دعوات تركمانية في العراق وسوريا، ما أنزل الله بها من سلطان مطالبة الحكومة التركية بالتدخل العسكري لضمّ كركوك ومدينة جرابلس والباب في حلب إليهما، وإلى ما أسموه بالعالم التركي وذلك لإعادة الأمجاد العثمانية.
إنّ أيّ عاقل لا يمكن أن يُقرّ بإمكانية عودة التاريخ إلى الوراء، فالإرث العثماني في الجمهورية المريضة مثقل بالديون والاقتصاد والمتهالك والفساد المستشري بجهابذة الدولة في حكومة العدالة والتنمية وتحت ستار الإسلام “خمس الغنائم والأرباح للسلطان أردوغان” هذا الفساد والاقتصاد المتهالك، وهذا الطيف المريض يلقي بوطأته على العلاقات مع الدول الإقليمية عبر الكراهية المقيتة التي تطفو إلى سطح سلوكياتها وأساليبها، لكنّنا أيضاً نُعيد الذكر بأنّ الحق الكردي أقوى وأشد فعالية وتأثيراً، فليست كركوك وجرابلس والباب وحلب واللاذقية تركية، وإنّما هي لأصحابها من أبناء شعوب المنطقة بسيادتها الوطنية.
إنّ كلّ التأكيدات تستند إلى الكثير من الدلائل والقرائن التاريخية ما يكفي لمن يريد دفع وإثبات الحقيقة التي يحاول البعض دثرها وإخفائها، وهي أنّ كركوك جزء من كردستان، وأنّ حلب وجرابلس والباب جزء من سوريا، ولكل مكونات المجتمع السوري. وأنّ الشعب الكردي صاحب حضارة عريقة وقديمة، قِدم التاريخ كشاكلتها من حضارات وأمم، وأقوام مختلفة عاشت وترعرعت معاً على أرض الله الواسعة، وإنّ هذه الدلائل والحقائق التي تدعمها الوثائق القديمة والاستكشافات الأثرية ودراسات المؤرّخين والاختصاصيين في علوم الآثار، وتظهر وبكل وضوح أنّ مدينة كركوك كردية وجرابلس والباب وحلب لسيادتها الوطنية.
والأمر العجيب والغريب هنا الادعاءات التركية والاستغاثة التركمانية الوهمية من بعض ضعاف النفوس من الأقلية التركمانية في كلا البلدين، وعلى الرغم من كل القرائن والدلالات التي تثبت حقيقة مرجعية الأصل لهذه المدن، فكلّ هذه السِمات التاريخية الملازمة لها والتي من المستحيل إزالتها مهما عملت تركيا وحكامها في أنقرة من تهديدات وما شابه ذلك، فإنّ الكرد يملكون كل الوثائق والقرائن الموجودة بحوزتهم، وفي وثائق الأمم المتحدة تعتبر من أهم الدلائل والبراهين.[1]