#مؤيد عبد الستار#
تعد ملحمة جلجامش إحدى أقدم الملاحم التي نقشها الشعب السومري على الواح الطين المفخور في النار او المجفف تحت أشعة الشمس ، وهي الملحمة التي خلدت الابطال والالهة ومعتقدات شعب عاش في وادي الرافدين منذ الاف السنين .
تكشف الرقم الطينية التي نقشت عليها ملحمة جلجامش ، والاساطير الرافدينية الاخرى ، جوانب تاريخية هامة عن سكان وادي الرافدين القدماء والشعوب المحيطة بهم ، فالسومريون الذين عاشوا في بلاد ما بين النهرين اسسوا حضارة هامة اقتبست منها واضافت اليها مختلف الاقوام والقبائل والشعوب التي كانت تحيط بهم وتختلط معهم ولكن الاسس التي ارساها الشعب السومري ظلت المنار الذي يهتدي به الاخرون .
كانت للشعب السومري لغته وابجديته لكن العصور اللاحقة التي شهدت تطور الزراعة والتجارة والصناعة في بلاد الرافدين – مصطلح بلاد الرافدين يمتد من الاناضول الى الخليج الفارسي جنوبا والى وادي السند شرقا – شجعت هجرة القبائل والاقوام الى بلاد مابين النهرين - ان تسمية بلاد مابين النهرين لم تطلق على البلاد الواقعة بين دجلة والفرات فقط ، وانما اطلقت ايضا على المنطقة الواقعة جنوب بحيرة اورمية في كوردستان وتسمى ( ميان دو آب ) اي ما بين النهرين ، وهما نهرا اوزون ودجلة ، وقد جاء نهر اوزون في التوراة باسم بيشون نتيجة قلب بعض الحروف الى العبرية ، راجع مقالنا المعنون رحلة من سومر الى جنة عدن المنشور في عدة مواقع على الانترنيت - وبسبب هذه الهجرة شاعت الحروب والغزوات ، مما اضطر السومريين الى الدفاع عن انفسهم ، ولكنهم فشلوا وخسروا المعركة لان المهاجمين كانوا أقوى وأشرس وأكثر قسوة وهمجية . ورغم انتصار الاقوام الاخرى عليهم وذهاب ملكهم وزوال لغتهم من بعض المناطق التي اكتسحتها الاقوام والشعوب الاخرى ، الا ان اختراعهم العظيم للكتابة المسمارية وتطويرها واستخدامها ، وشيوعها بين شعوب المنطقة ، جعلها شاهدا حيا على تاريخ الشعب السومري الذي دالت دولته ، او على الاصح دوله ، فقد كانت لهم اكثر من إمارة ومملكة ومدينة عظيمة . وقد ظلت الكتابة المسمارية ، وسيلة بيد الشعوب الاخرى للتعبير بها ، ولذلك ظلت الكثير من الاسماء والمفردات السومرية محفورة على الالواح والرقم والجدران والاواني والمنحوتات ، خاصة ما جاء في القصص والاحداث التاريخية التي دونوها .
كما نجد بعض الاسماء ما زالت معروفة ومستخدمة كما هي في اللغة الكوردية ، مما يدلل على وجود علاقة وثيقة بين اللغة السومرية والكوردية. ومن المؤسف ان بعض الدارسين اهملوا النظر في هذه العلاقة بشكل مقصود ، ففي النص البابلي المعتمد لملحمة جلجامش نقرأ في اللوح الاول :
( ارفع اللوح اللازوردي واقرأ
قصة ذلك الرجل ، جلجامش ، الذي تكبد
شتى انواع المشقات
كان متفوقا على جميع الملوك ، سيد محارب ذو قوام عظيم
بطل ولد من اوروك ، ثور بري نطاح ) ص 76 اساطير
نجد في هذا النص تشبيه جلجامش بالثور البري النطاح ، وهوالجاموس او الثور ومما له دلالة ان كلمة غامش تعني باللغة الكوردية : الجاموس ، وكلمة غا تعني بقر ، وكلمة مانغا – تدغم النون مع الغين – تعنى البقرة ، وربما كانت تركيبا - وهو شائع في الكوردية والسومرية - بين كلمتين هما ما + غا ، لتصبح الام البقرة ،او البقرة الام ، ومن الطريف ان الهنود مازالوا يعدون البقرة اما و يحترمونها حد التقديس وتسمى ( غائي ) ايضا في الهندية ، وربما كانت كلمة ( ما ) الجذر الاول لكلمة الام = ماما ، وتعني في الاساس الطعام اي هي الكلمة التي يرددها الطفل طالبا الحليب من مرضعته .
اما كلمة ( كه ل ) وتلفظ بالكاف الفارسية او الجيم المصرية فما زالت مستخدمة في اللغة الكوردية وتعني كبير ، ومن معاني (كبير) المقدس فهو كبير مثلما نقول الله اكبر ، ولذلك تعني جلجامش الثور الكبير او الثور المقدس ، والتقديس في الحضارة السومرية لا يشبه التقديس الذي نعرفه اليوم ، فما يترجم عن السومرية بالمقدس يعني احيانا القوى الذي يضرب فيه المثل ، مثل الثور البري .
اما انكيدو ، فتصفه ملحمة جلجامش بانه الرجل القوي الآتي من الجبل ، ولما كانت اوروك من المدن القريبة لجبال بيشتكوه ، فالمرجح ان انكيدو من تلك المناطق ، اي من بلاد ايلام ، موطن الكورد الفيليين ، والبعض يعتقد ان بلاد ايلام - عيلام - هي المناطق الواقعة اليوم في بلاد ايران فقط ، ان بلاد ايلام كانت تمتد الى وسط وجنوب العراق وشمالا الى كركوك ، ولكن الهجرات والغزوات والفتوح الاسلامية وعوامل اخرى كثيرة سياسية وتاريخية قلصت مساحة مملكة ايلام اليوم ، واقتصرت على المناطق الواقعة داخل الحدود الايرانية وبعض المدن الحدودية الشرقية للعراق والتي ظلت محل خلاف وصراع في معاهدات عديدة بين العراق وايران .
جاء في ملحمة جلجامش :
( قال صياد رأى انكيدو لابيه
ابتاه كان هناك رجل أتى من الجبل
قوته كانت شديدة جدا، كشهاب آنو السماوي
يجوب الجبال دوما
يرعى العشب مع القطعان دوما ) اساطير ص 78 *
فانكيدو رجل الجبال القوي يرعى قطعان الماشية ، تلفت قوته الانظار ، ولكي يستدرجوا هذا الرجل القوي الى المدينة ، ويكسبوه اليهم ، قدموا له المرأة الحسناء، السلاح الذي لايقاوم ، غانية لها مقدرة على الاغراء والاغواء . فمن هي التي تمتلك الصفات التي تؤهلها لاغراء انكيدو واغوائه ، هذا الراعي الجبلي القوي ، انها الفنانة شمخات ، فنانة اوروك الشهيرة . وعندما ذهب الصياد الى جلجامش وأخبره عن انكيدو ، قال له جلجامش :
( اذهب ايها الصياد واصطحب الباغية شمخات
وعندما يقترب من القطعان عند المشرب
يجب عليها ان تخلع ثيابها وتظهر مفاتنها
سوف يراها ويتقرب منها ...) اساطير ص 80
ومثلما انتزعت حواء آدم من جنته وهبطت به الى الارض ، كذلك انتزعت شمخات الفاتنة انكيدو من جباله وقطعان ماشيته ، واصطحبته الى المدينة ، فاصبحت الاغنام غريبة عنه ، لانه تركها وهجرها وانتقل الى المدينة.
تصف الملحمة كيفية اغراء شمخات لانكيدو، وكيف شجعته على ممارسة الحب معها :
( فاسفرت البغي عن صدرها وكشفت عن عورتها
فتمتع بمفاتن جسمها
نضت ثيابها فوقع عليها
وعلمت الوحش الغر فن المرأة ، فانجذب اليها وتعلق بها
ولبث انكيدو يتصل بالبغي ستة ايام وسبع ليال
وبعد ان قضى وطره منها
وجه وجهه الى الفه من حيوان البر
فما ان رأت الضباء انكيدو حتى ولت عنه هاربة ......) ملحمة جلجامش ، طه باقر ، ص 42
لاحظ ايضا علاقة هذه الايام الستة مع قصة خلق الكون كما وردت في الكتب المقدسة والايام السبعة – سبعة العروس - التي مازال يحتفل بها في العراق .
كما ورد في اللوح الثاني من الواح ملحمة جلجامش وصف لانكيدو بعد ان تغويه شمخات ويذهب معها الى اوروك :
( هذا الشاب – كم يشبه جلجامش في بنيته
ناضج البنية ، منيع كاسوار الحصون
لماذا ولد في الجبال ؟
ان قدرته الجسدية تضاهي تماما قوة
شهاب آنو السماوي ) اساطير ص 85
إن ملحمة جلجامش إحدى أقدم وأشهر الملاحم في العالم نعرف منها كيف قتل انكيدو في المعركة التي دارت مع خمبابا حارس الغابة ، وحين يموت انكيدو بعد جرحه بتلك المعركة يبكيه جلجامش مر البكاء ، وقد جاء في اللوح الثامن :
( سوف تبكيك الممرضة الرطبة
التي كانت تمسح بالزبدة اعضاءك السفلى
وسوف يبكيك المسن
الذي كان يضع الشراب في فمك
وسوف تبكيك المومس
التي كانت تمسح جسدك بالزيت العطر) اساطير 119
نلاحظ في هذه القطعة ، كما في غيرها ، بعض الاوصاف غير المعروفة لنا ، مثل (الممرضة الرطبة )، وربما كانت بسبب الترجمة غير الدقيقة للملحمة ، فقد تكون الممرضة اللدنة او الممرضة الدافئة على سبيل المثال ، وكذلك (المسن ) قد يكون الرجل الكبير او المحترم ، وقد تكون هذه الصفات معروفة للسومريين يومذاك وغير معروفة لنا في الوقت الحاضر. وبسبب الترجمة الحرفية من السومرية الى اللغات الانجليزية والالمانية تعرضت العبارات المترجمة الى الغموض فمثلا حين يرد في النص السومري تعبير ( فتح فاه ) فانه بمعنى تكلم . ولكنه لم يترجم بكلمة تكلم وانما بعبارة مقابلة للنص السومري او الاكدي . وهذا قد ينطبق ايضا على التعبير الذي ورد اعلاه : المسن الذي كان يضع الشراب في فمك ، ومن الواضح انه المقصود الساقي الذي يسقيك الشراب. وقس على ذلك .
ومن المفيد أن أشير الى ان اسم خمبابا ، يرد في بعض المصادر الانجليزية الصادرة عن المتحف البريطاني باسم هواوا HAWAWA وهو الاسم السومري لحارس الغابة الذي شاعت تسميته خمبابا **، والاسم هواوا اقرب الى الصحة لان السومرية باعتبارها ام اللغات الارية لا تشتمل على لفظ حرف العين ، وربما تحول هواوا فيما بعد بسبب اللغة الاكدية الى عواوا وهو اسم معروف في بعض مناطق وسط العراق ، وكان يطلق في محافظة واسط / الكوت مثلا على بعض الاشخاص ، كما تذكر المصادر البريطانية اسم HUMBABA كصيغة اكدية ، واذا امعنا النظر في هذه التسمية سنجد انها تتركب من كلمتين هي عم وبابا وربما بسبب عدم امكان ترجمة لفظ العين في الانجليزية استخدموا الهاء بدلا منها ، ولذلك قد تكون هواوا السومرية تحولت في الاكدية الى عمو بابا ، ومعروف ان الاكديين الذين استقروا وسط وجنوب العراق بعد انحسار نفوذ السومريين كانوا يقدسون الالهة السومرية بمن فيهم حارس الغابة هواوا ، مثلما تقدس الشعوب الهندية الالهة كالي التي تصيب الاطفال بالامراض ، كي تبتعد عن اطفالهم .
وارى ان صيغة همبابا ، عمو بابا ، مشابهة لصيغة حمو رابي ايضا اذا فسرنا حمورابي بانه حمو ربي او عمو ربي ...
يصور خمبابا على شكل انسان له مخالب اسد ،و وجه مرعب وشارب مسبل ، وفي المعركة التي دارت بينه وبين جلجامش وانكيدو يسيطران عليه ويقطع انكيدو راسه بسيفه اوخنجره ، وهي الاداة التي نجح سكان ايلام في صنعها من الحديد او المعدن ، لاحظ السكين بيد انكيدو في التخطيط المرفق مع المقال – كما تستطيع مراجعة مقالنا عن الفاس التي تعود الى 2000 عام قبل الميلاد والمحفوظة في المتحف البريطاني والذي نشرناه مع صورة الفاس التي عثروا عليها في سوسة / ايلام في جريدة الاتحاد / بغداد ومواقع انترنيت عديدة – ولربما بسبب امتلاك انكيدو للفأس بالاضافة الى قوته احتاجت اليه اوروك ، وهي القوة التي عرف بها سكان ايلام، الكورد الفيليون ابناء جبال زاغروس ، فقدموا له الفنانة شمخات عربونا للبقاء في اوروك ، والاستفادة من قوته وفأسه .
ومن الضروري أن نبين ان خمبابا او همبابا ، يمثل بمنحوتات اخرى ويوجد قناع لوجهه في متحف اللوفر نرفق صورته ايضا مع هذا المقال عثر عليه في سوسة عاصمة عيلام / كوردستان ايران – ارتفاعه حوالي 6 سم وعرضه 4 سم و يعود الى الفي عام قبل الميلاد 2000 ق . م - وقد عثر على نسخ اخرى منه جنوب العراق وايلام ايضا ، ويوصف فمه من نار وانفاسه الموت ، ويعتقد ان الاله انليل ارسله ليحرس الغابة ، وان هذا المجسم – الوجه الاليف – يستخدم للحظ السعيد ، وان خمبابا يصور في بلاد مابين النهرين بصورة مرعبة جدا – لاحظ التمثال المرفق مع المقال – بينما يصور في عيلام عكس ذلك ، ويحتمل ان هذا المجسم – قناع الوجه – من صناعة ايلام وليس من صناعة بلاد مابين النهرين ، لانه يصور بشكل اليف وهادئ بينما يصور عكس ذلك في وسط وجنوب العراق.
ومن المؤسف ان باحثا نعتز به هو العلامة طه باقر يحاول ابعاد انكيدو عن بلاد الكورد الفيليين، عن جبال بيشتكوه ، فيقول في ترجمته للملحمة ص 40 عن انكيدو :
( جاء الصياد الى ابيه ففتح فاه وقال له :
يا أبي ، رأيت رجلا عجيبا قد انحدر من المرتفعات
إنه اقوى من في البلاد ، وذو بأس شديد )
ويعلق العلامة طه باقر في هامش الصفحة على استخدامه كلمة المرتفعات ، الواردة في ترجمته بقوله : ( في بعض الترجمات ، الجبال ، ومهما كان ، فالمقصود بالجبال ، ان صحت الترجمة ، المرتفعات والتلال ) انظر هامش رقم 17 ص 40 ، طه باقر ، ملحمة جلجامش .***
ولا ادري لماذا يكون المقصود بالجبال التي ترد في الملحمة ( التلال او المرتفعات ) وهل جبال عيلام – وجبال بشتكوه – بعيدة عن اور او لم تكن هناك علاقات تجارية بين وسط وجنوب العراق وعيلام ، ام انه امر اضطر عليه الباحث الفاضل طه باقر ، كي لا تكون هناك علاقة بين انكيدو والكورد .
.............................
* ينظر كتاب: اساطير من بلاد ما بين النهرين ، ستيفان دالي ترجمة نجوى نصر ، دار بيسان بيروت ط1 ، 1977.
** ينظر كتاب:
- Jeremy Black and Anthony Green
Gods, Demons and Symbols of Ancient Mesopotamia, London 1992.
*** ينظر كتاب: ملحمة جلجامش ، طه باقر
ملاحظة 1: التخطيط المرفق مع المقال منقول عن ختم اسطواني ، يمثل جلجامش وانكيدو يهاجمان و يقتلان الثور السماوي ، لاحظ السكين بيد انكيدو ، اذ كانت السكين احدى اهم الصناعات التي ظهرت في سوسة / عاصمة العيلاميين نتيجة تطور سباكة المعادن منذ اكثر من الفي عام قبل الميلاد .
ملاحظة 2 : نشرت هذه الدراسة مع تفاصيل اخرى في كتابي : ( الكلام المباح .. مقالات في السياسة والادب ) الصادر في السويد عام 2001 ، ومما يؤسف له ان بعض الكتاب نقل وتبنى الاراء الواردة في هذه الدراسة ودراسات اخرى مشابهة صدرت لي حول الموضوع دون الاشارة الى المصدر .
ملاحظة 3: للاطلاع على الفأس المحفوظ في المتحف البريطاني افتح الرابط التالي :
http://www.gilgamish.org/viewarticle.php?id=athar-20070326-1075.[1]