لواء الشرطة الحقوقي #محي الدين محمد يونس#
تأسست جامعة بغداد عام 1957 وكانت هي الجامعة الوحيدة في العراق يتوافد اليها للدراسة طلاب العلم والمعرفة من جميع انحاء العراق وخارجه واستمرت كذلك لحين تأسيس جامعة المستنصرية في بغداد عام 1963 وأعقب ذلك تأسيس جامعة البصرة عام 1964 ثم الموصل عام 1967 وآخر جامعة تأسست في أواخر ستينيات القرن الماضي هي جامعة السليمانية والتي تم تأسيسها عام 1968 وهي مدار بحثنا في هذه المقالة للتطرق الى بعض المحطات السياسية لنشاطات طلبتها ودورهم في الأحداث المتميزة لمسيرتها في ظل نظام الحكم السابق والذي لم يتوصل الى اتفاق مع الحركة الكردية لإنهاء حالة التوتر وانعدام الثقة في العلاقات بينهما طيلة الأربع سنوات التي ابتدأت من صدور بيان الحادي عشر من آذار 1970 ولغاية آذار عام 1974 وعدم الاتفاق على الصيغة النهائية لتطبيق الحكم الذاتي في منطقة كردستان ووصول قيادة السلطة في العراق الى قناعة بوجوب انهاء الحركة الكردية المعارضة لها بكافة السبل ومنها الحرب والتي بدأت في آذار عام 1974 بين الطرفين وكانت تداعياتها التحاق آلاف المواطنين الأكراد بصفوف هذه الحركة ضمن مناطق نفوذها الواسعة ومن مختلف شرائح المجتمع الكردي ومن ضمنهم معظم طلبة جامعة السليمانية وأعضاء الهيئة التدريسية والكوادر الادارية فيها وأصبحت مدينة (قلعه دزه ) مقراً جديداً لهذه الجامعة بالإضافة الى المقر القديم في مركز محافظة السليمانية والذي أصبح تحت سيطرة الحكومة العراقية.
صباح يوم 24 نيسان من عام 1974 قامت طائرتان حربيتان تابعتان للقوة الجوية العراقية بقصف هذه المدينة قصفاً وحشياً شديداً كانت نتيجته استشهاد (134) مائة وأربعة وثلاثون وجرح (51) واحد وخمسون شخصاً, وكان معظمهم من طلبة الجامعة المذكورة.
الاستعدادات للحرب من قبل الطرفين (القيادة العراقية وقيادة الحركة الكردية) في جوانبها العسكرية والسياسية والاقتصادية سبقت فترة المفاوضات الأخيرة والتي جرت في بغداد بين الطرفين للأيام 8 و 9 و 10 آذار 1974 دون التوصل الى أية نتائج ايجابية ورفض الحكومة العراقية لمقترح الجانب الكردي في تأجيل تطبيق الحكم الذاتي سنة أخرى وبذلك انتهت فترة المهادنة والتي استمرت لمدة أربعة سنوات اتصفت بعلاقات تتسم بانعدام الثقة والريبة وخاصة بعد أن استغلت السلطة العراقية ممثلة في قيادتها الحكومية والحزبية هذه الفترة للاستعداد لصفحة تصفية الحسابات بينها وبين الحركة الكردية عن طريق الحرب والذي بدأ في آذار من عام 1974 وانتهى بلجوء القيادة العراقية الى عقد صفقة سياسية خاسرة مع الحكومة الايرانية على حساب مصالح العراق وشعبه عن طريق التنازل للأخيرة في شط العرب وبعض المناطق الحدودية الأخرى مقابل قطع مساعداتها عن الحركة الكردية ..
حيث أعلن الرئيس الجزائري (هواري بومدين) بحضور شاه إيران (محمد رضا بهلوي) ونائب الرئيس العراقي(صدام حسين) بعد ظهر يوم الخميس المصادف 7 آذار 1975 في نهاية اجتماعات قمة الدول المصدرة للنفط ( الأوبك) أن العراق وإيران قد توصلا الى اتفاق بشأن حل الخلافات التي كانت قائمة بينهما وإنهاء النزاع الحدودي وإعادة الأمن والثقة المتبادلة على طول حدودهما المشتركة والالتزام بإجراء رقابة مشددة وفعالة على هذه الحدود من أجل وضع حد نهائي لكل التسللات ذات الطابع التخريبي من حيث اتت وبإعلان وتوقيع هذه الاتفاقية والتي سميت باتفاقية الجزائر, انتهت الحركة الكردية بعد أن تأكد للحكومة العراقية بأنها لن تستطيع القضاء على الحركة عن طريق لجوئها الى وسيلة الحرب وخشيتها على مستقبلها السياسي بعد أن انهكتها هذه الحرب اقتصادياً وما سببته لها من خسائر مادية وبشرية.
لم تكد تمضي إلا أشهر قليلة على توقيع هذه الاتفاقية وفي نفس عام توقيعها إلا وبدأت تتبلور مجاميع سياسية لشخصيات كردية لتقوم بتشكيل أحزاب وحركات كردية جديدة وبتوجهات وبرامج سياسية مختلفة قاسمها المشترك النضال من أجل تحرير الشعب الكردي في العراق ونيل حقوقه السياسية المهضومة.... الغالبية العظمى من القيادات القائمة بتشكيل هذه الأحزاب والحركات من قيادات وكوادر (الحزب الديمقراطي الكردستاني) المنحل نتيجة إبرام اتفاقية الجزائر المنوه عنها.
بعد إعلان تشكيل هذه الكيانات السياسية تباعاً بدأت ملامح وجودها تظهر على الساحة السياسية والعسكرية من خلال نشاطاتها المتنوعة في مواجهة السلطات الحكومية تبعاً لحجمها وإمكانياتها وأماكن نشاطاتها والتي كانت تختلف في المحافظات الثلاثة (السليمانية – أربيل – دهوك) المشكلة لمنطقة الحكم الذاتي المقر من جانب الحكومة العراقية فأشد هذه النشاطات في قوتها وتأثيرها على سلطات بغداد كانت من نصيب محافظة السليمانية لواقعها السكاني المتكون من غالبية كردية متميزة بعمق وعيها السياسي والثقافي وتليها محافظة أربيل ثم محافظة دهوك وهذا لا يعني خلو محافظة كركوك من هذه النشاطات والمحافظات الأخرى في مناطقها ذات الأغلبية الكردية والمحسوبة جغرافيا وتاريخياً ضمن حدود كردستان العراق في محافظتي الموصل وديالى .
تصاعدت وتيرة العمل السياسي والعسكري المعارض للحكومة العراقية بمرور الوقت من حيث قوتها وشموليتها للمدن الكبيرة وتوابعها في أوساط مختلف شرائح المجتمع الكردي من خلال العمل ضمن تنظيمات هذه الأحزاب والحركات وكان لشريحة الطلبة الدور البارز في هذا النشاط وأصبحت جامعة السليمانية بؤرة ومركز للتعبير عن هذه التوجهات السياسية وأصبحت تشكل هاجساً مقلقاً للسلطة العراقية بعد فشل كل محاولاتها للسيطرة على النشاطات المعادية فيها بالرغم من جهودها المستمرة وبمختلف الوسائل وخاصة الأمنية منها.
اضطرت الحكومة الى اللجوء الى اتخاذ قرار يقضي بنقل هذه الجامعة الى محافظة أربيل في عام 1981 وتغيير اسمها الى جامعة صلاح الدين وتبين فيما بعد عدم صواب هذا الإجراء حيث لم يكن كافياً للتخلص من نشاطات طلبة هذه الجامعة فالمشكلة ليست في أبنيتها أو مكان تواجدها وإنما في طلبة هذه الجامعة وحيث ما يكونون لارتباط أغلبهم بتنظيمات سياسية ذات أهداف وطنية.
صورة كاتب المقال عندما كان برتبة رائد
في ربيع عام 1983 شهدت مدينة أربيل مظاهرات واحتجاجات صاخبة ضد الحكومة العراقية من قبل طلبة جامعة صلاح الدين والتي كانت كلياتها موزعة في انحاء متفرقة من هذه المدينة. تمثلت نشاطات الطلبة والتي استمرت قرابة الشهر في التظاهر والعصيان المدني ومواصلة الدوام في الكليات دون الدخول في القاعات الدراسية وأعلنت الحكومة العراقية حالة الاستنفار القصوى بين صفوف الأجهزة الأمنية في المحافظة (الجيش , الشرطة , الأمن , الجيش الشعبي) بالإضافة الى استقدام قوات خاصة من منتسبي الأمن العامة في بغداد.
شعار جامعة صلاح الدين
أصدرت الحكومة المركزية أوامر صريحة للتعامل مع الطلبة المشاركين في هذه التظاهرات والنشاطات المعادية لها بكل شدة وقسوة وصلت الى حد التصريح باستعمال السلاح الناري الحي ومحاسبة كل من يتهاون في تنفيذ هذه الأوامر والتعليمات من أفراد المفارز المشتركة المشكلة لهذا الغرض من منتسبي الجيش والشرطة والأمن والجيش الشعبي.
وقد كان من نتائج هذا السلوك استشهاد وإصابة العديد من طلبة الجامعة المذكورة وتعود بي ذاكرتي الى وقائع هذه الأحداث حيث كنت فيها برتبة رائد وبمنصب مدير شرطة بلدة أربيل (مركز محافظة أربيل) وكنت بصحبة مدير شرطة محافظة أربيل عقيد الشرطة (عزيز حسن الحديثي) والذي كان يتصف بقوة الشخصية والشجاعة في التصرف وإصدار القرار وقد كان قد امضى فترة طويلة في الخدمة في مسلكي الشرطة والأمن ومن البعثيين القدامى وبدرجة متقدمة في الحزب.
بناية كلية الادارة والاقتصاد في اربيل وقت الأحداث التي نتحدث عنها
كانت الساعة تشير الى الرابعة عصراً في أحد أيام شهر مايس من عام 1983 وكنا نتجول داخل مدينة أربيل وطرق سمعنا نداء من سيطرة شرطة النجدة لدورياتها بالتوجه إلى مبنى كلية الإدارة والاقتصاد لوجود نشاط معادي طلابي فيها , على أثر هذه المعلومات أوعز مدير الشرطة لسائق العجلة بالتوجه إلى المبنى المقصود والذي كان يقع في مركز المحافظة وقرب أكبر مركز تجاري فيها (سوق شيخ الله) ولدى وصولنا شاهدنا جمعاً من أفراد ومنتسبي الأجهزة الأمنية واقفين في مواجهة البناية والطلبة في داخلها يهتفون بشعارات معادية للسلطة , كنت واقفاً بجانب مدير الشرطة قبالة الباب الرئيسية للكلية حيث تفاجئنا بإحدى الطالبات وهي تخرج مسرعة من باب الكلية وبيدها حجارة قذفتها بكل قوتها تجاهنا نحن الواقفين دون تحديد , أصابت مدير الشرطة في صدره وعلى أثره أخرج أحد ضباط الشرطة الواقفين معنا مسدسه وسحب أقسامه وقام بإطلاق النار إلا أن مدير الشرطة نهره على فعلته هذه قائلاً له : ((ما تستحي ترمي طلقات على البنيه)) استدارت الطالبة مسرعة وهي تنوي العودة إلى داخل الكلية إلا أنها أخفقت في مسعاها إذ استطاع عدد من أفراد الأمن الإمساك بها وقذفها داخل الحوض الخلفي لسيارة الأمن والتي انطلقت بها إلى مديرية أمن محافظة أربيل بعد ساعات من هذه الحادثة عدنا إلى الدائرة وكنت ومدير الشرطة جالسين في غرفته وكانت الساعة تشير إلى التاسعة ليلاً , كنت شارد الذهن ومشغول البال على مصير هذه الفتاة وماذا سيحل بها في دائرة الأمن ... وأنا في خضم هذه الأفكار وإذا بمدير الشرطة يناديني : (( رائد محي الدين ... شبيك ضارب دالغة )) أجبته: (( سيدي تريد الصدك أفكر بالبنية اللي أخذوها جماعة الأمن وحالها ومصيرها في مديرية الأمن)) .
بعد لحظات نهض من مكانه طالباً مني متابعته كما طلب من السائق والحماية تهيئة نفسيهما وكنت أجهل وجهته التي ينوي التوجه إليها في أول الأمر والتي اتضحت فيما بعد عند طلبه من سائق العجلة التوجه الى مديرية أمن محافظة أربيل حيث استقبلنا من قبل مديرها العقيد(خيري جلميران) وهو من مدينة الموصل ومن أصول كردية كان ينكرها.
بعد جلوسنا والترحيب بنا والقيام بواجب الضيافة بعدها دار الحوار التالي بين مدير الشرطة ومدير الأمن :
- مدير الشرطة: (( عيني أبو فرح أريد أشوف البنية اللي جماعتك قبضوا عليها عصر اليوم كَدام كلية الإدارة والاقتصاد))
- مدير الأمن: (( أبو محمد أي بنية تقصد اللي ضربتك بحجارة))
- مدير الشرطة: (( عفيه بالضبط هيه اللي اقصدها ))
أوعز مدير الأمن لأحد ضباطه طالباً منه احضار الفتاة المقصودة , وعند احضارها كان يبدو عليها الخوف والقلق والارتباك , نهض مدير الشرطة ونهضت معه وهو يخاطب مدير الأمن
- مدير الشرطة: (( أبو فرح راح آخذها ))
- مدير الأمن: (( أبو محمد وين تاخذها ))
- مدير الشرطة: (( آخذها لهلها ))
- مدير الأمن: (( يمعود شلون تاخذها لهلها هاي البنية جريمتها واضحة وأكيدة وبالجرم المشهود وهيه ضربتك بالحجارة وإحنا أبرقنا لمراجعنا بتفاصيل وضعها ))
- مدير الشرطة: (( أبو فرح شوف أكَلك أخويه لإنها ضربتني بالحجارة يخليني أصر على أخذها وأما موضوع إخبارك لمراجعك بقضيتها فإنت خيري جلميران - أبو فرح وهاي الشغلة سهلة عليك وتكَدر ادبرها))
خرجنا من مديرية الأمن والفتاة معنا وبعد ركوبنا السيارة طلب مني مدير الشرطة الاستفسار منها عن عنوان ذويها , فأخبرتني بأنهم من سكنة محلة آزادي والتي كانت بمقاييس ذلك الوقت من المحلات الراقية في مدينة أربيل .
بعد وصولنا إلى المحلة المذكورة والولوج في أزقتها مسترشدين بالفتاة والتي أشارت إلى أحدى الدور فتوقفنا ونزلت من السيارة وطرقت باب الدار ولدى فتحه تبين لي وجود عدد كبير من الرجال والنساء في باحة الدار وهم في نقاش وتوتر مع بكاء قسم من النساء وفور مشاهدتهن للفتاة التي ترجلت من سيارتنا هبوا لاحتضانها وتقبيلها والكل غير مصدق لما يراه من منظر لا يصدقه العقل.
طلب مني مدير الشرطة والذي بقي داخل السيارة استدعاء والد الفتاة ... والذي حضر وبعد أن عرفته بشخصية مدير الشرطة وما عمله من أجل إطلاق سراح ابنته , شكرنا وكان عاجزاً عن التعبير عن مشاعره وهو يلهج بالدعاء وعيناه تدمعان ويلح علينا بقبول ضيافته لنا فقاطعه مدير الشرطة مخاطباً له : ((أبويا دير بالك على بنتك تره .... الأمن )) عدت إلى السيارة وأوعز مدير الشرطة لسائقها بالتحرك وهو يخاطبني قائلاً:((ها محي الدين هسه أنت مرتاح؟؟ ))
أجبته: (( نعم وكيف لا وأنت قمت بعمل جبار لا يقوم به إلا النادر من الرجال ))
أما بعد فقد أتيت على نهاية المقال وهي سرد لأحداث سياسية تاريخية عايشتها بحكم موقعي الوظيفي.[1]