#قيس قرداغي#
#شوكت حاجي مشير# قائد ميداني في صفوف بيشمركة كوردستان بدأ نظاله مع بدء اندلاع الثورة الكوردية وشهد مجزرة حلبجة الرهيبة قائدا لتشكيلات البيشمركة فيها بعد تحريرها من الاحتلال البعثي الدموي وهو ابن منطقة شهرزور وعاصمتها حلبجة ، لم يعرف الكد والملل في عمره الكفاحي الى يوم سقوطه شهيدا على يد مجموعة خائبة ذليلة من قوى الارهاب التكفيري بعدما أخبروه عن طريق رسول أنهم تابوا الارهاب ويودون تسليم انفسهم لسلطات حكومة اقليم كوردستان غير انهم غدروا به ساعة اللقاء ليذهبوا هم الى جهنم وبئس المصير وليخلد الشهيد في ضمائر وذاكرات الاجيال .
جمعتني بعض اللقائات الجميلة مع الفقيد في اماكن متفرقة فغذتني بزاد معرفي عن طبيعة المنطقة التي كافح فيها كبيشمركة وقد كان حقا عالما بتضاريسها من جبال وسهول وهضاب وأنهار و ينابيع وحتى دقائق الامور وقد كان عارفا بالتركيبة الاجتماعية لسكان المنطقة وتربطه بهم علاقات طيبة ، من بين اللقاءات التي تبقى عالقة بالذاكرة تلك التي التئمت في دار السيد محمد حاجي محمود رئيس عشيرة هاروني أحد فخوذ قبيلة الجاف الكوردية في منزله الجميل في قريته القريبة من قضاء دربنديخان ، ذلك المنزل الانيق الذي كان الملك غازي والوصي عبدالاله وفيصل الثاني يزورنه كلما توجهوا الى تلك المنطقة الجميلة للصيد ولا زالت صورهم مع الحاج محمود هاروني معلقة في صالة المنزل ، فقد تم اللقاء بعد توجيه الدعوة الى مجموعة من الفنانين والادباء والكتاب وبعض رؤوساء الجاف لزيارة القرية أذكر منهم الاصدقاء كل من القاص والصحفي مصطفى صالح كريم والمخرج كامران رؤوف والمخرج جهاد دلباك والمخرج حسين مصري والممثل القدير علي كريم والقاص محمد توفيق نوري والشاعر ارام اسماعيل وكذلك النائب البرلماني والبيشمركة العتيد بكر الحاج صفر وآخرون ، عند وصولنا القرية تفرقنا جماعات في جولة غير منظمة في امسية ذلك اليوم الربيعي الذي لا يمكن ان انساه ، حيث اصبحت ملاصقا للشهيد شوكت حاجي مشير دون عمد و سابق ترصد فانفردنا عن سرب المتنزهين جانبا وطفق الشهيد يذكر لي اسماء القمم الجبلية التي ترنو امامنا في الجانب الآخر من نهر سيروان القريب منا ، وبعد شرح مستفيض لكل قمة ووادي في تلك السلسلة الجبلية التي تمتد لتلتقي بجبل شنروي المطل على مدينة حلبجة قاطعته بسؤالي عن منظر مدينة حلبجة في يوم السادس عشر من آذار عام 1988 حيث القصف الكيمياوي الذي اطالها في ذلك اليوم ليخلف خمسة آلاف أنسان شهيد وصعف ذلك العدد من المصابين ، فالتفت الرجل صوب المدينة وسكت للحظة ليسترسل بكلام صادق عما شاهده في ذلك اليوم الرهيب .
فقال : نجح النظام على التستر على جرائمه بحق الشعب الكوردي بأتباعه لسياسة التعتيم الاعلامي على كل ما جرى في الاعوام التي سبقت مجزرة حلبجة ، ولكن هذه الجريمة كشفت الغطاء على وحشية النظام بعد ما قامت ايران بفسح المجال لوسائل الأعلام في العالم ان تدخل المدينة كي تنقل عدسات الكاميرا صورة المدينة في ذلك اليوم وآلاف من الضحايا ملقاة على الطرقات فقدت حياتها جراء السموم التي رشها النظام على المدينة التي كانت تفوح منها رائحة التفاح وذلك لتشجيع الناس على شم المزيد منها ، ليطلع العالم على اكبر جريمة قتل جماعي ( جينوسايد ) اقترفها النظام الشوفيني البعثي في العراق حتى بات الناس يطلقون عليها اسم ( حلبشيما ) تيمنا بمدينة ( هيروشيما ) اليابانية التي تعرضت متزامنة مع زميلتها ( ناكازاكي ) الى ضربهما بالقنبلة الذرية عام 1945 ، قال محدثي الشهيد ، رأيت كل شي في ذلك اليوم بأم عيني ، فقد انتميت الى الثورة الكوردية وانا شاب في مقتبل العمر ورأيت من المصائب ما يطول وصفها ولكن ما شاهدته في حلبجة يفوق التصور ، ثم قال : لم اكن ارغب مقاتلة الجيش العراقي لكن استخدام الانظمة لهذا الجيش اسوء استخدام جعلنا نحاربه ورغم قساوة الجيش مع اهلنا كنا نعتني بالاسرى منهم ونعاملهم احسن معاملة وثم نطلق سراح من يرغب منهم العودة الى ذويهم لان البعض كان يأبى العودة خشية من بطش النظام به وقتله بذنب الجبن ، ولكن اقولها بصراحة بت امقت كل ما يمت الى النظام العراقي بصلة بعد مشاهدتي لفاجعة حلبجة .
حلقت الطائرات على سماء المدينة في صبيحة يوم 16-03- 1988 وكنت ساعتها في محلة السراي بحلبجة فامطرت المدينة بوابل من الصواريخ وقد راح عدد من الآمنين ضحية تلك الرشقة وقد كنا راينا الكثير مثل ذلك القصف والسلاح الكيمياوي لم يكن ضمن حساباتنا إذ لا يعقل أن تضرب حكومة في الدنيا شعبها بالسلاح الكيمياوي ، لم تمض سوى سويعات أخرى على ذلك القصف بالصواريخ حتى لمحنا ثمان طائرات في اعالي السماء سرعان ما هبطت قريبة من اسطح المدينة لتفرز كل ما تحملها من غازات كيمياوية على المدينة والقرى الكائنة في اطرافها ، لتصبح المدينة قبرأ مفتوحا لالاف القتلى ، يوم استثنائي حفر في أعماقي جرحا كبيرا لا يلتئم مناظر النسوة الساقطات وأطفالهن حولها يرقدون ولا زال البعض منهم على قيد الحياة يملئ صراخهم الدنيا ، وقد شاهدت ضمن ماشاهدت من المناظر جثتي عروسين بكامل زيهما وهما يحتضنان بعضهما بعضا وام العروس تنحب وهي تحضنهما بصوت خافت خنون تتمزق لها الاكباد ، ورايت امهات يحملن فلذات أكبادهن والبعض منهن يضحكن كالمجانين والبعض الآخر يتمتمن كلمات غريبة لا تعني شئ ، وقد رايت أيضا جثث لجنود الجيش العراقي قد وقعوا في أسرنا قبل يوم من الضربة وقد فكنا قيدهم وحررناهم لكن الضربة طالتهم فاختلطت جثثهم بجثث سكان المدينة ، وكما شاهدت جثة صديقي الشهيد محمد حمه صالح وابرة الامبولين بيده ما يعني انه كان يهم زرقها في فخذه أثناء الضربة ولكن الموت كان اسرع من بلوغ الامبولين مع الاسف .
لم تكتف الطائرات بقصف مركز القضاء كما قال الشاهد الشهيد بل لحقتها طائرات عمودية اخرى لتقصف النواحي والقرى الاخرى بالكيمياوي وقد شاهدت كل تلك المناطق في طريق عودتي للعلاج في قصبات سيروان وخورمال ومناطق أخرى في منطقتي شهرزور و هورامان وكان تاثير الغازات قوية ونفاذة حيث اذكر اننا أخلينا ( 18 ) مصابا من ناحية سيروان فمات منهم اربعة لحين وصولنا الى قصبة خورمال والمسافة بين القصبتين لا تعدو بضعة كيلومترات ، في خورمال شاهدت طفلا رضيعا في مهده قد لاقى حتفه
يبدو لناظره كملاك غارق في نومة عميقة فقمت بتصويره بعدسة كاميرتي وكتبت على قطعة معدنية مقطع من آية قرانية ( باي ذنب قتلت ) ووضعتها على صدره الجميل المتوقف عن نبض الحياة ، ومن المناظر التي استوقفتني كثيرا منظر بعض السكان المصابون وهم يساعدون مصابا آخرا أصيب بالعمى الكامل نتيجة للغاز الكيمياوي وأخبروني إنه ظابط عراقي سبق وان وقع في اسر البيشمركة ، حينها قلت ما اعظم الكورد وهم يميلون الى فعل الخير حتى مع من يهاجمهم لغرض قتلهم .
في 19 / 3 أي بعد مرور اربعة أيام على الضربة الكيمياوية وافقت سلطات الجمهورية الاسلامية الايرانية على فتح حدودها امام مبعوثي القنوات الاعلامية الايرانية والعالمية فوصلوا الى المدينة لكن أحد منهم لم يجد من يقابلوه سوى أكوام من الجثث وألاف من ذويهم حضروا للتعرف عليهم وثم دفنهم في مقبرة خاصة أصبحت فيما بعد مقبرة للشهداء و متحفا للمدينة .
ومن طريف ما اذكر والكلام لم يزل للشهيد شوكت حاجي مشير ان مجلس الامن الدولي قد أصدر قراره المرقم ( 598 ) في حينه يقضي بإيقاف العمليات الحربية بين إيران والعراق وقد أستبشر الناس في البلدين بذلك القرار خيرا لانه ينجهم من دمار حرب دامت ثمان سنوات وخلفت أكثر من مليون ضحية ، لكنني حينما زرت محلة الباشا في يوم القصف المشؤوم وجدت دارا قد نسفت بالكامل ولم يبق منها سوى الباب الرئيسي المثبت عليه رقم الدار ووجدت الرقم هو نفس الرقم الذي يحمله قرار مجلس الامن ، فقمت بتصوير المنزل المهدم بما فيه الباب الحامل لرقم القرار .
مدينة الشعراء
حلبجة مدينة تقترن باسم شخصيات لعبت ادوارا مهمة في شتى المجالات ، فقد كانت عاصمة لشهرزور ومعقلا لرؤساء بيكزادة الجاف وقد كانت شبه امارة مستقلة يديرونها من قبلهم ، وابرزهم الامير عثمان باشا جاف والاميرة عادلة خانم التي كانت مثالا رائعا للمرأة الكوردية التي كانت في موقع صنع القرار في المجتمع الكوردي ونجليها الشاعرين الكبيرين طاهر بيك جاف واحمد مختار جاف ، والى جانب الامراء هؤلاء برز في حلبجة مجدد الشعر الكوردي عبدالله كوران وهو الاكثر شهرة من بين شعراء الكورد والشاعر اليساري المعروف قانع الذي اصبح ديوانه الشعري ساريا على السنة العامة في كوردستان وقد عاش فيها ردها معاصرنا الشاعر الكبير شيركو بيكه س وتغنى بها وهكذا مع والده الكبير فائق بيكه س وقد حدثني الدكتور لطيف رشيد وزير الموارد المائية في مدينة لوزان السويسرية انه نشأ وترعرع فيها ويعتبرها موطن ذكريات طفولته ولم تعطيه أية مدينة في العالم ما منحه حلبجة من طيب الاقامة .
منبع الثورات
كانت المدينة دوما مرتعا لفكر الكوردايتي وينبوعا لتفجير الثورات المطالبة بحق الكورد في العيش الحر الكريم اسوة بشعوب الارض ، ففي عشرينات القرن المنصرم تعرضت قرية عبابيلي ( تصريف كوردي لاسم ابو عبيدالله الجراح الذي اقام فيها عند الفتح الاسلامي للمنطقة ) الى قصف مركز لطائرات القوة الجوية الملكية البريطانية حينما اتخذت معقلا للثوار ، واثناء العهد الملكي في العراق أيضا لم تكن المدينة آمنة لبروز الحركات القومية واليسارية فيها وفي العهد الجمهوري عاشت المدينة غالبا تحت الاحكام العرفية ولم تسلم من شوفينية الزعيم ( العميد ) صديق الذي يحمل سمعة قذرة لدى ابناء جيله في عموم محافظة السليمانية كونه قاد التشكيلات العسكرية التي كانت بعهدته الى قمع الاحرار وحرق الاخضر واليابس في عام 1963 وفي عام 1974 وبعد استئناف القتال بين النظام العراقي والثورة الكوردية بقيادة المرحوم مصطفى بارزاني تعرضت المدينة الى قصف جوي وحشي بقنابل النابالم الحارقة المحرم استخدامها دوليا والصواريخ العملاقة وقد كنت أثنائها في حلبجة التي سقط فيها 49 شهيدا وعددا كبيرا من الجرحى وما خلف القصف من تدمير كبير في مرفقاتها وبيوتها وكثيرا ما كنا نشاهد الاثر الذي خلفه احد الصواريخ في دار الاستراحة والحديقة العامة للمدينة حيث كانت الحفرة التي خلفها الصاروخ عدة أمتار عمقا .
بعد اتفاقية الجزائر الموؤدة التي أودت بثورة كوردستان لم تستلم هذه المدينة ففتحت صدرها للثوار ان يبنوا نواة الثورة التي تلت ثورة ايلول وكانت امتدادا لها وكان لابنائها القدح المعلى لتشكيل المفرزة الاولى في قاطع شهرزور ومنهم الشهيد الاول للثورة الشهيد شيخ فاتح الذي استشهد في تشابك المفرزة مع سرية من الجيش في قرية صغيرة اشترك فيه الشهيد شوكت حاجي رشيد وحامد حاجي غالي ايضا ، وفي غضون السنوات التي تلت اندلاع الثورة الجديدة ظاقت السلطات الحكومية ذرعا ازاء اصرار ابناء حلبجة التي خرجت في مظاهرات تصدت الاجهزة القمعية رغم وحشية هذه الاجهزة في قمعها لمثل تلك المظاهرات ونذكر منها مظاهرات عام 1977 وعام 1979 وعام 1982 والتظاهرة المشهورة في 13 - 5 - 1987 التي تم قمعا بواسطة الطائرات السمتية التي استخدمت الرشاشات و الصوارخ لتخلف عدد من الشهداء وعدد آخر من المصابين تم زرقهم بأبر مسمومة قاتلة بعد نقلهم الى المستشفى ليدفنوا جميعا في قبر جماعي سري لم يكشف لحد الآن .
سكان المدينة
قضاء حلبجة تبعها عدد من النواحي مثل ( سيروان وخورمال و بيارة ووشهرزور ) مع ( 215 ) قرية من أعمال تلك النواحي ، تعداد سكانها في عام 1977 بلغ ( 91939 ) نسمة ويذكر ان عدد قرى القضاء تقلص الى ( 18 ) قرية فقط بعد ما قام النظام بهدم القرى الاخرى كونها واقعة على الشريط الحدودي العراقي الايراني وكان ذلك إجراء تعسفي قام به بغية القضاء على الحياة في سمك عشرة أميال في الخط الحدودي الذي يربط العراق بأيران في عموم كوردستان وفيما بعد وأثناء عمليات الانفال تم تدمير المنطقة برمتها ومن ضمنها مدينة حلبجة ، الا ان المنطقة ازدهرت ثانية بعد ما طرد النظام من نصف كوردستان واصبح تعداد القضاء بعد اعادة بنائها ( 119459 ) نسمة يقطنون في ( 18979 ) دارا تسكن فيها ( 19110 ) عائلة .
محلات حلبجة
تنقسم حلبجة على مجموعة من المحلات ( احياء ) وهي محلات ( باشا _ باسم عثمان باشا الجاف _ والسراي وبير محمد ووكاني قولكة ) واحياء صغيرة اخرى ، في التعداد السكاني ( عام 1987 ) الذي سبق ضربها بالسلاح الكيمياوي وثم دكها وتدميرها كان عدد دورها ( 6008 ) من ضمنها ( 5506 ) دارا سكنية والبقية كانت مرفقات ودوائر حكومية ، عدد سكانها ( 37031 ) متوزعين على ( 5833 ) عائلة .
اسم المدينة
هنالك روايات عدة عن اصل تسمية حلبجة ، ففريق من الناس يدعي ان اصل التسمية فارسية اطلقها احد سلاطين ايران عندما قدم اليها ووجدها مدينة جميلة تجلب اعجاب الناظر فأطلق عليها اسم ( عجب جا ) أي المكان العجيب فتطورت الكلمتان على ألسنة سكانها الكورد لتصبح كلمة واحدة ( عجبجا .. حلبجة .. هلبجه ) ، أما آخرون يزعمون بان التسمية مستنبطة من فاكهة العنجاص التي يطلق عليها الكورد ( هه لوژه ) والتي تمتاز بساتين المدينة بانتاجها ، وثالث يدعي انها مسنبطة من كلمة ( ألب ) ورابع يقول أنما هي لفظة تصغير لمدينة حلب السورية اطلقها احد الولاة العثمانيين ممن عمل في حلب واليا ثم اصبح واليا على شهرزور وعاصمتها كركوك فزار امراء الجاف لتسوية معضلة حدثت فوجد تشابها بينها وبين مدينة حلب فقال انها حلب المصغرة ( حلب جه ) ، ونحن لسنا بصدد تصديق أو ترجيح أحدى تلك الروايات على آخرها ولكن المدينة ليست من المدن الموغلة في القدم وتاريخ بنائها على شاكلتها الحديثة لا تعدو ثلاثة قرون بأي شكل من الاشكال ، أما الفسحة الملاصقة بجبل شنروي في جهة قريتي عنب وعبابيلي هي المكان التاريخي لمدينة سبقت بناء حلبجة الحالية .[1]