بقلم: أ. د. عماد الدين خليل
منذ اللحظات الأولى لدعوة الإسلام جاءت التأكيدات القرآنية على عالمية هذا الدين وعدم اقتصاره على العرب: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء: 107). {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سورة سبأ: 28).
لقد فتح الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام (رضي الله عنهم) صدورهم لكل المنتمين للدين الجديد، وتبوأ رجال من أمثال صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي وغيرهم من غير العرب مواقع متقدمة في حركة الدعوة الإسلامية، ولقوا كل ترحيب وتكريم.
ولما قامت حركة الفتوحات وانتشر المسلمون في الأرض، وأصبحت الدولة الإسلامية دولة عالمية، وجد العرب الفاتحون أنفسهم يتعايشون مع شعوب شتى انتمى الكثير منها إلى الإسلام، وظلت شرائح أخرى على أديانها تمارس حقوقها الدينية والمدنية بحرية تامة. فها نحن ذا إزاء ما يمكن تسميته بالأممية الإسلامية التي أكدها القرآن الكريم في الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (سورة الحجرات : 13) أي ليتميز بعضكم عن بعض. وفي الآية الكريمة : {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (سورة هود: 118).
أممية تعترف بالتمايز بين الجماعات والشعوب والأمم، ولكنها تسعى لأن تجمعها في الوقت نفسه على صعيد الإنسانية: (كلكم لآدم وآدم من تراب). وهي محاولة تختلف في أساسها عن الأممية الشيوعية التي سعت - ابتداء - وبحكم قوانين التنظير الصارمة إلى إلغاء التنوّع ومصادرته، وإلى تحقيق وحدة قسرية ما لبثت أن تأكد زيفها وعدم القدرة على تنفيذها تاريخياً، بمجرد إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي (المنحلّ) حتى قبل حركة (البرسترويكا) والرفض المتصاعد الذي جوبهت به الأممية الشيوعية من قبل حشود الأقوام والشعوب التي تنتمي إلى بيئات ثقافية متنوعة ، كما حدثتنا الخبيرة الفرنسية في شؤون الاتحاد السوفياتي في ثمانينيات القرن الماضي: هيلين كارير دانكوس في كتابها (القوميات والدولة السوفياتية)، الأمر الذي كان أحد الأسباب الرئيسية لانهيار التجربة السوفياتية.
اننا بمقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي من تبلور كيانات ثقافية إقليمية متغايرة في إطار وحدة الثقافة الإسلامية وثوابتها وأسسها وأهدافها المشتركة ، يتبين مدى مصداقية المعالجة الإسلامية لهذه الثنائية ، أي ثنائية الوحدة والتنوع ، كواحدة من حشود الثنائيات التي عولجت بنفس القدر من الواقعية في الرؤية والمرونة في العمل.
لقد شهد عالم الإسلام أنشطة معرفية متميزة وثقافات شتى على مستوى الأعراق التي صاغتها عربية وتركية وفارسية وكردية وصينية ومغولية وزنجية وإسبانية ... إلى آخره ، كما شهدت أنماطاً ثقافية على مستوى البيئات والأقاليم: عراقية وشامية ومصرية ومغربية وتركستانية وصينية وهندية وإفريقية وأوربية شرقية وتركية وإسبانية وبحر متوسطية ... الخ ... وكانت كل جماعة ثقافية تمارس نشاطها المعرفي بحرية، وتعبّر من خلاله عن خصائصها، وتؤكد ذاتها، ولكن في إطار الأسس والثوابت الإسلامية: بدءً من قضية اللغة والأدب، وانتهاء بالعادات والتقاليد، مروراً بصيغ النشاط الفكري والثقافي بأنماطه المختلفة. ولم يقل أحد إن هذا خروج عن مطالب الإسلام التوحيدية ، كما أن أحداً لم يسع إلى مصادرة حرية التغاير هذه. وفي المقابل فإن أياً من هذه المتغيرات لم تتحول إلاّ في حالات شاذة إلى أداة مضادة لهدم التوجهات الوحدوية الأساسية لهذا الدين.
إننا إذا استعرضنا في الذهن منظومة الكيانات السياسية في التاريخ الإسلامي، أو ما أطلق عليه اسم (الدويلات الإسلامية) التي تجاوزت في عددها العشرات، فانا سنجد من وراء التنوّع السياسي أو بموازاته، تغايراً في التعبير الثقافي، ولكن في دائرة الإسلام، وسنجد كذلك حماساً لم يفتر عما كان عليه أيام وحدة الدولة الإسلامية، لتحقيق المزيد من المكاسب لهذا الدين وعالمه: نشراً للإسلام في بيئات جديدة، وجهاداً للكفار فيما وراء الحدود، وتوسيعاً للسلطة الإسلامية فيما وراء الثغور، وتعزيزاً وإغناء للقيم الحضارية الإسلامية التي تلتقي على المبدأ الواحد والمصير المشترك. أي باختصار، وكما أطلق عليها المستشرق المعروف فون غرونباوم في كتاب أشرف على تحريره بالعنوان نفسه: (حضارة الوحدة والتنوّع).
كل الشعوب التي انضوت تحت الدول الإسلامية منحت فرصتها للتحقق والتعبير عن الذات، وبقي المجال مفتوحاً، حتى للعبيد والمماليك، كي يشكلوا دولاً، ولغير المسلمين أن يتمتعوا بحقوقهم الدينية والمدنية كاملة، وأن يتبوؤا مواقع متقدمة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية... لقد انطوى عالم الإسلام على كل أشكال التعددية العرقية والدينية واللونية والمذهبية والطبقية.
[2]
وهكذا وجد الكرد أنفسهم، وصنعوا تاريخهم، في ظلال العصر الإسلامي، ونفذوا مشاركة فاعلة في مصائر الأمة الإسلامية في السلم والحرب... في الحضارة والسياسة معاً. وقدّر لهم في دائرة أممية مرنة منحت الفرص المفتوحة لجميع الأقوام والشعوب، أن ينشئوا عشرات الدول والإمارات والكيانات السياسية. ويكفي أن نرجع إلى مصنفات المؤرخ الكردي المعروف (محمد أمين زكي) أو إلى مصنفات كل من المستشرق المعروف (زامباور)
(معجم الأنساب والأسرات الحاكمة) وستانلي لين بول (الإمارات المحمدية) وبوزورث (Islamic Dynasties) لكي نرى بأم أعيننا منظومة الدول والإمارات التي أقامها الكرد عبر التاريخ الإسلامي، والتي غطت مساحات واسعة من الزمان والمكان، ومارست دوراً مؤثراً وفاعلاً في مجرياتهما ومصائرهما.
ولنرجع إلى البدايات الأولى... إلى (جابان) الكردي الذي اجتاز المسافات الطوال لكي يلتقي برسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة ويعلن إسلامه، فيكون أول سفير للشعب الكردي إلى دولة الإسلام، والنبتة الأولى التي ما لبثت أن نمت وازدهت في جبال كردستان وسهوبها ومدنها وقراها لكي تعجب الزراع وتغيظ بهم الكفار... إن رحلة (جابان) (رضي الله عنه) تذكرنا برحلة سلمان الفارسي (رضي الله عنه) بحثاً عن الحق...اجتياز الطريق الطويل للقاء بالرسول القائد (صلى الله عليه وسلم) ومبايعته على الإسلام، فيما يؤكد مرة أخرى ان هذا الدين ما جاء للعرب وحدهم، وانما للناس كافة على تغاير أجناسهم وأقوامهم، وانتشارها في الزمن والمكان.
بعدها قدمت مجموعة من التجار الكرد إلى المدينة المنورة لكي تعلن إسلامها بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فتكون هذه الثلة المباركة، مع الداعية الأول (جابان) نواة الوجود الإسلامي في كردستان، والنبتة التي سيقدر لها أن تنمو وتزدهي وتمتد جذورها في الأرض الطيبة لكي ما يلبث شعب بكامله أن ينتمي بطواعية تامة إلى الإسلام.
وعلى يد (جابان) أسلم (ديلم الكردي) رئيس الحرس الكسروي الذي ما لبث أن تمرّد على عبوديته لكسرى وشارك في القتال ضد الساسانيين مع إخوانه العرب في معركة القادسية، وكأنه رأى بثاقب بصيرته البعد الحقيقي لعمليات الفتح الإسلامي باعتبارها مشروعاً تحريرياً للشعوب من نير الطواغيت الكسروية والقيصرية التي استعبدتها وأذلتها زمناً طويلاً... ها هو الآن يرفض الخضوع للمعادلة الجائرة، يتمرد عليها، ويذهب إلى ساحات الجهاد لكي يشارك إخوانه في إسقاط عروش كسرى وقيصر، وتحرير العباد والبلاد من قبضة الطاغوت.
والذين قاوموا الفاتحين في كردستان هم الساسانيون الذين هيمنوا طويلاً على مقدرات العراق، ومارسوا طبقية جائرة وظلماً اجتماعياً قاسياً... أما الكرد فقد رحبوا بالفاتحين الذين حرّروهم من طغيان الفرس. وكان للسرعة التي فتحت خلالها مدن كردستان، دلالتها المؤكدة، فلقد تمّ فتح المنطقة بأسرها في مدى عشر سنوات فحسب ، أسلم خلالها غالبية الكرد وبشكل سلمي، بعد أن رأوا بأم أعينهم عدل الفاتحين ومساواتهم. ثم ها هم الآن يتوحدون في ظل الإسلام، بعد تمزّقهم منذ سقوط دولة ميديا الكردية ، وتنازع مقدراتهم بين الساسانيين والبيزنطيين.
الطوبوغرافيا المعقدة والصعبة لكردستان، وسهولة فتحها في المقابل دليل حاسم على عدم مقاومة الكرد للفاتحين، ليس هذا فحسب، بل انهم ما لبثوا أن شاركوا الفاتحين في توسيع مجال فتوحاتهم، ومجابهة الهجمات الارتدادية للروم والأرمن والخزر. وليس ثمة أية إشارة بين أيدينا على عصيان كردي ضد الفاتحين .. بل على العكس، فإن الكرد أنفسهم ساعدوا على نشر الإسلام في المنطقة معتمدين لغتهم الكردية، وإلاّ تطلب الأمر زمناً طويلاً.
وثمة ما تجب الإشارة إليه: إن أصالة الكرد، ورجولتهم، وقدرتهم في الوقت نفسه على الاستعصاء والتشبث بمعتقداتهم السابقة، تنهض دليلاً على أنهم اعتنقوا الإسلام اختياراً وليس بالإكراه أو هروباً من دفع الجزية.. لقد كانت البيئة الكردية بحق من أكثر البيئات قبولاً للفاتحين، وللدين الذي جاءوا يبشرون به.
فيما بعد، وعلى مدى القرون التالية؛ أثبت الشعب الكردي والقيادات الكردية التحامهما بالإسلام وبهموم الأمة، وشاركا بفعالية عالية في حماية ثوابت هذا الدين ومؤسساته العقدية والسياسية ضد أية محاولة للتزييف والاختراق، وظلوا مخلصين أوفياء للخلافة الإسلامية في عهودها كافة، محبين للعرب، متعشقين لغتهم وثقافتهم.
فهم من جهة استعصوا على إغواء الشعوبية التي استهوت أقواماً أخرى، وبخاصة الفرس. وليس لدينا في أدبيات الشعوبية وممارساتها الدينية والاجتماعية والسياسية، أية إشارة عن مشاركة الكرد. وهم من جهة أخرى جابهوا وبفعالية عالية خصوم الأمة، سواء من الفرق الضالة، أو الغزاة الخارجين، ووقفوا مراراً إلى جانب الخلافة العباسية الأم في مواجهة أعدائها المتربصين بها من كل مكان.
لقد كانت (أربل)، المدينة الكردية المشهورة، من المدن الإسلامية القليلة التي قالت: لا ، للعنفوان المغولي، وقاومته ببطولة نادرة. أما دور الكرد في مقاومة الغزو الصليبي، وتحرير البلاد والعباد من قبضة الغزاة، فله قصّة متألقة يعرفها الجميع.
فعن طريق الدولة التي تزعمها القائد الكردي المسلم (الناصر صلاح الدين) في مصر والشام، بعد وفاة سلفه المؤسس نور الدين محمود عام 569 ﮪ، قدّر له أن يحقق حلم المسلمين، قيادات وقواعد، وأن يحرّر القدس من قبضة الصليبيين ويعيدها إلى أصحابها الحقيقيين عام 583 ﮪ بعد ثمانية عقود من القهر والاستلاب الصليبي المعروف. وإذا كانوا هم قد ذبحوا لدى دخولهم القدس سبعين ألفا من المسلمين معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال ، فان صلاح الدين لدى دخوله المدينة لم يقتل رجلاً واحداً.
فيما بعد، وعلى مدى القرون التالية، ظل الكرد على إخلاصهم لقضايا الأمة وهمومها، وكانوا أوفياء بحق مع الخلافة العثمانية، أغلب الظن لأنهم رأوا فيها الدولة المجاهدة التي تعكس بصدق الهمّ الإسلامي، فتحقق وحدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتدافع عن مقدراتهم، وتمضي بكلمة الفتح ومشروعه التحريري العالمي إلى العمق الأوربي.
فلما تداعى الغرب الاستعماري الصليبي على هذه الدولة التي بدأت عوامل الضعف تدب في جسدها، وحرّك لتقويضها الأقليات والشعوب غير العثمانية، ظل الكرد على موقفهم المبدئي الثابت والأصيل في تأييد الخلافة ومقاومة خصومها، والانضواء تحت مشروعها المعروف (بالجامعة الإسلامية)، لا بل أنهم كانوا في طليعة الشعوب الإسلامية التي تلقت بحزن عميق واقعة سقوط الخلافة بأيدي الاتحاديين، وقاموا بأكثر من محاولة لاستعادة دورها الفاعل، وتعرّضت قياداتهم، أكثر من أي شعب آخر في ديار الإسلام، للتصفية الجسدية فيما هو معروف.
وبعد تصفية الدولة العثمانية في أعقاب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى 1918 م، لم يأل الكرد جهداً في مقاومة الاستعمار الذي كشف عن نواياه، وافترس معظم ديار الإسلام.
ففي العراق على سبيل المثال حيث اشتعلت ثورة العشرين ضد الإنكليز، كان للكرد دور ملحوظ فيها، وشاركوا إخوانهم العرب في الساحة العراقية بتضييق الخناق على المستعمر الإنكليزي، وإلحاق الخسائر المتتالية به، فيما كان له أبلغ الأثر في مجريات الأحداث التي شهدها العقد الثاني من القرن العشرين.
[3]
حضارياً، وأسوة بسائر الشعوب التي انضوت تحت مظلة الإسلام، ساهم الكرد في بناء الحضارة الإسلامية واغنائها في شتى المجالات العلمية والثقافية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية.
فليس ثمة حلقة من حلقات الإبداع الحضاري الإسلامي، إلاّ وتجد للكرد إسهام فاعل فيه. لقد تحوّلت البيئات الكردستانية في العصور الإسلامية إلى بيئات متحضرة بكل معنى الكلمة.. ولكن دور الكرد الحضاري لم يقتصر على ديارهم، وإنما تعدّاها إلى سائر البيئات الإسلامية من خلال الدول والإمارات التي شكلوها هناك أو عبر الرحلات العلمية التي كان العلماء الكرد ينتقلون خلالها من بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، ناشرين ما في جعبتهم من علم ومعرفة، متزودّين منهما بالمزيد.
فلو رجعنا إلى تاريخ الدول والإمارات الكردية عبر تاريخنا الإسلامي، ولو أضفنا إلى ذلك جولة مدققة في كتب (التراجم) فإننا سنجد رأي العين، المساحة الواسعة التي أشغلها الكرد في نسيج الحضارة الإسلامية، والعدد الكبير والمدهش من العلماء الذين أبدعوا ونبغوا في شتى المعارف والتخصّصات.
في ظلال الإسلام بنى الكرد المدن والعمائر في كل مكان، وشهد نشاطهم الاقتصادي، زراعة وصناعة وتجارة، ازدهاراً ملحوظاً، وتطورت نظمهم الإدارية، وازدادت حياتهم وخبراتهم الاجتماعية خصباً وعطاءً.. هذا إلى ما خرّجته البيئات الكردية من حشود العلماء وفي سائر التخصّصات.
ومن عجب أن نجد كبار المتضلعين في اللغة العربية هم من الكرد، وجهابذة الفقه الإسلامي هم من الكرد أيضاً. لقد كان عشقهم لهذا الدين، ومحاولة سبر غوره، والإلمام بمطالبه، والتمكن من العلوم المساعدة الموصّلة إلى حقائقه وبخاصة اللغة، وراء هذه الظاهرة الحاضرة حتى في اللحظات الراهنة متمثلة بأساطين الأكاديميين المنتشرين في الجامعات العراقية والعربية والإسلامية، والذين بلغوا شأواً بعيداً في الدراسات اللغوية والفقهية، فضلاً عن التخصصات الأخرى.
لقد كانت كردستان في ظلال العصور الإسلامية منجماً للعلماء والفقهاء والقضاة والأدباء، وظلت ولا تزال ترفد العالم الإسلامي والفكر الإسلامي بكبار الدعاة والأدباء والمفكرين. ويكفي أن نتذكر على مستوى العالم الإسلامي المعاصر بديع الزمان سعيد النورسي مؤلف الرسائل الشهيرة المائة والثلاثين، ومؤسس كبرى الحركات الإسلامية في الساحة التركية، وأحمد شوقي أمير الشعراء، والعقاد عملاق الأدب والفكر، اللذين ينحدران من أصول كردية، ومحمد سعيد رمضان البوطي، المفكر والفقيه الكبير. كما يكفي أن نتذكر على مستوى العراق شيوخاً وأكاديميين كباراً في مجال اللغة والفقه كالزلمي ومحمد رمضان والمدّرس وأمجد الزهاوي والقره داغي والبنجويني ومحمد النقشبندي، وغيرهم كثير... يكفي أن نتذكر هذا وذاك لكي يتأكد لنا الدور الكبير الذي يحتله الكرد في نسيج الحضارة الإسلامية ودفقها المبدع.
فإذا ما عدنا إلى الوراء، باتجاه العصور الإسلامية السابقة، فانا سنجد حشداً آخر من علماء الكرد الكبار وأدبائهم، كانت لهم أعظم الأدوار في إغناء الحضارة الإسلامية في مجالاتها ومعارفها كافة، ويكفي أن نتذكر أبناء الأثير الثلاثة (عز الدين ومجد الدين وضياء الدين) الذين تألّق أولهم في التاريخ، وثانيهم في الفقه، وثالثهم في الأدب. و(آل الشهرزوري) الذين تألقوا في القضاء وتسنموا مناصبه العليا في العديد من البلدان. وابن خلكان والأربيلي المؤرخين.. وحشوداً أخرى لا تعد ولا تحصى يمكن لأي باحث أن يضع يديه عليها وهو يجوس في كتب التراجم التي لا تبخل علينا بإضاءة حياة أولئك الأفذاذ الذين محضوا حياتهم للعلم والمعرفة، وإغناء حضارة الإسلام التي انتموا إليها وعشقوها.
حتى ملوك وأمراء وسلاطين الكرد كانوا يتكلمون العربية بطلاقة، ويكتبون بها بتمكن، فهي لغتهم قبل أن تكون لغة العرب، بما أنهم جميعاً أبناء هذا الدين الذي لا يمكن الإلمام بمطالبه إلاّ بالتمكن من اللغة التي تنزل بها كتاب الله، ونسج بمفرداتها فقهه العظيم. حتى لقد صرنا نجد سلطاناً كالناصر صلاح الدين، وغيره كثيرين، يتذوّق الشعر العربي ويترنّم به في المناسبات، فضلاً عن حشود الأدباء الكرد أنفسهم الذين أغنوا المكتبة الشعرية بالمزيد من الدواوين.
لقد كان حضور الكرد على مدى تاريخ الإسلام، وحتى اللحظات الراهنة، حضوراً مؤكداً في المجالين السياسي والحضاري، الأمر الذي أهّل الكرد ليكونوا في طليعة الشعوب الإسلامية خدمة لهذا الدين، وإخلاصاً لثوابته، واعتزازاً بتعاليمه، وإغناء لمعطياته في مجالات الحياة كافة.
وجواباً على السؤال الملّح في جدلية العلاقة بين الكرد والإسلام، وهو: من أعطى من؟ نجد كيف أن الإسلام عقيدة وشريعة وثقافة وحضارة، في نهاية الأمر، قدم للكرد الكثير الكثير، وكيف أن هؤلاء كانوا بدورهم أوفياء له، بررة معه، فقدموا له الكثير الكثير.[1]