لم يبقَ لعبود جبر (57 عاماً)، المُنحدر من حي العروبة بمدينة العمارة في محافظة #البصرة# جنوب #العراق#، سوى خيمة لا تتجاوز مساحتها 15 متراً مربعاً، بعد أنّ نزح من “وطنه الثّاني” #سري كانيه#.
وبخنقة ممزوجة بالحسرة يقول الرجل، “لي وطنان وأنا أسكن في خيمة”.
ورغم هذا الوضع ودعوات إخوته المُتكررة له، يأبى الرّجل العودة إلى العراق، إذ يرى أنه يملك في سوريا ذكريات تستحق البقاء.
يتذكر “جبر” جيداً تاريخ وظروف مجيئه إلى سوريا، ولا ينسى قرابة الثلاثين عاماً التي قضاها في سري كانيه التي يملك فيها منزلاً، بات بعد خروجه منه سكناً لآخرين.
بدأ الأمر عام 1990، عندما خرج “جبر” من العراق نحو سوريا، بعد بدء حرب الخليج الثَّانية التي جاءت لإخراج القوات العراقية من الكويت، حيث تشكل لتنفيذ ذلك تحالف دولي مكون من 43 دولة بقيادة أميركا.
وأطلقت الولايات المتحدة على عملية “تحرير الكويت” آنذاك اسم “عاصفة الصّحراء”، بينما تنوعت المسميات بين الدّول التي شاركت فيها.
حينها، لم يكن عمر الرّجل يتجاوز (25 عاماً)، إذ كان يخدم في الجيش العراقي بمنطقة زاخو بالقرب من الحدود العراقية التّركية السّورية.
وفر وقتها برفقة ثلاثة من زملائه إلى سوريا، لكنهم تنقلوا بين أماكن احتجاز عدة من بينها مركز عدرا بريف دمشق، بقوا فيه لمدة ثلاثة أشهر تقريباً، قبل أن تنقلهم الحكومة السورية إلى مخيم الهول الذي كان مخصصاً حينها للاجئين العراقيين.
“لم تكن الحياة سهلة”
وبعد مرور ستة أشهر في مخيم الهول، قرر “جبر” بدء حياة جديدة، فانتقل إلى مدينة الحسكة، ليعمل فيها بعدد من المطاعم وببيع التّبغ والخضار لمدة عامين، وذلك بعد أن استأجر منزلاً برفقة عدد من اللاجئين العراقيين.
لكن “لم تكن الحياة سهلة، فلم أكن أملك مصدر دخل، ولم أكن أجني من عملي سوى مبالغ تكفيني للمأكل والمشرب”.
ولكنها كانت أفضل مما يعانيه الرجل في مخيم واشوكاني، غرب الحسكة، واستحالة عودته إلى منزله في الوقت الحالي.
ويتخوف النّازح من العودة إلى سري كانيه في ظل انعدام الأمان وتفشي عمليات السّرقة والقتل والخطف والنهب.
يقول وقد غزا الشيب شعره: “الحياة في المخيم صعبة، لكن تحمل تقلبات عوامل الطّقس، أفضل من العودة لمكان يعج بالمجرمين، والعيش تحت رحمتهم”.
وبالعودة إلى فترة شبابه وتحديداً عندما كان في الحسكة، تعرف الرّجل على بعض الأشخاص من سري كانيه، وانتقل معهم للعمل فيها كطاهٍ للطعام في عدد من المصانع والمعامل والورشات التي كانت تخرج للحصاد، واستمر على هذا الحال حتى اقترابه من سن ال35، وفق ما يسرده لنورث برس.
وكانت أفضل أيامه في تلك الفترة، عندما التقى بفاطمة الحسين، وهي الآن في عمر ال(44 عاماً) من سري كانيه، فتزوجها، وكوّن لنفسه منزلاً مُتواضعاً في قرية أم الخير جنوبي سري كانيه، وفتح محلاً للبقالة.
ولدى “الحسين” خمس بنات، أكبرهن (10 سنوات)، ويصف معيشته خلال سنواته هناك، ب”الكريمة والمستقرة الخالية من الطّائفية والآمنة”.
بلا حيلة
وكانت هذه الحياة طبيعية حتى عام 2019، فبعد أنّ كان الرّجل في سوريا لاجئاً بات نازحاً، جراء العملية العسكرية التّركية ضد منطقتي سري كانيه وتل أبيض والتي انتهت من العام ذاته بسيطرة القوات التركية وفصائل المعارضة الموالية لها على المنطقتين.
وحينها وجراء اشتداد الهجمات، ترك “جبر” وأسرته ما كانوا يملكونه في سري كانيه وخرجوا دون صورهم إلى قرية العريشة الواقعة جنوبها، آملاً بالعودة إليها بعد أيام.
ولكنه اضطر للخروج من هناك مع اقتراب القوات التركية والفصائل، لتنتهي رحلة نزوحه في خيمة بمخيم واشوكاني.
ويتساءل “جبر” عن سبب إجبارهم على ترك منازلهم التي أفنوا أعمارهم في إنشائها، “ليسكنها غيرهم”، في إشارة إلى خطة التّوطين التي لجأت إليها تركيا إبان سيطرتها على سري كانيه، حيث جلبت عائلات عناصر فصائل المعارضة وأخرى من مناطق سورية أخرى ووطنتهم في منازلهم.
ويضيف: “السّكان لا ذنب لهم في الصّراع الذي حصل”.
ويزيد الرّجل على كلامه، “هم سيسكنون في منازلنا، ونحن نقطن خيمة تفتقر لأبسط مقومات الحياة”، ويحني رأسه قليلاً في إشارة إلى قلة الحيلة وعدم القدرة على تغيير ما فرض عليهم.
“لا بد أن نعود “
ويعتبر الرّجل أنّ سوريا هي “الوطن الثّاني”، لذا فهو يبعد أي فكرة للعودة إلى العراق، آملاً بالعودة إلى سري كانيه، وعودة الهدوء لحياته، “لن نبقى للأبد في المخيمات، لا بد أن نعود يوماً ما”.
ويضيف وهو يتنهد ويستذكر العلاقات التي بناها، “أصبحت أملك أقارب في سوريا أكثر من العراق، لذا قررت البقاء هنا لإكمال حياتي”.
ولعل أكثر ما يقض مضجع العراقي، هو ابتعاد أصدقائه وأقاربه عنه وتفرقهم بعد أن جمعتهم عِشرةُ، ثلاثين عاماً، على “الحلوة والمرة” حسبما يقول، وذلك بسبب تشتتهم ونزوح كل واحد منهم إلى مكان.
ويضيف: “كل ذكرياتنا كانت ممزوجة بحضورهم، فضلاً عن أنّ عائلتي كانت تعيش في هدوء، لكن هنا مستقبل بناتي التعليمي مجهول المعالم”.
وبينما كانت تجلس إلى جانب زوجها وبناتها، تصف الزوجة حياتهم في المخيم ب”المأساوية، ولا سيما مع هبوب الرّياح، وتراكم الأوساخ التي تأتي مع مياه تنظيف الحمامات”.
وبدمعة حاول الرّجل إخفائها يقول بعد أن أنهت زوجته حديثها، “جميعنا هنا نفتقد عزيزاً، من المؤلم أنّ نعيش هكذا حياة”.
إعداد: جيندار عبدالقادر[1]