الإدارة الذاتية والرئاسة المشتركة
هدية يوسف
إن المعاناة التي عاشتها الشعوب تحت نير النظام السلطوي في الشرق الأوسط والعالم موضوع يدور حوله الجدل في يومنا الراهن .
حيث أن الشعوب عانت الويلات وتفاقمت المشاكل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والإدارية وكل نواحي الحياة الأخرى، وما زالت الإنسانية تعيش هذا التفاقم الذي وصل إلى درجة تحول فيها إلى كابوس )فوضى عارمة( كوني. وبما أن الأنظمة السلطوية وثقافاتها أوصلت المجتمعات الإنسانية إلى درجة الاختناق والتقزم والعقم الإداري, وحولت المجتمع الإنساني إلى مجتمع لا يمتلك لا الشخصية ولا الإرادة ولا ممثلين يدافعون عن حقوقه، كما أنها عملت دائماً على إفراغ المجتمع من قيمه وذاكرته، الذاكرة التي كانت يوماً مهداً لولادة الحضارات الإنسانية، لذلك يتوجب علينا حتماً النظر مرة ثانية إلى حياة مجتمعاتنا وإجراء تحليل مصغَّر لشكل النظام الإداري السلطوي ومسيرة المجتمع.
حاولت الكثير من الحركات والثورات الاجتماعية مقاومة ذلك الشكل من الأنظمة بحسب نظريات وأيديولوجيات تحررية ولكن ماذا الذي آلت إليه تلك المقاومة؟ وماذا كان مصير تلك النظريات أو كيف كانت توجهاتها؟ فعلى سبيل المثال تزايد الديكتاتوريات السلطوية أوصل أكثر التجارب التي تدعي الحرية والديمقراطية إلى مستوى الإفلاس مثلما حدث في التجربة السوفيتية كما يقول القائد APO وتتوارى الظاهرة عينها في خلفية الثورات الفاشلة, فحصيلة عجز تلك الثورات عن الانقطاع بأي شكل من الأشكال عن مفهوم الحكم السلطوي هي إما أنها تسلمت السلطة ففسدت وماعت أو أنها دحضت ظاهرة الحكم والإدارة كلياً فانزلقت صوب الفوضوية والفردية لصهر الهزيمة مآلاً لا مفر منه. تنبع القضية الاجتماعية من اعتداء السلطة الهرمية والدولتية على ظاهرة الإدارة, ذلك أنه من دون تعرض الأخيرة للاعتداء ومن دون تحريفها وتشويشها لا يمكن للظواهر الأخرى المذكورة أن تتحقق ولو تحققت فلن تتخلص من أن تكون مؤقتة نظراً لعدم التمكن من مأسسة القمع والاستغلال، بمعنى آخر تتأسس آليات القمع والاستغلال الشاملين على المجتمع بالتناسب طرداً مع مدى تحقق اغتصاب الإدارة و التعدي عليها, و هكذا تختنق جميع الظواهر الاجتماعية في مستنقع القضايا الإشكالية بما يشبه فتح صندوق باندورا.
في المراحل التاريخية التي مرت بها المجتمعات الإنسانية حيث كان النظام السلطوي هو النظام المسيطر على الشعوب منذ أكثر من خمسة آلاف سنة لم يكن هناك سوى الاضطهاد والظلم، إلا أن المجتمع لم يتخلَّ قط عن رغبته في الإدارة الذاتية بل سعى دوماً إلى المطالبة بالإدارة الذاتية في وجه الحكم السلطوي وكان في صراع دائم مع تلك الأنظمة وأصبح بذلك يمثل خطاً للمقاومة ضد الأنظمة السلطوية الفئوية والفردية التي تتحكم بالمجتمعات، ولذلك لم تنتهِ الصراعات في كل مراحل التاريخ، بل أصبحت المقاومة طريق المجتمعات المضطهدة وأصبحت ثقافة حافظت على بقائها حتى وإن لم تستطع التخلص من النظام السلطوي بل أنها في بعض الأحيان أصبحت أداة بيد بعض الشرائح التي نظمت سياساتها على تلك القيم الاجتماعية للمجتمع. لذا نلفت النظر إلى هذه الإرادة غير المنظمة ونعمل على تنظيمها وإحيائها وقيادتها لتكون هذه المرة الطريق إلى حل هذه المشكلة والعقدة الكأداء وبناء المجتمع الواعي لحقيقته التاريخية العادلة المنظمة والمتساوية في الحقوق الإنسانية.
نظام الإدارة الذاتية هو النظام الذي سعت المجتمعات دوماً إلى الوصول إليه ليؤمن للمجتمع حياةً ديمقراطية متساوية وعادلة. وكما هو معروف الإدارة الذاتية هي نوع من النظام التشاركي لجميع الوحدات بمجتمعية معينة بوصفها شبه استقلالية وديمقراطية وتؤمن تمأسسها, ونظام الإدارة الذاتية هو النظام الذي يستطيع المجتمع من خلاله بناء الروابط الاجتماعية بين كل القوميات والاختلافات الموجودة، ويفتح المجال أمامه ليعبر عن نفسه وعن وجوده وإرادته وإزالة الاختلافات والتمييز العنصري والتمييز الجنسي، وتكون إرادة المجتمع هي الأساس في اتخاذ القرارات في كيفية تنظيم وإدارة نفسه، ولا يترك المجال أمام ثقافة السلطة لغزو ذهن المجتمع وذلك بنشره للثقافة الديمقراطية التي تستند إلى مفهوم الأمة الديمقراطية التي تسعى إلى جمع كل الأمم والقوميات والاختلافات في تنظيم اجتماعي متناسق متحاب ويعمل على ترسيخ الحياة الحرة والمساواة وأخوة الشعوب.
اليوم في روج آفاي كردستان استندنا نحن أيضاً إلى مفهوم الأمة الديمقراطية في ترسيخنا لنظام الإدارة الذاتية الديمقراطية والذي تقوم المرأة بلعب الدور الريادي فيه إيماناً منا بقدرته على حل مشاكل المجتمع وتوعيته وتنظيمه على الميراث التاريخي الذي تركته لنا الإنسانية عبر التاريخ، التاريخ الذي بقي ضائعاً من صفحات تاريخ كتب بأيدي الأنظمة السلطوية والديكتاتورية التي عملت دائماً على تحريف حقيقة المجتمع الإنساني وإفراغه من جوهره.
فجوهر الأمة الديمقراطية يستند إلى الحياة الحرة العادلة التي تجتمع فيها كل الألوان، كما يكون بإمكان المرأة و الرجل فيها أن يكونا حرين في الفكر والإرادة وهما يشكلان الحجر الأساسي في بناء الحياة والمجتمع الحر, فحركة حرية المرأة كانت من أهم الخطوات الجادة التي قمنا بإنجازها على مدار أربعين سنة, وهي توازي مرحلة الثورة والبناء, وكما نعلم فإن نجاح الثورة في روج آفا كانت إحدى انتصارات حركة التحرر الكردستانية التي ناضلت لأكثر من أربعين عاماً والتي كانت تسير على هدى قيادة حكيمة وأيديولوجية تصب في مصلحة الشعب الكردي وكل شعوب المنطقة، وكان للمرأة الدور الأساسي في ترسيخها وتوسيعها في كل مكان كما كانت لها مشاركة حكيمة وصائبة في كل مجالاتها. شاركت المرأة في الثورة ووصلت إلى مستوى يحتذى به في المجتمع كما وصلت إلى درجة تستطيع فيها قيادة الثورة بدلاً من المشاركة المحدودة, فالمرأة هنا اجتازت كل الثورات السابقة لثورتنا في مستوى نوعية الاشتراك وأساس مبادئها. لذلك كانت المرأة في نظامنا الجديد هي الأساس الذي يشارك بفعالية وهي التي تدير وتقود المجتمع والثورة بعد إثبات وجودها الفعال والأساسي, وبذلك اكتسبت الأهمية الكبرى والحياتية في إنجاح ثورتنا خاصة وأنها تمثل جوهر الحياة الحرة والمجتمع الديمقراطي.
فاختيارنا لنظام الإدارة الذاتية كحل أمثل في روج آفا سيكون الطريق الأنسب لحل الأزمة السورية خاصة وأزمة الشرق الأوسط عامة, وعلى هذا الأساس نعمل على تطوير البنية التحتية التي تناسب فكرة ومفهوم الأمة الديمقراطية والتي يكون للمرأة الدور الأساسي فيها، وعلى هذا الأساس قمنا بترسيخ دورها وضمان حقوقها قانونياً كتشكيل هيئة خاصة بالمرأة ضمن جسم الإدارة لتهتم بشؤون المرأة وتعمل على تفعيل دورها، إلى جانب إصدار مرسوم قانوني يضمن ويحفظ حقوقها من كل النواحي وخاصة من الناحية الإدارية, فنسبة انضمام الجنسين هي 40 % إلى جانب حقها في الرئاسة المشتركة في كل جسم الإدارة الذاتية الديمقراطية كمبدأ وشرط أساسي في إدارة المجتمع. فالرئاسة المشتركة كمصطلح تعني مشاركة المرأة للرجل في إدارة المجتمع بما يناسب المساواة الحقوقية والعدالة الاجتماعية، وهي بذلك تؤمن للمرأة قيادة المجتمع في مركز القرار ورفض كل أنواع التمييز العنصري والجنسوي. كما أنها في الوقت نفسه تساهم في رفع وتيرة الصراع ضد التمييز الجنسوي والطبقي الذي كان يمنع المرأة من إدارة المجتمع، خاصة وأن التمييز بين الجنسين كان بداية النظام السلطوي القمعي وكان التمييز الطبقي السبب الأساسي في تدهور المجتمعات واختلال التوازنات بين قوانين الطبيعة وأساساً للاضطهاد. بذلك يتم كسر هذه القاعدة ويتوجه الشكل الإداري نحو المساواة والعدالة والحكم الصائب بمشاركة المرأة، أكثر الفئات التي تفهم لغة الطبيعة والإنسان ونكون بذلك قد بدأنا بوضع الأساس الصحيح للوصول إلى أكثر أشكال الحياة ديمقراطية ونكون قد أثبتنا صحة نهجنا وأسلوبنا في بناء الإدارة الاجتماعية التي تستند إلى قوة الجنسين في قيادة المجتمع.
مصطلح الرئاسة المشتركة من المصطلاحات الجديدة التي أبدعها قائد الشعب الكردي القائد عبدالله أوجلان والذي يضمن به حق المرأة في قيادة وبناء المجتمع الديمقراطي الجديد، والذي يمثل مبدأ أساسياً للأمة الديمقراطية. وباعتبار المرأة من أكثر الفئات التي تم اضطهادها فيحق لها أن تكون من أولى الفئات التي تحرر نفسها وتحرر مجتمعها. فللمرأة الحق في لعب الدور الفعال في ترسيخ نظام الإدارة الذاتية وذلك من خلال روح المسؤولية الكبيرة في إنشاء هذا النظام الذي يستند إلى الحرية والمساواة الحقوقية، كما أنها تحافظ وتحمي وتبني النظام بطابع بعيد عن ذهنية السلطة وطابع الجنس الواحد تماشياً مع توعية ذاتها على ثقافة المرأة الحرة والمجتمع الحر.
أصبحت المرأة تمثل منبع معنويات للمجتمع الذي يثق بنفسه من جديد، المجتمع الذي بات يرى كيف أن المرأة تقوم بقيادة الجبهات الأمامية للدفاع عن المجتمع وحماية قيمه، كما أنها تنظم وتوعي المجتمع وتديره، وتلعب الدور الإداري في كل المجالات الإدارية والخدماتية والحقوقية والمدنية والإعلامية والثقافية والتربوية ……… الخ وبذلك أصبح لها الدور المميز في نظام الإدارة الذاتية الديمقراطية، ففعّلت حركة المجتمع بشكل ملحوظ وكبير، كما أنها بدروها هذا تشكل ذروة الصراع ضد الذهنية السلطوية في جسم الإدارة ،لأن المرأة بطبيعتها بعيدة عن السلطة والتسلط وهي أكثر عدالة من الرجل وثقافته السلطوية باستثناء الذين أحدثوا التغيير أو دخلوا مرحلة التغيير واستيعاب مفهوم الأمة الديمقراطية والمجتمع الديمقراطي وحرية المرأة والمجتمع. وهذا لا يعني إقصاء الرجل وعدم الاعتراف بدوره بل إنه سيؤدي إلى تحرير الرجل أيضاً من ذهنيته التي تقزم المجتمع وتنهيه وستفعل دور الرجل الحر في البناء الجديد.
طبعاً عند تقييم هذا الدور الذي تلعبه المرأة لاننسى دور الرجل أيضاً ولكن المرأة تمثل العمود الفقري الأساسي لمشروع الأمة الديمقراطية والمجتمع الديمقراطي الحر، لذلك فدور المرأة ومشاركتها بهذه الفاعلية هي ضمان المستقبل الحر.
لاننسى أنه مازال هناك خطر كبير أمام مشروعنا في حال عدم التخلص من ذهنية السلطة وثقافتها في الجنسين، فلا يمكن الوصول إلى مجتمع ديمقراطي إذا لم نصل إلى الفرد الحر وخاصة المرأة الحرة لأنها الأساس الذي سيتوجه إلى رؤية كل فئات المجتمع ويعترف بحقوقهم، كما أنه نظام إداري يستند إلى إرادة المجتمع والمرأة التي تشكل صمام الأمان فيه، كما أن المرأة والشبيبة هما القوة الديناميكية المحركة والمسرعة للمجتمع. هذه التجربة صعبة بكل تأكيد، خاصة وأن المجتمع كان يفقد إرادته الاجتماعية في خضم الأنظمة المتسلطة وذهنيتها ولذلك ستتم معايشة صعوبات جمة حتى نتوصل إلى الشعب الذي يمارس إرادته الديمقراطية التامة والمباشرة، لذا يتوجب علينا الانتباه إلى مدى صعوبة الصراع الموجود بين القوى. تجربة مشاركة المرأة في الإدارة والسياسة وكل النواحي الأخرى بهذه الدرجة لهو مثال نادر من نوعه وهذا بدوره سيخرج المجتمع من قوقعته ويحميه لذلك فهي تمثل ذروة الصراع من جهة ومن جهة أخرى تلعب دورا أساسياً في مشاركة الرجل في اتخاذ القرار ورسم خارطة الطريق للوصول إلى الحياة الحرة والديمقراطية وبهذه الشراكة نستطيع ضمان حقوق المرأة بشكل كامل في إحلال التوافق وحل جميع مشاكل المجتمع.
فوجود المرأة في مركز القرار يظهر مدى نوعية هذه التجربة وصوابها. إلى جانب أننا نعيد عهود التاريخ التي محيت من ذاكرة التاريخ كالعهد النيوليتي الذي كان أكثر الأنظمة ديمقراطية وأكثرها عدالة وإنسانية. وقيادة المرأة ستكون بداية تاريخ جديد يتسم بالحرية والمساواة والعدالة وهكذا نستطيع القول إننا سنضمن مستقبل المجتمع الديمقراطي الذي يستند إلى حرية المرأة.[1]