=KTML_Bold=سياسة التغيير الديمغرافي وتمكين التسلط=KTML_End=
خضر الجاسم
ما أشبه اليوم بالأمس، وكأن التاريخ يعيد حوادثه إنما بصور مختلفة، فالتغيير الديموغرافي هو أهم التحديات التي تتكرر في العقد الحالي، مع حوادث أخرى مشابهة جرت منذ أكثر من قرن في سوريا وتركيا. فالتغيير الديموغرافي في الوقت الحالي بات لهاتين الدولتين؛ كأداة لفرض سياستهما وأجندتهما التعسفية على الشعوب المقهورة والمضطهدة. وفي الواقع إذا كان هناك ثمة أدوات استبدادية تفرض على إرادة الشعوب، فمن البديهي أن يتبادر إلى الأذهان هذا المفهوم. فكيف ارتبط التغيير الديموغرافي في السياق التاريخي بهاتين الدولتين، ولِمَ تلجآن إليه الآن؟
وبالمستطاع توضيح التغيير الديموغرافي لكلا النظامين في المنطقة بالعودة إلى السياق البنيوي التاريخي. فصعود جمعية الاتحاد والترقي عمل على تأطير تفوق العنصر التركي، بينما باقي القوميات تعرضت للتتريك أسلوباً ومنهجاً على مستوى النخب، ثم على مستوى رسمي بعد انقلاب على السلطان عبد الحميد، وكان ذلك بمثابة إذن بتنفيذ سياسة التتريك قولاً وفعلاً. وفي الواقع كانت كل سياسات هذا الجمعية تقضي بصهر الشعوب وبالأخص الشعب الكردي في بوتقة الهوية التركية، فالتغيير الديموغرافي بدأ مع اللحظة الأولى التي نكث فيها العثمانيون وعودهم بوطن للكرد. حتى الوفاء بتعهداتهم فيما يتعلق بتطبيق معاهدة سيفر، والتي تتضمن البندين 62 و64 المتعلقين بإنشاء وطن مستقل كان عبارة عن خدعة للسيطرة على الجغرافية الكردية، وإلا لما كان هناك وعد قطعوه على أنفسهم بالأساس، وكل ما جاء في معاهدة سيفر ليس سوى مقدمة لتنفيذ التغيير الديموغرافي ريثما تحين الفرصة الملائمة أو ربما حتى يتخلصوا من الضغوط العسكرية التي عاشوها في ذلك الوقت ضمن صراع الجمعية على السلطة آنذاك، أو لأن الدولة العثمانية بانتظار ما تسفر عنه نتائج الحرب العالمية الأولى أيضاً. ومهما يكن، فمخطط التغيير الديموغرافي كان جاهزاً على دكة الطاولة تحت مسمى «إصلاح الشرق»، وهو مشروع استيطاني مؤلف من 27 مادة.
وبالإمكان توضيح ماذا يعني مشروع “إصلاح الشرق” من خلال التعريف الذي ذكره المفكر عبد الله أوجلان بقوله ...حظرت كل التسميات وشتى أنواع الإرث الزخم المعني بالكرد وكردستان والكردياتية؛ اعتباراً من مؤامرة التركياتية البيضاء عام 1925، على حين غرة وبأساليب وحشية فظيعة وهذه الضربة ألحقت ضربة كبيرة بالكرد مع بروز خطة إصلاح الشرق ساد التطلع إلى محو الواقع الكردي من صفحات التاريخ كلياً، واعتبار وطنهم غير موجود...، وعلى ضوء ما ذكر حتى الآن، سيكون هذا المشروع بمثابة حرب معلنة على الكرد بكل المجالات. وعليّ التشديد بأن هذا المشروع هو حلقة ضيقة لجعل الكرد جسداً بلا هوية أو انتماء. وما يجب توضيحه في هذا المنوال، هو أن التغيير الديموغرافي يقوم وفق شعار أفن وأزل. ويمكّن هذا الشعار من سحق الكرد حتى لا تقوم لهم قائمة، ويكون الكرد بلا وطن. تشير المواد 13، 14، 15، 16 و17 من الخطة، إلى مصطلحي الصهر والانحلال. وبمعنى أدق للخطة، تحويل الإرث المعنوي والمادي الخاص بالكرد إلى هوية تركية الأصل. وبالطبع يشمل التغيير الديموغرافي؛ الثقافة الكردية من فنون وأدب وتاريخ...إلخ.
على الإطلاق، لا جديد في التاريخ التركي طالما أن سياستها تطبخ على نار هادئة، وعلى المتذوقين قبول المذاق، سواء رضوا أم أبوا ومن كل بد ليس هناك خيار آخر. فالرئيس التركي أردوغان، يوظف الآن الأدوات القديمة نفسها في خدمة ذات الغرض القديم ولنفس السبب أيضاً وهو سحق الكرد. وعلى ما يبدو أن أردوغان أخطر على الكرد من الرؤساء الأتراك السابقين لسبب واحد أنه يحاول قتل الحركة الكردستانية بأي شكل كان. وعلى الرغم من احتلال الدولة التركية لمناطق مثل مدينة عفرين المحتلة عام 2018 ومناطق كري سبي وسري كانيه عام 2019، إلا أن الكرد أدركوا أن لا شيء يحدث بدون خسائر. فأردوغان أطلق أكثر من مرة على وسائل الإعلام، إنشاء مناطق آمنة بحجج واهية، ولا تنطلي سذاجتها على أحد. في المقابل بات الكرد أقوى من ذي قبل وقرأوا اللعبة جيداً واستطاعوا إحباط العديد من المؤامرات المؤدية إلى التغيير الديموغرافي. وفي سابقة جديدة يمثل أردوغان دورين، فتارة يريد إرسال اللاجئين السوريين إلى مناطقه الآمنة، وتارة يستقبل في ذات المناطق آخرين. ومن الملاحظ أن وتيرة التغيير الديموغرافي تزداد طالما المجتمع الدولي يلتزم الصمت ويغض النظر. فالرأسمالية لا تنكر لتركيا هذا الدور في حين يقدم لها فروض الطاعة والولاء، بملفات أخرى.
أجدد حديثي على تقديمي ثبوتيات عدة للانتهاكات من بينها؛ التغيير الديموغرافي، فقد أورد مركز توثيق الانتهاكات في شمال سوريا؛ التقرير الإحصائي الشهري للانتهاكات في شمال سوريا حتى شهر تموز 2022. ويوثق التقرير تزايد معدلات العنف والجريمة وحوادث الاقتتال بين الجماعات المسلحة الموالية لتركيا...كما وشكل الهجوم التركي على المناطق التي كانت تصنف “مستقرة وآمنة” شرق الفرات، واحتلال مدينتي سري كانيه وكري سبي، وما نتج عنه من مآسٍ إنسانية بنزوح 375 ألف من سكانها، بالإضافة إلى انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم التعذيب والاعتقالات والإعدامات الميدانية والاستيلاء على العقارات والملكيات الخاصة والقصف العشوائي واستخدام أسلحة محرمة دولياً، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات إعدام ميدانية، واستهداف الطواقم الطبية والصحفيين، كل هذا ساهم في تفاقم الأوضاع ودخول المنطقة برمتها في فوضى وتوجه الأمور نحو الفلتان الأمني، وعودة التفجيرات، وحوادث الاغتيال. وفي القول المأثور يقال: إن لم تستحِ فافعل ما شئت، هكذا هم مسؤولو الدولة التركية يمارسون الوقاحة في كل وقت. والأنكى أن البعض منهم لا يبالي إن أظهر ذلك على العلن. فوزيرة الأسرة والخدمات الاجتماعية في تركيا، داريا يانيك، أعلنت: أن بلادها تحارب للقضاء على الوجود الكردي في شمال سوريا، وأن تركيا تعتني بخمسة ملايين سوري ليس من باب التعاطف فقط، ولكن لمنع إقامة دولة كردية في شمال سوريا، واعتبرت كذلك أنه بعد تطهير ذلك المكان، سيعود السوريون إلى منازلهم... وأوضحت أن الآلية لذلك هي إحداث تغيير ديموغرافي في المناطق الكردية.
عليّ القول إن التغيير الديموغرافي لم يكن يوماً مجتزأً أو أجزاء مبتورة، وإنما له تعريف واحد ولا ثاني لهما. فأدوات السلطة واحدة، وإن اختلفت من مكان لآخر، وإن كان ثمة اختلاف ما حينئذ، فبالرقم فقط. في سوريا التغيير الديموغرافي لن يختلف كثيراً عن تركيا بأي شيء، فهما في هذا الأمر سيان. الشيء الوحيد الذي يختلفان فيه هو تأخر تنفيذ الأداة إلى ستينيات القرن المنصرم. وبموضوعية تامة، سوريا قبل أربعين عاماً، هي التي وضعت أول تصور للتغيير الديموغرافي بين عامي 1920-1960، وكانت سوريا نموذجاً للحياة الديمقراطية، وكان للكرد خلال هذه الفترة دور فاعل في كل مؤسسات الدولة السورية وعلى مستويات عليا، بما في ذلك رئاسة البلد، ولا نبالغ إذا قلنا إنها عاشت أفضل أيامها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وإذا كان الأمر على ما هو عليه الحال آنذاك، فرب قائل يسأل، كيف حدث التغيير الديموغرافي في سوريا بصورته الوحشية على الكرد أولاً وعلى السوريين ثانياً؟ إن بروز دعاة الفكر القومي العربي أمثال؛ ساطع الحصري ومحمد عزّة دروزة وقسطنطين زريق وميشال عفلق، وغيرهم، الذين مهدوا الأرضية لظهور التيار القومي العربي. وعقب تحوّل القيادة البعثيّة من المدنيّة إلى العسكرية ما بين عامي 1952-1960، سعوا بعدها إلى تولي مقاليد الحكم. وكان من ضمن السياسات القضاء على كل المناوئين لهم أو يشتبه بخطرهم، كالقضاء على الفكر الإخواني والكرد كشعب. وبالتفصيل، وفي عام 1963؛ وضع رئيس شعبة الأمن السياسي الضابط، محمد طلب الهلال، خطة التغيير الديموغرافي التي تقضي بإنهاء أي دور للكرد في مناطقهم. وعرضت الخطة على المؤتمر القطري لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي عقد آنذاك للمناقشة. وبقيت كذلك ولم ترَ النور إلا بعد عشر سنوات. وفحوى الخطة تضمنت تفصيلات لإجراء تغيير ديموغرافي في الحسكة، وبالأخص في مناطق الكرد ككل. ووفق شعار “فرق تسد” أريدَ للتغيير الديموغرافي في الحسكة أو في الجزيرة السورية عموماً ضرب العلاقات الكردية - العربية المتجذرة في التاريخ، وكذلك تفتيت التوزيع الجغرافي للكرد وألاّ يكونوا في مكان واحد. فالتوزع الجغرافي كان يقلق آنذاك المسؤولين السوريين خشية قيام نزعة قومية كردية متأثرة بحركة مصطفى البارزاني. وهكذا، أصدر النظام السوري، باسم القيادة القطرية لحزب البعث، أمراً في 24 حزيران 1974، يقضي بتطبيق مشروع الحزام العربي. حيث وجد النظام السوري ضالته في خطة التغيير الديموغرافي، بضرب عصفورين بحجر واحد. أولاً إنهاء “المشكلة الكردية” كما تسمى في أدبيات الحزب، وثانياً إعفاء ميزانية الدولة من منح التعويضات المستحقة لأبناء القبائل العربية، ممن غمرت أراضيهم ببحيرة سد الطبقة بعد تهجيرهم عن مناطقهم. أما آلية تطبيق التغيير الديموغرافي فتقضي بتهجير الكرد من الشريط الحدودي من عين ديوار شرقاً إلى رأس العين غرباً، وتشمل الخطة أيضاً تهجير الكرد، خاصة العناصر “الخطرة”، - حسب الخطة - إلى الداخل، بالإضافة إلى اعتبار المنطقة عسكرية لضمان تحقيق مخطط الإبدال بأمان، وإنشاء مزارع جماعية لإسكان العرب، على أن تكون “كالمستعمرات اليهودية على الحدود تماماً” في فلسطين.
ويتعين توضيح أن التغيير الديموغرافي في سوريا، تأطّر على شكل قوانين تشريعية، لكن أياً منها لم يقف مع الكرد يوماً. ويمكن تبيان ذلك بأن قانون الإصلاح الزراعي الناصري الذي أقره مجلس الشعب بعد الوحدة مع مصر، وحمل اسم القانون 161 لعام 1958، حيث قررت المادة 13 منه؛ أفضلية توزيع الأراضي المستولى عليها لأهالي القرية، بشروط لا تنطبق على أكثر الفلاحين الكرد. وعليه جُرّد الكرد من الجنسية بموجب القوانين الصادرة، وبعد إحصاء 1962 الذي حرمهم من الجنسية واعتبار غير المسجلين في القيود المدنية قبل 1945 “أجانب” حتى إثبات أصولهم السورية، وكذلك تضمنت توصيات المؤتمر الثالث لحزب البعث عام 1966 إعادة النظر في ملكية الأراضي الواقعة على الحدود السورية التركية على امتداد 350 كم وبعمق 10 - 15 كم2، واعتبارها ملكاً للدولة، تُطبَّق فيها الاستثمارات الملائمة بما يحقق أمن الدولة. وبناء على ذلك، جرى التغيير الديموغرافي باسم “الحزام الأخضر”، وأنشأت الدولة 40 مزرعة جماعية لإسكان 40 ألفاً من مهجري الرقة فيها، على أراضٍ في ديريك وقامشلو وسري كانيه، تعود لملّاكين كرد، انتزعت منهم دون تعويض، وبامتداد يقارب 200 كم2 وبعمق 10 كم2 ليغطي هذا الحزام، قرابة 2000 كم2. ولا شك أنه أُريدَ بذلك التغيير الديموغرافي عزل كرد سوريا عن باقي الكرد في العراق وتركيا. وبطبيعة الحال، توقف التغيير الديموغرافي بعض الوقت، إلا أنه عاود الرجوع بعد ثلاثة عقود، إثر اندلاع الثورة السورية عام 2011، ونفذته الحكومة السورية؛ كحل لإنهاء الثورة بأي طريقة كانت.
ولا بأس من توضيح هذا، فحي باب عمرو، كان ضمن عدة أحياء شهدت تغييراً ديموغرافياً مع انتقال الحراك الثوري إليها من درعا. ونتيجة تعرض الحي وأحياء أخرى لحملات قصف وتدمير ممنهج، دفعت بأبنائها إلى المغادرة، ثم اجتاحتها قوات الحكومة السورية أوائل عام 2012، وفرضت عليها حصاراً، قبل أن يتم إجلاء المحاصرين منها برعاية أممية عام 2014. ولتقطيع أوصال البنية الديموغرافية في المناطق السورية، أصدرت عشرات القوانين والمراسيم، من بينها المرسوم 66، والقانون 10، وسلسلة من الأحكام القضائية بحق المعارضين لمصادرة أملاكهم، والحجز الاحتياطي على أملاكهم، وقانون السماح بتملك الأجانب في سوريا. وكذلك أُصدر القانون 19، الذي ينص على تأسيس شركات قابضة، والتي تقوم بتملك عقارات في منطقة دمشق. كما أصدر قانوناً عام 2016 لإيقاف تسجيل الحقوق العقارية في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، فضلاً عن مراسيم تسمح بمصادرة ممتلكات المعارضين، وأيضاً قانون تأسيس محاكم الإرهاب، ومنح النائب العام صلاحية الحجز الاحتياطي على أموال المعارضين المحالين بموجب هذا القانون لمحكمة الإرهاب. إن قناعتي تتعزز طردياً بأن التغيير الديموغرافي بات استراتيجية لخلق ما يسمى بالفوضى البناءة. ولا تتوانى الحكومة السورية عن إعادة فرز ترتيب التوزيع السكاني كما تريد هي لا كما يريدونه السكان الأصليون. إن ما يحدث من تغيير ديموغرافي ممنهج هو تأكيد لخطة مسبقة، أعلنها أحد المسؤولين عام 2011 بأنهم يريدون إعادة سكان سوريا إلى 8 ملايين.
وخلاصة القول إن الحرب السورية الجارية الآن، هي أكبر باعث للتغيير الديموغرافي لسوريا. لم يشهد التاريخ المعاصر يوماً تهجيراً وتغييراً ديموغرافياً بهذا الحجم والعنف كما هو عليه الحال الآن. سوريو الداخل يتعرضون لرهاب اجتماعي سياسي من الحكومة السورية والمعارضة بشقيها السياسي والمسلح معاً، بهدف الاستمرار في هرم السلطة. وللأسف ليس هناك خاسر من كل هذا أو ذاك، فقط هم السوريون ولا أحد آخر.[1]