ليس هناك تطهير عرقي كردي ضد العرب
بدرخان علي*
نشرت وسائل إعلام سورية وعربية تقارير وأنباء مكثفة في الأيام الأخيرة عن تطهير عرقي مزعوم ضد العرب والتركمان في تل أبيض. هنا محاولة سريعة لقراءة ما حدث في المدينة، وفي شمال سوريا بشكل عام، ولحقيقة وجود مخطط دويلة كردية في سوريا.
الموجة الأخيرة من النزوح في تل أبيض كانت بمعظمها من العرب والتركمان، هرباً من المعارك التي انطلقت ضد “داعش” التي تحتل المنطقة. وتعد تل أبيض نقطة حيوية هامة جداً للتنظيم حيث المعبر الحدودي مع تركيا- المتورطة في دعم لوجستي على الأقل لتنظيم داعش – وشريان رئيسي لعاصمة “داعش” في الرقة، إذ تقع تل أبيض شمال الرقة حوالي 100 كلم على الحدود التركية مباشرة. ويتكون نسيجها الاجتماعي من الأكراد والعرب والتركمان والأرمن، وتعد نسبة الأكراد في المدينة أكثر من نصف السكان بقليل وفي الريف أقل من ذلك.
الفصائل المشاركة على الأرض بتغطية من طيران التحالف الدولي هي: وحدات حماية الشعب والمرأة – معظم مقاتلوها شباب وشابات أكراد – وفصائل من الجيش الحر من أبناء المنطقة العرب توحّدت مع الوحدات الكردية في إطار “عملية بركان الفرات” التي تشكلت قبل فترة، واشتركت في معركة كوباني- عين العرب ضد داعش. في المعارك الأخيرة في تل أبيض حصل نزوح باتجاه الحدود التركية، وتم اتهام الأكراد بتهجير العرب والتركمان. إلا أن الهروب كان بسبب المعارك بحد ذاتها كما في كل المعارك في سوريا وغيرها، حيث يهرب المدنيون والنساء والأطفال والشيوخ وكل من لا يريد القتال والبقاء. لست على أرض المعركة ولا أستطيع نفي حدوث انتهاكات فردية محدودة إن حصلت، لكن الحديث عن تهجير مقصود غير صحيح على الإطلاق لا بل مغرض. الحقيقة التي لا يرغب البعض بذكرها هنا بخصوص الوضع في تل أبيض هي التالية أنه لم يبقَ أكراد في تل أبيض وريفها حتى ينزحوا في الموجة الأخيرة. لقد هجِّروا ونهبت بيوتهم وأرزاقهم وتشرّدوا في تركيا وغيرها… كما تهجر الأرمن أيضا ودُمِّرت الكنيسة الأرمنية… كانت البداية في تموز 2013، وعلى يد “الأحرار” واستمرت على يد “داعش” إلى أن أفرغت المدينة وريفها من سكانها الأكراد بشكل كبير.
بروباغندا مضادة
وهذه حقيقة مخزية لجميع من تكلّم هذه الأيام بشكل مغرض عن تهجير مقصود للعرب والتركمان على يد الأكراد . وذلك للتغطية على ما جرى سابقاً ضد أكراد المنطقة حين هجروا ونهبت بيوتهم وأرزاقهم وتشردوا في تركيا وغيرها… حتى قبل ظهور “داعش”. وكل هذا الحديث المفتعل مؤخرا عن تهجير الأكراد للعرب في تل أبيض وريفها هو للتغطية على ملف التهجير السابق بحق الأكراد، وتلبية لرغبات حكام تركيا – داعمي الكثير من فصائل المعارضة السورية- المتوتّرين جداً هذه الأيام مع بروز كردي في شمال سوريا، وكذلك انتصار الأكراد انتخابيا في تركيا.
أريد أن أضيف هنا حقائق أخرى قد تخفى على القارئ العربي نتيجة وجود بروباغندا مضادة للأكراد في خطاب بعض وسائل اعلام المعارضة السورية، خصوصا ذات الطابع الاسلامي أو القومي العروبي أو المزيج الاسلامي العروبي أو تلك المدعومة من تركيا وتعمل على قلب الوقائع وتقديمها بشكل مقلوب تماما. قد يستغرب البعض أن أكبر نسبة للنازحين من محافظة الحسكة هم الأكراد، وأن منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية المطلقة شمال حلب بدأ التغيير الديمغرافي يظهر بشكل واضح لصالح العرب، حيث عشرات الآلاف من المواطنين العرب نزحوا من ريف حلب بسبب المعارك على مدار السنوات المنصرمة باتجاه منطقة عفرين، بالمقابل هناك نسبة غير قليلة من السكان الأكراد في عفرين نزحوا إلى تركيا وباتجاه أوروبا، وإلى اليوم ليس هناك احتكاكات بين السكان الأصليين والوافدين لا بسبب قومي ولا غيره . بينما رأى الجميع كيف أن منطقة كوباني – عين العرب وريفها المكون من غالبية كردية ، تم إفراغها بشكل كامل ما عدا بضعة آلاف من المقاتلين وعدد أقل من مؤازريهم في مجالات الاعلام والإغاثة والطبابة والخدمات البسيطة .
كل هذا النزوح الكردي باتجاه الخارج وفراغ مناطق بأكملها من سكانها يجري على قدم وساق ويظل التهديد بما يسمى “تكريد المناطق العربية” في سوريا أو “تهجير العرب” هو الغالب في وسائل إعلام المعارضة ووسائل التواصل الاجتماعي.
بصرف النظر عما طرأ على نبرة الخطاب السياسي والشعبي الكردي من تغيّرات خلال الأزمة السورية، بالترافق مع زيادة الانقسام الاجتماعي – الأهلي في سوريا عموماً وزيادة الشرخ الطائفي في البلد بأكمله، حيث احتداد الهويات الإثنية والطائفية بسبب الحرب وحلقة العنف والعنف المضاد… رغم ذلك فإن الحديث عن دويلة أو دولة كردية في سوريا يبقى في إطار الشعارات والشعارات المضادة . وذلك بسبب عوامل ذاتية التوزع الديمغرافي المنتشر في الشمال السوري والتداخل السكاني والاجتماعي الكبير بين الأكراد والعرب وباقي الإثنيات. صحيح أن هناك مناطق ذات غالبية كردية مطلقة – مثل منطقة عفرين – إلا أنها في جوار عربي بشكل كامل ومنفصلة بشكل شبه تام عن أقرب منطقة كردية لها وهي كوباني-عين العرب… ومنطقة الجزيرة فيها تداخل كبير… ولأسباب أخرى محلية وإقليمية ودولية . أظن ان هذه الحدود المرسومة لن تزول في المدى المنظور . ولست مقتنعاً بأن الغرب يحضّر لتقسيم المنطقة إلى دويلات أو دول .
ليس من أجل مجاملة أحد أو إطلاق شعارات الوحدة الوطنية التي تبيّن كم هي واهية لدينا في الواقع، ولا من أجل طمأنة أحد ، أقول أن ليس هناك رغبة لتنفيذ هكذا مخطط أيضاً . إلا أنه في الوقت عينه بات وجود دولة مركزية في دمشق تلغي الوجود الكردي في السياسة والثقافة والمجتمع غير ممكن أيضاً. قد يكون نموذج الإدارة الذاتية المحلية مقبولاً لجميع سكان المناطق الكردية والمختلطة حتى تتوقف الحرب على الأقل. لا أدري على أي شكل سترسي الدولة السورية الحالية بعد توقف الحرب (وإن كانت ستتوقف الحرب في المدى المنظور!) لكن “الحقيقة الكردية” لم يعد ممكنًا إخفاؤها كما في عهود البعث والاستبداد واللون القومي الواحد. وأرى أن ذلك سيكون تحقيقاً للعدالة أيضاً، وليس انتهازية كردية لظروف الحرب السورية كما بات يقال أيضاً، حيث هناك آلاف الشهداء الأكراد من وحدات الحماية الشعبية والمرأة ضحوا في سبيل عدم وقوع مناطقهم تحت الاحتلال “الداعشي” والفصائل المتشددة الأخرى.
* كاتب سوري
المصدر: جريدة النهار – رأي، 16-06-2015
[1]