أمام جمهور واسع، وباللغة الكردية، ألقى الناقد والباحث خالد جميل محمد مؤخراً محاضرة عن الشاعر الملا أحمد الجزيري، في قاعة فندق كابيتول في مدينة أربيل في إقليم كردستان/العراق، تمكنتُ من متابعتها عبر تقنية البث المباشر المُتاحة في مواقع التواصل الاجتماعي.
لا أخفي دهشتي، وأنا أسمع أسماء شعراء المتصوفة، منطوقة في سياق الحديث باللغة الكردية، لأركّز على الأسماء التي ترنّ على مسامعي: حافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي وجلال الدين الرومي وابن الفارض وابن عربي والحلاج والسهروردي المقتول والنفّري.
أصغيتُ إلى اللغة الكردية الفصحى، التي لا أجيدها، لكنني أتمكن من التقاط المعنى العام للحديث، لأغرق في خطاب نقدي، دقيق وأكاديمي إلى حد ما، لأعرف لاحقاً أن معظم الجمهور كان من أساتذة الجامعة وطلاب الدراسات العليا، بل وجمهور لا يمت للبحث بصلة، لكنه جاء مدفوعاً بشغف الاكتشاف، لسماع المزيد عن ” شاعر الحب والجمال” كما وصفه خالد جميل في كتابه الذي حمل العنوان ذاته، والذي صدر في سورية منذ سنوات طويلة بعنوان: “الجزري، شاعر الحب والجمال”، دون أن يتجاهل الكاتب حقيقة أن ابن الفارض اشتهر بلقب “فيلسوف الحب والجمال” كما اشتهر بلقب “عميد الحب الإلهي في التصوف الإسلامي” ولقب ب”سلطان العاشقين وإمام المحبين”.
يقول السيد جميل في محاضرته التي حصلتُ على ملخص لها باللغة العربية، متحدثاً عن أثر الجزري أو ملايي جزيري: أغنى خطابَه الشعريَّ ذا النفحةِ الصوفيةِ المعهودةِ بإحالاتٍ إلى مراحلَ زمنية إبّان عهده وقَبْلَه، إحالاتٍ تضمَّنتْ إشاراتٍ يمكن القول إنها أنبأتْ بما يحدث في الوقت الراهن أيضاً، كأن التاريخ يُعيد أحداثه من جديد، في ما يخصّ الكُردَ وكُردستان.
يحاول الباحث في محاضرته ذاتها أن يتناول نصوص الشاعر الصوفي القديم، بقراءة جديدة ومختلفة لذاك الخطاب، مع أخذ البعدِ الصوفيِّ والتعبيرِ الرمزيِّ والأسلوبِ البلاغيِّ له في الحسبان، فإن (مَلايِى جزيري)، قبل أكثرَ من أربعِمِئَةِ عامٍ، استناداً إلى قراءة الوقائع التاريخية التي عاصرها أو عرفها، تنبَّأ بكثيرٍ من الأحداث التي جرتْ لاحقاً بعد عصره، حتى أيامِنا هذه، في بدايات القرن الحادي والعشرين، خاصة في ما يتعلق بالمظالم التي لحقت الشعبَ الكُرديَّ، ووطنَه كُردستان، وضَمَّن شِعرَه كثيراً من تلك الإحالات.
أما الفارق بين الجزيري وغيره من شعراء التصوف، حسب رأي الباحث فهو كما ورد في محاضرته: تميَّز (مَلايِى جزيري) عن كثير من الشعراء الصوفيين السابقين عليه، كحافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي وجلال الدين الرومي وابن الفارض وابن عربي والحلاج والسهروردي المقتول والنفّري وغيرهم ممن لم يُضمّنوا غزَلهم الصوفيَّ بمثل تلك الإحالاتِ الصريحةِ أو المُلَمِّحةِ إلى صراعات القوى العظمى كالفرسِ، سلاجقة الروم، العثمانيين، الفرنجةِ، البيزنطيينَ، الهنودِ، المغولِ، التتارِ إضافة إلى ذِكر شخصيات عسكرية كجنكرخان المغوليِّ (1162-1227) في القرنين (12-13) وحفيدِه هولاكو (1217-1265) في القرن (13) وتيمورلنك الأوزبكيِّ (1336-1405) في القرنين (14-15)، وقياصرةِ الرومِ وشاهاتِ الفرسِ وسلاطينِ وخاقاناتِ الترك العثمانيين والتتار، وإلى جانبها مجموعات من المُرتزِقة المأجورين الذين استخدمتهم تلك القوى في الصفوف الأولى من حملاتها العسكرية.
$اللغة الكردية والجمهور العربي/الكردي$
ما أثار دهشتي لاحقاً، وأنا أقرأ تعليقات الحضور على المحاضرة، أن ثمة جمهوراً عربياً، لم يكن يفهم اللغة الكردية، جاء ليستمع إلى البحث الشعري، كما كتب سامر كحل في تعليق له على الفيسبوك: محاضرة قيمة تألقت في ايصالها بحرفيةٍ فريدة وأسلوبية استثنائيتين في تناول وتبسيط عمل ليس من السهل بمكان الخوض فيه والإحاطة بجوانبه وإسقاطاته السياسية والاجتماعية والفكرية.. ناهيك عن الإيحائية في طريقة العرض التي مكنتنا من قراءة وفهم هذا الشاعر الصوفي المناضل والمتنور على الرغم من غربتنا عن لغة الكتاب ولغة المحاضرة.. غير أن ملكة الإيحاء التي تتمتع بها كانت المترجم الوسيط للغة.
يمكن للّغة إذاً أن تكون جسراً معرفياً بين الشعوب، ودور اللغة هنا مهم للغاية، في ردم الهوة التي تتسبب بها السياسات التفريقية بين أبناء المجتمعات الواحدة. وهنا يمكننا فتح حديث مؤلم ومليء بالشجون، يطال أغلب الكتاب الأكراد الذين يكتبون باللغة العربية. كتّاب أبدعوا في هذه اللغة، وتميّزوا بها، لكنهم تعرضوا لنبذ ثقافي، وشعور بالاغتراب واللانتماء، في تحديد “جنسية” الأدب الذي يتناولونه.
إن كاتباً كسليم بركات، الذي يشتغل بدّقة النحات أو الساعاتي، على حروفه وعباراته، لم يحقق المكانة التي يستحقها في الأدب العربي. وبركات لم يحقق مكانته أيضاً في الأدب الكردي، لأنه يكتب باللغة العربية، وهذا شأن عدد كبير من الشعراء السوريين والروائيين إذا اقتصر الكلام هنا على المشهد السوري أمثال جان دوست، هيثم حسين، هوشنك أوسي، مها بكر، عارف حمزة، دلير يوسف، ريبر يوسف، حسين بن حمزة، وغيرهم من أسماء كثيرة، لا يتسع المجال لذكرها.
يقول بركات، في مقابلة متلفزة معه: كانت اللغة العربيَّة من السعة ومن الثراء إلى درجة أستطيع أن أعبّر بها عن كرديتي. ويضيف: حوَّلتُ اللغة العربيَّة معي إلى هويَّة كرديَّة.
أما جان دوست، الذي يكتب باللغتين ويترجم كتاباته من العربية إلى الكردية وبالعكس، فهو يتحدث معبراً عن هذا الاغتراب في حوار معه في أحد المواقع الكردية: الروائي شيركو فتاح مشهور في ألمانيا وهم يعترفون أنه كردي، ولكنهم على العكس من العالم العربي، نجدهم منبهرين به.. للأسف الخلفية القومية أو العروبة القومية تؤثر على وضع الكاتب الكردي الذي لا يجد غير اللغة العربية للتعبير بها. ويقول دوست في حوار آخر: العربية لغتي، وأكاد أقول: “إنها لغتي الأم” فقد تعلمتها باكرا حتى قبل أن أذهب إلى المدرسة في سن السادسة، تعلمتها على يد والدي إمام المسجد الصغير في بلدة كوباني التابعة لحلب.
$التصوف الكردي والاغتراب المعاصر$
بالعودة إلى الشاعر المتصوف الملا أحمد الجزيري، الذي وُلد في جزيرة بوتان سنة 1570، وكانت هذه الإمارة الأكثر تأثيرا في تاريخ الثقافة الكردية، حيث أُنشأت أول مدرسة للشعر الكلاسيكي الكردي، يختم الباحث خالد جميل محاضرته بالقول: إن (مَلايِى جزيري) في خطابه الشِّعري دمج أكثر من مستوى تعبيريٍّ وأسلوبي، دون أن يغفل عن الجانب الفنيّ والجَمالي الذي كان عُمدة ذلك الخطاب الذي يحتاج إلى قراءات بمقدار تلك المستويات التي لا تقتصر على موضوعة واحدة أو اتجاه واحد، بل يكاد يتشعب ويتفرع ما بين البلاغة والتصوف والغزل والإيحاءات والإحالات التاريخية والمجتمعية والنفسية لدى شاعر جمع في قصائده بين اللغات الكُردية، العربية، الفارسية والتركية معاً، كضفائر حسنائه التي ظلَّ يتغنى بجَمالها، وكأنه كان يقصد بهذا الجمع بين تلك اللغات أنْ تُزال الحدود بين الشعوب ويكون التواصلُ والتفاهم هو الغايةَ الساميةَ التي لا بد من نِشدانها، إضافة إلى غايته من ذلك الجمع بين اللغات إظهارُ قدراته التعبيرية والأسلوبية التي يندر أن تكون متوافرة عند آخرين سِواه.
هذا يأخذنا إلى “التصوف الكردي” ويذكّرنا بكتاب إبراهيم محمود “معذبو النور”، الذي تعرض فيه الباحث لثلاثة نماذج هي بابا طاهر الهمداني والملا جزيري وأحمد الخاني، للتدليل على “اللغة كحامل وحاضن للتصوف الكردي” كما ورد في مقال نشره في “ضفة ثالثة”، فيقول: إنّ التصوّف الكرديّ، إذا أجيز ما أثرناه سابقا، قد وجد نفسه في أحضان الآخرين، أو صحبة الآخرين بلغتهم العامة ذات المرجعية الدينيّة، وفي الغالب الأعمّ دون إمكان التعريف بالاسم الدال والمكان الفعلي، لقد كان هناك انخراط في “اللعبة” الجمعية غالبا ما يثير الجميع، وحين نسمع التصوّف الكردي والشعر، فربما أمكن النظر في الجهة التي قدم منها التصوّف وترك بصمات له على هذا التصوّف حيث يكون الكرديّ معلوما باسمه ونسبه ومسقط رأسه، ولعله التعبير الكلامي الدالّ على أنّ المعبّر به وهو الشعر لم يزل بعد في طور التنقّل والترحال وهو مصغى إليه تبعا لإيقاعات ترد من الآخرين بمؤثّراته.
أما الباحث خالد جميل محمد، فهو كاتب كُردي من سورية، القامشلي، مواليد 1968. يحمل إجازة في اللغة العربية من كلية الآداب، جامعة حلب. يكتب باللغتين الكردية والعربية. يهتم بالدراسات الأدبية واللغوية. إضافة إلى عشرات المقالات والمحاضرات والمشاريع المُعَدَّة للطباعة، وله نتاجات منشورة، هي:
– “المجازفة في الكلام- بحث في آراء بعض الكتاب العرب في اللغة الكُردية”. 2001، دمشق.
– “الجزَريّ شاعر الحب والجَمال”- دراسة. 2006، دمشق. وقد تُرجم الكتاب إلى اللغة التركية أيضاً.
– “من قضايا المعجمية الكُردية”- دراسة. 2008، دمشق.
– “PIRTÛKA MIN”/ “كتابي”- كتاب تعليمي باللغة الكردية- بالاشتراك.
– “Qurbaniyên Gunehkariyê”- ترجمة كردية لرواية “رهائن الخطيئة” للروائي السوري هيثم حسين.
وقد أعلمني أنه يمتلك مسودة منهاج في اللغة العربية (الإملاء، الصرف، النحو)، كل منها في كتاب مستقل، كما ان لديه اشتغالات نقدية في الشعر العربي الحديث، كدراسته المطولة حول تقويض النظام اللغوي في الشعر العربي الحديث، يتناول فيها الحداثة الشعرية الغربية وأثرها على الشعر العربي الحديث، أو ” قصيدة النثر”. ولكن كما يقول الشاعر أحمد الخاني في كتابه الشهير “مموزين”: لقد كسدت بضاعتنا ولا أحد يشتري. وكما ورد في المقال السابق الذكر في “ضفة ثالثة” يقول صاحب المقال، عباس علي موسى، شارحاً كلام الخاني: إن الشعر بالكردية لا يلقى من يشتريه أو يعبأ به، وذلك كونها لغة غير ذي داعم سياسيّ. وهنا تكمن أحد أكبر مشاكل الجهل بالثقافة الكردية لدى أبنائها الذين لا يتقنون هذه اللغة، أمثالي وأمثال الكثير من الكتّاب الذين لا يعرفون الكتابة والتفكير سوى باللغة العربية، وبالتالي، فهو أحد أكبر أسباب هذا الاغتراب اللغوي والثقافي الذي نحياه، والذي نحتاج إلى كثير من الجهود الثقافية واللغوية، لردم هوة الخلافات والانقسامات بين الشعوب، وشعوب المنطقة على الأخص، لخلق فكرة المواطنة الثقافية، أو التعايش الفكري واللغوي.[1]